تأمّل
الحَكي
غسّان الحاج عبيد
كتران الحكي بِها الإيّام»، عبارةٌ قالها لي صديق زارني مؤَخَّرًا – وكنّا نُدردش في أحوال البلد وناسه - فأصابت منّي الوترَ الحسّاس - ذلك بأنّي أَنفُر من الحكي إذا كَثُر، والحال أنّه كَثُر في أوساطنا حتّى بات ظاهرة شبه مَرَضيّة – وحَرّكت في ذهني أفكارًا كانت كامنةً، فحاولتُ تجسيدها أسطرًا في هذه العجالة. وبعد.
معلومٌ أنّ الخطوة الأولى في أيّ علاج نفسيّ تَتمّ بأن يَدَع الطبيب المعالج مَريضَه يحكي. هذا هو المفتاح. المريض يحكي وطبيبه لا يتدخّل، لا يقاطعه. فقط يُصغي إليه، وفيما هو يُصغي يدوّن ملاحظاته واستنتاجاته. ما يعني أنّ الحكي حاجة عند الإنسان نفسيّة، إذ به يصرّف مكبوتاته الضاغطة (défoule) وينفّس عن احتقان يشدّ عليه الخناق. وإذا لم يستطع القيام بهذه العمليّة وحده يلجأ إلى طبيب متخصّص يساعده فيها. إنّه، في هذه الحال، يشبه المرأة الحامل التي، متى حان أوان ولادتها، تلجأ إلى طبيبها ليساعدها على عمليّة الوضع.
الإنسان، بعامّة، يحتاج إلى أن يحكي، وإذا حكى يحبّ أن يجد من يُصغي إليه. ثمّ، ولئن صحّ أنّ الحكي ليس الوسيلة التعبيريّة الوحيدة – إذ الإنسان يعبّر بعينَيه، بقَسمات وجهه وإشارات يديه، وحتّى بصَمتِه أحيانًا – إلاّ أنّه (أي الحكي) يبقى، بين هذه كلّها، الوسيلة الفُضلى التي بها يعبّر الإنسان عن نفسه، بها يكشف ذاته للآخرين، يُفصح عن ذاته، يترجمها. إنّ المنطق الذي به يحكي الإنسان يشفّ عن اتّزانه إنْ متّزنًا، أو خفّته إنْ خفيفًا؛ يعكس عمق تفكيره إنْ عميقًا أو سطحيّته إنْ سطحيًّا. الحكي، بعامّة، هو تُرجمان العقل والفكر، وهو، في كلّ حال، مَرصد حركة النفس في تَقلّباتها.
«ضروريّ نحكي»، «لازم نحكي»، «الأحد منحكي»... عبارات باتت اليوم شائعة، حتّى إنّ الكثير منها بات عناوين لبرامج تلفزيونيّة وإذاعيّة وغيرها. لقد بات الحكي ظاهرة، وهذه الظاهرة إن دَلّت على شيء فعلى أنّ الحكي شهوة في الإنسان تشبه الشهوات الأخرى. وإذا كان لكلّ شهوة في الإنسان ما يحرّكها فإنّ لشهوة الحكي فيه، لا سيّما في يومنا هذا، ما يحرّكها أيضًا ويغذّيها. فكثرة وسائل الإعلام – المرئيّة منها بخاصّة – ومعها وسائل التواصل الاجتماعيّ (وما أدراك ما هذه الوسائل وما خطرها الكامن) تُذكي شهوة الحكي عند الذين يحبّونه، وتحُلّ عُقد ألسنة كثيرة كانت، قبلًا، معقودة، وذلك على نحو بات يهدّد بتحوّل مجتمعاتنا، بل عالمنا المعاصر، إلى بابل جديدة (هذا إذا لم يكن قد تحوّل فعلًا). وعلاوةً على هذا أُضيف أنّ معظم الذين بات الحكي عندهم حرفةً إنّما يعوّضون به فراغًا يعيشونه على مستوى الكيان أو اضطرابًا داخليًّا. وبدلاً من أن يعوّضوا هذا الفراغ أو الاضطراب بعمل مفيد يجنون منه نفعًا لهم وللآخرين تراهم يعوّضونه بالحكي، وذلك لسببَين: أوّلهما أنّهم اعتادوا هذه الآفة الكبرى التي اسمها الكسل، وثانيهما أنّهم بالحكي يبدّدون الصمت – وهذا ما يريدونه – الذي يجعلهم في مواجهة مباشرة مع الذات، وهم، في التحليل النهائيّ، يخشون المواجهة، حتّى مع ذواتهم. فهؤلاء، إذًا، يعوّضون فراغهم، أو يسدّونه بالحكي ليجدوا أنفسهم، في النهاية، عالقين في حلقة مُفرَغة يصعب الخروج منها، إذ كُلّما حاولوا الخروج كُلّما رماهم الحكي في فراغ أكبر، وهكذا دواليك.
