2017

5. سيرة قدّيسة: سيرة القدّيسة مطرونة المسكوبيّة (١٨٨١-٢ أيّار ١٩٥٢) - الأب سمعان (أبو حيدر) – العدد الخامس سنة 2017

 

 

سيرة القدّيسة مطرونة المسكوبيّة

 

الأب سمعان أبو حيدر

 

 

 

يقدّم إلينا هذا النموذج، المُستلّ من سيرة القدّيسة مطرونة المسكوبيّة (أعلنت الكنيسة الروسيّة قداستها في ٢ أيّار ١٩٩٩)، لمحةً عن قداسة شعب مؤمن عاش أثناء أزمنة اضطهاد فظيعة، زمن سقوط شعب اللَّه تحت سيطرة فكر الإلحاد وخضوع الملايين لاضطهاد الفلسفة المادّيّة بأعتى مظاهرها إبّان »الثورة البلشڤيّة«، ولاحقًا في ظل تأسيس الاتّحاد السوڤيتيّ والحرب الممنهجة ضدّ الكنيسة والمؤمنين. لا تصبو سيرة القدّيسة مطرونة، في ألوانها الأدبيّة، إلى إظهار »استثنائيّة« القداسة، بل، على العكس، إنّها تدلّ على قوّة اللَّه الحاضر في كنيسته، و»العجيب في قدّيسيه«. تُمثّل صورة مطرونة، التي ولدت عمياء، تحدّيًا لكلّ معاصريها الذين لديهم أعين ولا يُبصرون. أخبارُ إعاقتِها منذ مولدها، وشلِلها في سنٍّ مبكرة، تذكّر المؤمن بأنّ قوّة اللَّه »في الضعف تكمل«. سيرة مطرونة لا تتوخّى التركيز على »الخارق«، بل تدلّ القارئ إلى درب القداسة التي هي دعوتنا جميعًا. لذلك تراها لا تنسب إلى نفسها أيّ فضل في أيّ شيء يجري على يدها أو يسمح لها اللَّه بأن تكشفه. لا، بل كانت، بحسب كاتب سيرتها، تحرص على الصلوات المتواترة، وتحضّ الناس على التوبة والمساهمة في القدسات. »الخارق« في قصّتها أنّها كانت داعية إلى الإيمان، تعيش متنقّلة في موسكو عاصمة الاتّحاد السوڤيتيّ آنذاك، عصيّة على الشرطة طوال حياتها. القدّيسة مطرونة، على فرادتها، صورة عن كثيرين كانوا حجارًا حيّةً في كنيسة »لن تقوى أبواب الجحيم عليها«. 

وُلدت القدّيسة مطرونة المسكوبيّة العجائبيّة (مطرونة ديمترييفنا نيكانوفا) في العام ١٨٨١، لوالدين شديدي الفقر من طبقة الفلاّحين هما ديمتري ونتاليا نيكانوف، في قرية »سيبينو« - مقاطعة تولا - والتي تبعد نحو ٣٠٠ كم إلى الجنوب من موسكو. كان للعائلة أربعة أولاد، إيفان وميخائيل وماريّا ومطرونة.

عاشت عائلة نيكانوف في فقر مدقع لدرجة أنّ مجرّد فكرة إطعام طفل رابع وكسوته بدت مستحيلة، حتّى قبل ولادة الطفلة مطرونة، كانت نتاليا قد قرّرت إرسالها إلى ميتم تحت رعاية الأمير غوليتسين في قرية »بوخالكي« المجاورة حيث كانوا يستقبلون الأيتام، والأولاد غير الشرعييّن والمشرّدين، لتربيتهم على نفقة الأمير. وما لبثت والدتها أن غيّرت رأيها بعد وقت قصير، وذلك بعد أن حلمت حُلمًا نبويًّا ظهرت فيه ابنتها التي لم تولد بعد، على شكل طائرٍ أبيض مجلببٍ بجمالٍ سماويٍّ، مع وجهٍ إنسانيٍّ وعينين مغلقتين، وهو متمسّكٌ بشدّةً بذراعها. ولأنّها كانت امرأة تعيش بخوف اللَّه، فقد تقبّلت نتاليا الحلم كعلامة إلهيّة وقرّرت الاحتفاظ بطفلتها التي وُلدت بالفعل عمياء بالكلّيّة، فقد كان جفنا الطفلة مطرونة محكمي الإغلاق على مُقلتين فارغتين تمامًا. وكانت للطفلة وحمة منذ ولادتها، وهي نتوء على شكل صليب في أعلى صدرها. فرحت أمّها بها واعتبرتها علامة من اللَّه.

