شؤون كنسيّة
أمور لا بدّ من التزامها كي تنجح الحياة الديريّة
الأب منيف حمصي
لا بدّ لمن أراد النجاح في السيرة الملائكيّة، عنيت بذلك الرهبنة، من أن ينتبه إلى عدد من الأمور، كي ينجح في رهبنته أو رهبنتها:
١- على المريد، أو الداخل في الرهبنة، أن يلتزم الطاعة ويحبّها من كلّ القلب. لأنّ من لا يبني جهاده عليها، يفشل في كلّ مسعاه. أساس النجاح في السيرة الرهبانيّة، هو الطاعة والطاعة والطاعة. قد لا يرى المريد جدواها في معارج مسيرته الرهبانيّة، عندئذٍ فليفهم أنّه لن يوفق، ولن يرضى عنه الربّ. الطاعة هي بوّابة اقتناء فضائل الإنجيل، وبدونها لن يذوق الراهب، حتّى ولا النذر اليسير من سلام القلب، الوداعة، والتواضع. كما أنّه بدونها لا يمكن اقتناء العفّة، بكلّ أبعادها. بدون الطاعة لن يتقدّم المريد مهما صلّى ومهما ربط الليل بالنهار. فقد يأتي وقت يخال في أعماقه، وبإلحاح، أنّه أكثر فهمًا وعلمًا وشهادات من أبيه رئيس الدير أو من أمّها الرئيسة. قد يبدأ فيه الضغط الداخليّ، وبإلحاح، أنّ الأب الرئيس يزعجه، يهمّشه، يحتقره، أو يذلّه. قد يظنّ أنّ الأب الرئيس لا يسمح له بلقاء الناس، لأنّه لا يريده أن يبرز، أو أن يكون معروفًا على نحو ينسجم مع مواهبه وكفاءاته وربّما شهاداته. قد تولد فيه هذه النفخة لمجرّد أنّ صوته جميل، أو أنّه طويل القامة، أو يتمتّع بقوّة بدنيّة، وغير ذلك كثير، فلا أحد يقدر على أن يتصوّر كيف يفبرك إبليس ألاعيبه وحيله كي يضرب المريد. من هنا، فلكي يفلح في جهاده ومسيرته، ماعليه إلّا أن يطيع. لا بل عليه أن يفهم أنّ الطاعة ستكون شرط معرفته للمسيح ومحبّته له أيضًا.
٢- عليه أن يرفض دغدغات العالم التي تأتيه خلسة، ومن الأعماق بكلام آخر، إن كان لا يتصدّى لروح العالم في أعماقه، سوف يذوق سقطة ثانية، الأولى كانت عدم الطاعة، والثانية روح محبّة الأمور العالميّة. هنا يلفتني جدًّا القدّيس ثيوفان الحبيس الذي قال: وإبليس يجرّب أهل الأديار للنزول إلى العالم، والمتزوّجين، كي يذهبوا إلى الاديار. والفريقان لن يفلحا إذا أقدما على ذلك.
٣- العلاقة مع الجنس الآخر.
من يذهب إلى الدير، لا بدّ من ألّا تكون خطوته عن إكراه، أو لردّ فعل على أمر، أو ما شابه، فقاصد الدير للترهّب مدعوّ إلى أن يطوّر عشق قلبه كي يرى حوّاء مجرّد أخت له في المسيح. لا يجوز أن يبقى في أيّ ركن من أركان القلب مكان ولو صغير لعاطفة أو عشق حسّيّ. إنّ راهبًا يفرح بلقاء حوّاء والجلوس إليها، عن نزوة، في القلب، لا يصل إلى ذرى التكريس، فالراهب يعيش من الآن بحسب كلام الربّ:« هناك لا يزوّجون ولا يتزوّجون بل يكونون كملائكة اللَّه....».
٤- على المريد أن يفتّش بشوق عن كنوز قلبه، في إطار من الجغرافية الضيقة. الدير للعين الحسّيّة، عالم صغير، ليس فيه ضوضاء المدينة وأيّ من مغرياتها. الدير لزائر من المدينة، مكان مضجر يدفع المرء على عجل، إلى الهروب من الوقوف أمام النفس. من يريد الضجيج، ودغدغات الغرائز، لن يتقدّم في مسيرته الرهبانيّة.