استطرادًا – ولكن ليس بعيدًا من السياق – أجسُر على الزعم أنّ الكنيسة نفسها كانت على قدر كبير من الحكمة الرعائيّة ومن الدراية بعمق النفس الإنسانيّة واحتياجاتها عندما رتّبت سرّ الاعتراف بالشكل الذي رتّبته به. إنّ هذا السرّ، بوصفه سرّ التوبة، هو، بطبيعة الحال وبالدرجة الأُولى، حاجة روحيّة، إذ به يُقرّ المعترف للأب المعرّف، وبواسطته للربّ يسوع المسيح، بذنوب اقترفها وآذى بها الآخرين، ونفسه قبل الآخرين، فيقوم هذا الأخير بحلّه منها باسم الربّ يسوع المسيح. هذا صحيح. ولكنّه أيضًا (أي الاعتراف)، ورُبّما بالقَدر ذاته، حاجة نفسيّة إذ به يبوح المعترف، للأب المعرّف بما كان يَحصُر، وبعمليّة البَوح هذه يرتاح لأنّه يكون قد رمى عنه، على كاهل السيّد، ثقلاً كان ضاغطًا؛ أَليس هو القائل: «تَعالَوا إليّ أيّها المتعَبون والثقيلةُ أحمالُهم وأنا أُريحكم» (متّى 28:11)؟
على كلّ حال، يبقى «الحكي» مقبولًا ولا مشكلة فيه ما دام ملتزمًا حدود اللياقة والمسؤوليّة. يصبح كريهًا ومَقيتًا متى خرج على هذه الحدود ليصبّ في خانة الكلام الذي لا طائل تحته، أي في خانة الثرثرة. والحقّ أنّ الحكي، إذا كثُر، سرعان ما يستحيل ثرثرةً. والثرثرة، إذا استفحلت ومَضى حَدُّها، قاتلة. في هذا السياق يقول الكاتب اللبنانيّ سعيد تقيّ الدِّين: «إذا أردت أن تقتل إنسانًا أَطلِق عليه شائعة». وقد نبّه السيّد، له المجد، رُسله الاِثني عشر إلى هذا الخطر إذ قال لهم: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد... بل خافوا، بالحريّ، من الذي يقدر على أن يُهلك النفس والجسد كلَيهما في جهنّم» (متّى 28:10).
ثمّ، من الأخطار الكامنة في شهوة الحكي – إذا استبدّت بصاحبها – أنّها تعطّل عنده الإصغاء؛ والإصغاء، لمن يُجيده، فنّ، بل وفضيلة. فمَنِ استبدّت به شهوة الحكي لا يُحسن الإصغاء لأنّه اعتاد، عمومًا، أن يُصغى إليه، أو أن يُصغي هو، لكن إلى صوته الداخليّ. ثمّ، إنّ الإصغاء، بقدر ما هو فنّ وفضيلة، هو ثقافة أيضًا. ويؤسفني القول إنّنا، في هذه البقعة من العالم، لم نمتلك هذه الثقافة كفاية. فنحن، بعامّة، ألفاظيّون، لأنّنا وَرَثة الخطابة، وهذه قلّما تحاكي العقل، في حين أنّ الثقافة هي حركة العقل في سعيه إلى امتلاك الفكر.
ثمّ إنّ الكلام على الإصغاء يقودنا، طبيعيًّا، إلى الكلام على الصمت، ذلك بأنّ حُسن الإصغاء يستوجب حُسن الصمت. وإذا كانت شهوة الحكي – كما وَصَّفناها آنفًا – بعضًا من نقيصة، فالصمت فضيلة. فقد وَهَبنا اللَّه أُذُنَين اثنتين وفمًا واحدًا لنصمت ونُصغي ضعف ما نحكي. يُعظّم الكاتب الفرنسيّ ألفرد دوڤيني الصمت فيقول: «وَحدَه الصمت كبير، وكلّ الباقي ضَعف»؛ ويشاطره الرأيَ الرّوائيُّ والفيلسوف الفرنسيّ ڤولتير إذ يقول: «الأكثر كلامًا هو الأقلّ معرفة». ولعلّ أهمّ ما في الصمت – أقول هذا كمؤمن مُصلٍّ – أنّه يسمح لنا بسماع صوت الربّ. في هذا السياق يحضرني، من الكتاب المقدّس، ما قاله عالي لصموئيل، قال له: «إذا دعاك الربّ تقول: تَكَلَّم يا ربّ، فإنّ عبدك سامع» (1صَموئيل 9:3). كلام عالي لصموئيل هذا كَم نحن بحاجة إليه! فَكَم من المرّات يكلّمنا الربّ – والحقّ أنّه يكلّمنا باستمرار – ولا نسمع صوته: إمّا لأنّنا صَمَمنا آذاننا عنه فما عُدنا نسمع إلّا صَوتنا الداخليّ، أو لأنّ حضارة الصوت والصورة، حضارة الصخب والضجيج، قد سَلَبتنا حواسّنا التي منها حاسّة الإصغاء الذي يستوجب الصمت، أو للاثنين معًا. إنّ أخطار الحكي – كما أَسلفنا – كثيرة وشديدة، لكنّ أكثرها شدّةً أنّه يحجب عنّا صوت الربّ. إنّ أوّل ما يتدرّب عليه الرهبان في قلاليهم ومناسكهم – من ضمن سلوكيّات وآداب كثيرة يتدرّبون عليها – هو الصمت؛ لذلك تراهم يُمارسون الخلوات التي فيها يعودون إلى ذواتهم ويكثّفون الصلوات، ليتسنّى لهم، في هَدأة الصلاة، أن يكونوا، على غرار صموئيل، في حالة إصغاء دائم لسماع صوت الربّ متى يكلّمهم.
نقرأ في أدب الرهبان أنّ الصمت لغة الملكوت. الرهبان يصمتون ليدَعُوا اللَّه يكلّمهم ويتكلّم فيهم. يصمتون ليذوقوا، في سكينة الصلاة والسجود، بعضًا من بهاء الملكوت. لكن، ولَئن كان الصمت إحدى الفضائل التي يتدرّب على اكتسابها الرهبان فيما هم يجتهدون في ارتقاء «سلّم الفضائل»، إلاّ أنّه ليس وَقفًا عليهم. فإذا كان الصمت مطلوبًا من الرهبان كثيرًا، أَفَما ينبغي أن يكون مطلوبًا منّا، نحن أيضًا، نحن الذين في العالم، ولَو بمقادير؟ n