وقد أخبَر بافل إيفانوفيتش بروخوروف، أحد أقارب العائلة، عن يوم معموديّة مطرونة (سُمّيت مطرونة تيمّنًا بالقدّيسة الناسكة مطرونة القسطنطينيّة من القرن الخامس ويُحتفل بعيدها في ٩ تشرين الثاني): »عندما غطّسها الكاهن في جرن الماء، لاحظ الحاضرون عمود دخان خفيف فوق الطفلة، وانبعثت رائحة طيب زكيّة«. الكاهن المعمِّد الأب فاسيلي، كاهن الرعيّة كان رجلاً بارًّا ومحتَرَمًا في رعيّته؛ أعلن قائلاً: »لقد عمّدت الكثيرين، لكنّي لم أرَ مثيلاً لذلك أبدًا. هذه الطفلة مبارَكة بنعمة إلهيّة. لا تتردّدوا بطلب أيّ أمر قد تحتاج إليه الطفلة«!

في زمانٍ كانت فيه مطرونة لا تزال رضيعة، اشتكت أمّها أمام إحدى الأقارب قائلة: »ماذا أفعل؟ الفتاة لا ترضع الثدي يومي الأربعاء والجمعة. وفي هذين اليومين تنام كلّ الوقت ويستحيل إيقاظها من نومها«(١)!

وعندما بدأت تمشي كانت غالبًا ما تتعرّض للهزء والسخرية من أطفال القرية، الذين كانوا يرمون عليها ثمار القرّيص عالمين أنّها لا تبصر. وقد وضعوها مرّة في حفرة في الأرض وجلسوا يشاهدونها تتلّمس طريقها زاحفة من الحفرة إلى المنزل. وبسبب هذه الألعاب القاسية، لازمت مطرونة البيت وصارت لا تخرج للعب مع الأولاد.

كان منزل عائلة نيكانوف قريبًا من كنيسة جميلة مكرّسة لعيد رقاد والدة الإله، وهي تخدم نحو سبع أو ثماني قرى مجاورة. ولأنّ والديها كانا معروفين بتقواهما ومواظبتهما على الصلوات في الكنيسة، فقد تربّت مطرونة في الكنيسة. عندما كانت نتاليا تضيّع ابنتها الصغيرة، كانت تجدها في الكنيسة في مكانها المعتاد واقفة بهدوء خلف الباب عن يسار المدخل بالقرب من الحائط الغربيّ. لقد حفظت مطرونة الصلوات والتراتيل التي كانت تشارك الجوقةَ في تأديتها وقوفًا من مكانها.

وهي في سنّ السادسة أو السابعة، ورغم عماها الجسديّ، ظهرت عليها علامات نعمة غير عاديّة من البصيرة، لتمييز أمراض النفس والجسد لدى العديد من الناس الذين كانوا يزورونها، وكانت تكشف لهم خطاياهم السرّيّة ومشاكلهم. وعبر صلواتها، تلقّى العديد من الناس نعمة الشفاء من المرض والتعزية في الأحزان. وسرعان ما انتشر خبرها فتوافد الناس إليها من القرى المجاورة، ولاحقًا من مناطق ومقاطعات بعيدة سيرًا على الأقدام أو بالعربات. صلّت مطرونة غالبًا للمطروحين في الأمراض، والذين كانوا بمساعدة صلواتها يقفون على أرجلهم خارج فراشهم أصحّاء. وكتعبير عن امتنانهم، كان بعضهم يترك الأطعمة والهدايا لوالديها. وهكذا بدلاً من أن تكون مطرونة عالة عليهما صارت لهما المعيل الرئيس.