٥- على المريد أن يتلهّف للقراءات الروحيّة. القراءات الروحيّة تهذب النفس، وتحلّي الجهاد، وتعزّي من يريد الوقوف على خبرات السلف من القدّيسين كي يكون لهم خلف صالح وابن للمسيح. وربّما يلزم الأب الرئيس أبناءه بقراءة هذا وذاك من الكتب، حينًا، لا بل ربّما يمنعه من هذا أو ذاك من الكتب، لمعرفته بأحوال نفسه. المطيع الحقيقيّ لا يرى في إملاءات الأب الرئيس إذلالًا وتحقيرًا، لأنّ كلّ شيء صالح للذين يحبون اللَّه، سيّما إن كنّا نقبله بطاعة ومحبّة مع رغبة في بنيان الإنسان الداخليّ.
٦- لا يستطيع المريد أن يهرب من محبّة الإخوة في الدير. لا بدّ من أن يحبّ الجميع حبّه لخلاص نفسه. وحبّه هذا، يتجلّى ويسطع بالجهوزيّة الدائمة لخدمة أيّ منهم في أيّ شكل من الأشكال. في الآخر سرّ تقدّمنا. في الآخر مرآة نفسنا. في الآخر، نترجم حبّنا للمسيح الذي بدونه لا نكون نحمل ولا جزءًا من المحبّة. محبّة الآخر تعزّي، محبّة الآخر تفتح القلب. محبّة الآخر تضعنا على سكّة التقدّم الحقيقيّ. لا محبّة للآخر، تعني لا محبّة للمسيح. الغيرة من الآخر، والإحساس بالجفاف تجاهه، لا بل عدم الرغبة في خدمته، تجعل كلّ فضيلة أمرًا بعيد المنال. أسوق مثلًا: راهب لا تبدو عليه أيّة مواهب، قد يستصعب أن يقدّم أيّة خدمة لراهب متألّق موهوب. ولكن مثل هذا التفكير غريب عن المسيح ولا يقبل به المسيح، ولا يقوم على مبدأ روحيّ البتّة. أنت مدعوّ إلى أن تحبّ إخوتك مهما كانت الفروقات بينك وبينهم. سرّ التفوّق يستوجب انفتاح القلب على الجميع لاحتضان الجميع، لأنّ الذي ينفتح على الإخوة تمحى خطاياه.
٧- على المريد أن يعرف أنّ سرّ الحبّ يكمن في سرّ الخدمة، وأنّ سرّ الخدمة الحقيقيّة هو من محبّة الإخوة. وهذا يعني أنّني مستعدّ لهذه المحبّة مهما جاءني منها، لأنّ الصبر الذي يمارسه راهب واحد، من شأنه أن يجعل الفرح الحقيقيّ رصيدًا عند الجميع. من يحبّ بدون شرط، إنّما يسهّل الجهاد على أخ يخشى الانفتاح. وأنت عندما تنفتح من الأعماق، فأنت تشجّع أخاك على انفتاح مماثل. قال القدّيس إغناطيوس بريانشانينوف: «ومن يحبّ الإخوة، هو أعظم من الملائكة».
٨- على المريد أن يسهر على نفسه كي تصير قلّايته جنّة عدن الحقيقيّة. القلّاية للراهب هي بيئته الأولى. إنّها حضن المسيح. إذا استطاع الراهب أن يبني سكينة قلبه في القلّاية، فإنّه من الآن قد وضع قدمه على عتبة الأبديّة. في القلّاية يكمن شوق القلب ومحبّة المسيح. القلّاية هي ورشة عمل الراهب. في القلّاية يجلس الراهب إلى نفسه ذاك الجلوس الذي لا يعرفه كثيرون من أهل العالم. في القلّاية يراقب المرء حركة أهوائه. من القلّاية تبدأ النقاوة الداخليّة والانتصار على الأهواء. إنّ راهبًا لا يحبّ السكينة، والهدوء القلبيّ، لا يمكنه البتّة أن يتقدّم في الارتقاءات الروحيّة. وهكذا، فالدير عالم صغير فيه كلّ كنوز الحياة الأبديّة. فيه يعاش حبّ المسيح، وحبّ الإخوة. كما وفيه نفهم أنّ الطاعة المفقودة في العالم الحاضر، هي مفتاح جميع البركات والتي بدونها ليس من كمال يرتجى، ولا من فرح أو غبطة. سرّ الأرثوذكسيّة هو في ديريّة ناجحة وشركة مجاهدة في المحبّة وغلبة التمزّق الكيانيّ الحاصل في الأعماق. سرّ عظمة الأرثوذكسيّة هو في الموت عن العالم، للقيامة مع المسيح. الديريّة الناجحة تلهم إلى رعاية ناجحة فيصير للمسيح أبناء كثيرون ويزدهر ملكوت اللَّه في كلّ آن. للمسيح المجد والتسبيح إلى الأبد آمين.