عندما كانت في عمر الرابعة عشرة، اصطحبتها متبرّعة تقيّة، وهي ليديا يانكوفا ابنة الإقطاعيّ صاحب قريتها، إلى رحلة حجّ الى الأماكن المقدّسة في روسيا. فزارتا اللافرا الكبيرة في كييف-بيتشرسك، ولافرا الثالوث القدّوس-القدّيس سرجيوس في سيرجييف بوساد، ومدينة بطرسبورج وأماكن أخرى في روسيا. وعند وصولهما إلى كرونشتادت تاهتا وسط الناس المحتشدين لنيل بركة الأب يوحنّا (القدّيس يوحنّا كرونشتادت لاحقًا). ولكن بغتة، سكت الجمع، وبُهتوا عند سماع صوت (القدّيس) يوحنّا يهتف: »تعالي يا مطرونة! هذه خليفتي، التي ستصير أحد الأعمدة الثمانية في روسيا!«. وبالطبع لم يفهم أحد، في ذلك الوقت، معنى هذه النبوءة.

عندما بلغت السابعة عشرة من عمرها أصيبت مطرونة بالشلل، وعادت لا تقدر على المشي (توقّفت رجلاها عن النموّ منذ طفولتها). مطرونة لم تتذمّر يومًا من شللها ولكنّها تقبّلت مشيئة اللَّه، وشكرته في حياتها. لبقيَّة حياتها، ولأكثر من خمسين عامًا، عاشت في غرفة تكسو جدرانها الأيقونات. وكانت تتربّع في فراشها الصغير. وبوجه مشعّ، وصوت هادئ لطيف، تستقبل زوّارها الذين كانوا يتوافدون إليها بحثًا عن تعزية إلهيّة عبرها. لقد رأت وأنبأت بالمصاعب العظيمة التي ستصيب البلاد بعد الثورة البولشڤيّة، ووضعت نعمة بصيرتها في خدمة شعب اللَّه.

وفي تلك الحقبة تقريبًا، ذاع خبر مطرونة في كلّ المنطقة وتخومها، حتّى إنّ طلباتها كان يُنظر إليها كنعمة خاصّة. فهي طلبت أن تُرسم أيقونة معيّنة لوالدة الإله لكنيسة الرقاد في قريتها. وهذا حدث عندما كلّمت الفتاة العمياء أمّها نتاليا، وطلبت منها أن تطلب من كاهن الرعيّة أن ينظر في كتاب معيّن موجود على أحد رفوف مكتبته حيث توجد فيه صورة لأيقونة السيّدة »طالبة الضالّين«. دُهِشَ الكاهن عندما وجد الصورة في المكان الذي دلّت إليه مطرونة. أمّا هي، ففرحت بها كثيرًا، وقرّرت أن يُصار إلى رسم أيقونة جديدة على نمط الصورة التي كانت في الكتاب. راقبت نتاليا حماسة ابنتها بحزن. كيف يمكن لهم تكبّد مصاريف كهذه وهم قوم مُعدمون؟ وكانت مطرونة، في كلّ مرّة، تخبر أمّها عن حلم يراودها حول أيقونة »طالبة الضالّين«، وتقول لها إنّ والدة الإله تريد أن تأتي إلى كنيستنا. وأمام إلحاح مطرونة قرّرت نساء القرية جمع التبرّعات لرسم الأيقونة. وكان من بين المتبرّعين رجل قدّم »روبل« على مضض، وأخوه الذي قدّم قرشًا من باب السخرية. وعند اكتمال المبلغ وإحضاره إلى مطرونة، مدّت يدها وسحبت الروبل والقرش منه وطلبت من أمها إعادتهما إلى صاحبيهما لأنّهما يفسدان المشروع! بعد هذا وُضعت طلبيّة لرسم الأيقونة لدى رسّّام من منطقة إيبيفانيا. عند حضوره، سألته مطرونة إذا كان قادرًا أن يكتب الأيقونة، فأجاب بأنّ هذا الأمر بسيط، وهو أمر يمارسه عادة. فطلبت منه عندئذٍ أن يذهب للاعتراف والمشاركة في المناولة الإلهيّة. وسألته لاحقًا: »هل تجزم قاطعًا أنّك قادر على أن تكتب الأيقونة«؟ وعندما ردّ إيجابًا، باشر العمل فورًا. ولكن بعد مرور بعض الزمن، عاد إليها متشكّيًا بأنّ لا شيء ينتج في مشروع الرسم هذا! فبادرته »اذهب وتُب عن خطاياك أوّلاً«، لأنّها عاينت في بصيرتها الروحيّة أنّ خطيئة لم يعترف بها ما زالت حاضرة أمامه. عندما سمع كلامها هذا تعجَّب وذهب فورًا إلى الكاهن، فاعترف وشارك في القدسات وطلب منها المغفرة. فأجابته: »اذهب الآن وارسم أيقونة الملكة السماويّة«. رُسمت الأيقونة في العام ١٩١٥. وبعد الثورة، احتفظت مطرونة بها حياتها كلّها. هذه الأيقونة موضوعة اليوم في مزار بالقرب من رفاتها في موسكو داخل دير »حماية زنّار والدة الإله« للراهبات في منطقة تاغانسكايا، موسكو.

ببركة مطرونة وتشجيعها، جرى جمع مبلغ جديد، ورسم نسخة أخرى من أيقونة »طالبة الضالّين« قرية بوغوروديتسا (معنى الاسم: والدة الإله). الأيقونة موجودة اليوم في دير رقاد والدة الإله في مدينة نوفو موسكوفسك في مقاطعة تولا. ولاقت هذه الأيقونة تكريم سكّان المنطقة، فباركهم اللَّه بآيات عديدة عبرها.

في العام ١٩٢٥ انتقلت مطرونة إلى موسكو. وبعد وفاة والدتها السنة ١٩٤٥، صارت تتنقّل للسكن سرّيًّا في بيوت المؤمنين. وذلك بأنّ الشيوعيّين أرادوا حبسها لخوفهم من تأثيرها في المؤمنين، ما لا يتناسب مع دعاية الإلحاد لديهم. لذلك وبسبب معرفتها المسبقة، كانت دائمًا متقدّمة على الشرطة التي كانت تصل متأخّرةً ساعةً أو ساعتين من بعد انتقالها إلى مكان جديد. في إحدى المرّات، عندما وصل شرطيّ لاعتقالها، نصحته بالعودة إلى منزله في أسرع وقت ممكن، ووعدته أنّها لن تسعى إلى الهروب. وعندما وصل الرجل إلى منزله، اكتشف أنّ زوجته كانت محتجزة بالنار داخل البيت، وأنّه قد وصل في الوقت المناسب لنقلها إلى المستشفى.

عاشت القدّيسة مطرونة حياة نُسكيّة وهي على فراش الآلام حيث أمضت حياتها. كانت تلتزم بأصوام صارمة، ولا تنام إلاّ قليلاً فقد كانت تلقي برأسها على صدرها للنوم وهي جالسة في فراشها. وكانت تعلو جبهتَها الكدماتُ بسبب تكرار إشارات الصليب التي لا تُحصى، والتي كانت ترسمها كلّ يوم. لم يكن الموسكوف وحدهم يحتشدون من حولها لطلب مشورتها وصلواتها، بل أيضًا الناس البعيدون، من جميع الأعمار والظروف. وبهذه الطريقة أصبحت حقًّا دعمًا للشعب المنكوب، وبخاصة خلال الحرب العالميّة الثانية. وعندما كان الناس يأتون إليها لطلب أنباء عن أقاربهم في الحرب، كانت تُطَمْئِن بعضهم وتوصي الآخرين بإقامة خدمة النياحة للراقدين منهم. وقد تحدّثت إلى البعض مباشرة، والى آخرين بواسطة الأمثال، واضعة نصب عينيها الإرشاد الروحيّ، والتشديد على الحفاظ على قوانين الكنيسة، كالزواج الكنسيّ، والالتزام بالاعتراف أمام الكهنة، والمناولة الإلهيّة. وعندما كانوا يُحضِرون إليها المرضى، والمعذّبين من الأرواح الشريرة، كانت تضع يديها على رؤوسهم، وتتلو صلوات عدّة فتطرد الشياطين بسلطان. وأصرّت دائمًا على عدم نسبة شيء إلى نفسها، بل إلى اللَّه العامل الشفاء بوساطتها. وعندما سُئلت عن سبب تعرّض الكنيسة لمثل هذه الاضطهادات العظيمة، أجابت بأنّ ذلك يحدث بسبب خطايا المسيحيّين، وانعدام إيمانهم. وأضافت: »إنّ جميع الشعوب التى ابتعدت عن اللَّه اختفت عن وجه الأرض«. »الأيّام الصعبة كثيرة، ولكن نحن المسيحيّين يجب أن نختار الصليب. المسيح قد ربطنا على هذا المسار، وقال إنّه سوف يأخذنا إلى حيث يشاء«.

وأشارت زنيدا زدانوفا إلى مثالٍ أكثر وضوحًا عن موهبة البصيرة لدى مطرونة: »ماتوشكا (أي أمّنا) كانت أمّيّة غير متعلّمة، ولكنّها في الوقت عينه تعرف كلّ شيء. في العام ١٩٤٦، كنت أناقش مشروع أطروحتي حول التصميم المعماريّ لوزارة البحريّة (كنت أدرس في معهد معماريّ في موسكو). لم أكن أفهم لماذا كان المشرف على أطروحتي يكرهني ولا يطيق مشروعي. حتّى إنّه لمدّة خمسة أشهر لم يتشاور معي ولو لمرّة واحدة، وقرّر بالفعل إفشال مشروعي. وقبل أسبوعين من موعد مناقشة الأطروحة قال لي: »ستصل اللجنة غدًا وتعلن عدم قيمة عملِك! أنتِ لن تصلي حتّى الى مرحلة الدفاع عن المشروع!«. عُدت إلى البيت والدموع تترقرق في عينيّ - كان أبي مسجونًا، ولم يكن هناك أحد للمساعدة، وأمّي تعتمد عليّ. وكان أملنا الوحيد أن أكمل تعليمي الجامعيّ بنجاح للحصول على وظيفة. بعد ظهر ذلك اليوم، استمعت مطرونة شكواي بانتباه، وقالت: »لا تقلقي، لا تقلقي، سوف تنجحين في امتحانك! سوف نتحدّث الليلة عن ذلك عند تناول الشاي«! لم أستطع الانتظار حتّى المساء، وعندما انضممت إليها، قالت: »سوف أذهب معكِ إلى إيطاليا، إلى فلورنسا، وإلى روما وسنرى أعمال الأساتذة الكبار!«. وبدأت بتعداد الشوارع والمباني! ثمّ توقّفت عند نقطة واحدة: »ها، بلازيو بيتي وهنا قصر آخر مع القناطر، على غرار الذي في عملكِ - مبنى من ثلاثة مستويات سفليّة من الحجارة الضخمة، ومدخلين من القناطر المقوّسة«. وتحدّثت بالتفصيل عن عناصر المبنى المعماريّة، وصُدمتُ بمعرفتها موضوع الاختصاص المعماريّ. في الصباح ذهبتُ إلى المعهد، وباستخدام الورق الشفّاف والحبر البنّيّ، رسمت التعديلات معتمدة على كلّ ما قالته ماتوشكا. وجاءت اللجنة عند الساعة العاشرة. نظر أعضاؤها إلى مشروعي وقالوا: »هكذا إذًا، جاء مشروعك بشكل جيّد، يبدو ممتازًا - إمضي قدمًا لمناقشته«!…

عندما كانت ما تزال يافعة السنّ، تنبّأت مطرونة بالثورة الروسيّة العام ١٩١٧. »سوف يكون هناك نهب وتدمير للكنائس، وسوف يتعرّض الجميع للاضطهاد«. ووصفت بشكل صوريّ كيف أنّ الأرض سوف تُؤمّم عشوائيًّا. وبغية تمليك من لا أرض لهم، ستُسلب الأراضي من أصحابها حتّى الفقراء منهم. ثمّ سوف يتخلّون عن الأرض ويهربون في كلّ اتّجاه. وفي النهاية، ستكون الأرض غير مُجدية لأيّ شخص«. وهكذا، رأت مطرونة مُسبقًا البرنامج الثوريّ لإعادة توزيع الأراضي، الذي حرم الكثير من الفقراء أراضيهم. الإلحاد المسلّح، ونموّ الغضب والكراهية، ورفض الملايين من الناس، الإيمان التقليديّ، والحياة من دون توبة، كلّ هذا الأمور من شأنها أن تؤدّي إلى عواقب روحيّة ثقيلة. شعرت مطرونة بهذا وفهمته جيّدًا. وفي أيّام المظاهرات السياسيّة، حثّت الجميع على عدم الخروج، وحضّتهم على إغلاق نوافذهم وأبوابهم. وقالت: »جحافل من الشياطين، احتلّت المنطقة بأكملها، وملأ الهواء المزعج الناس«. ربّما، أرادت المباركة مطرونة هنا، وهي غالبًا ما تتكلّم بطريقة رمزيّة، أن تُذكِّرَ مَن حولها بالحاجة إلى حراسة »نوافذ الروح« -كما كان الآباء في بعض الأحيان يُسمّون الحواسّّ- من الأرواح الشريرة.

بالعودة إلى السنوات التي أعقبت الثورة، سألت زنيدا زدانوفا مرّة مطرونة: »كيف يمكن للَّه أن يسمح بإغلاق العديد من الكنائس وتدميرها؟«. فأجابت ماتوشكا: »إنّها إرادة اللَّه لتقليل عدد الكنائس لأنّه سيكون هناك عدد قليل من المؤمنين، ولن يوجد أحد لخدمته«. وفي وقت لاحق، أضافت: »كأنّ الناس تحت التنويم المغناطيسيّ، فهم ليسوا على سجيّتهم، وقد ظهرت سلطة رهيبة إلى حيّز الوجود«. هذه القوّة موجودة في الهواء وتخترق كلّ شيء الآن: "في الأزمنة السابقة كانت المستنقعات والغابات التي لا يمكن اختراقها، هي مساكن هذه القوى لأنّ الناس كانوا يذهبون إلى الكنائس، ويعلّقون الصلبان ويحصّنون منازلهم بالأيقونات ويباركونها بقناديل الصلاة. في السابق، كانت الشياطين تحوم فقط بالقرب من هذه المنازل، وأمّا الآن فإنّها تعيش في كلٍّ من المنازل والناس بسبب الكفر والتحوّل عن اللَّه«.

قبل الثورة، نصحت مطرونة الإقطاعيّ يانكوف، مالك الأراضي في قريتهم سيبينو، ببيع كلّ شيء والهجرة إلى الخارج. ولو أنّه استمع إلى كلامها، لما شهد نهب ممتلكاته، ولتجنّب موته بعد وقت قريب، ووفّر على ابنته ليديا حياة التشرّد.

وقالت إيفغينيا إيفانوفنا كلاشنيكوفا، إحدى سكّان قرية مطرونة، إنّه قبل الثورة اشترت بارونة غنيّة منزلاً في قرية سيبينو وأخبرت مطرونة: »أريد أن أبني برج أجراس للكنيسة«.

»الذي تخطّطون للقيام به لن يتحقّق!«، أجابت مطرونة. فوجئت البارونة: "لماذا لن يتحقّق، وأنا لديّ المال والموارد اللازمة؟« ولكن كان الأمر كذلك - لم يبصر مشروعها النور، إذ عطّلت الثورة كلّ شيء…

كتبت زنيدا زدانوفا في مذكّراتها: »من كانت مطرونة، بالضبط؟«. ماتوشكا« كانت ملاكًا متجسّدًا - محاربة في معركة مع قوى الشرّ - كانت كما لو أنّها تحمل سيفًا ملتهبًا في يديها. كانت تملك موهبة الأشفية عبر صلواتها واستعمال المياه المقدّسة، كانت صغيرة، مثل الطفلة، وغالبًا ما تميل على جانبها متّكئة على قبضة لها مشدودة. وتنام بهذه الطريقة أيضًا، من دون أن تستلقي بالفعل. عندما كانت تستقبل الناس، كانت تتربّع في جلستها على رجليها. وتضع يديها على رأس الشخص الراكع أمامها، وتصنع علامة الصليب عليه، مصلّية له، ثمّ تقول له كلّ ما هو ضروريّ لروحه. بدا أنّ ماتوشكا كانت تعرف كلّ ما كان مزمعًا أن يحدث قبل أوانه. في كلّ يوم من أيّام حياتها كان هناك تيّار من الحزن والأسى يتدفّق إليها من أولئك الذين يأتونها. كانت تمسك برأس الشخص المفرط بالبكاء بيديها كلتيهما، متألّمة معه، لكي تدفئه بحرارة قداستها. فكان الشخص يترك أحماله ويغادر كما لو أنّه على أجنحة، كما أنّ الكثير من الأشفية جرت نتيجة صلواتها. مطرونة نفسها كانت في كثير من الأحيان مُستنزَفة. لقد تنهّدت بشدّة وصلّت طوال الليالي. برزَ نتوء صغيرٌ على جبينها من جرّاء أصابعها التي كانت ترسم إشارة الصليب مرّاتٍ لا تُحصى. كانت ترسم إشارة الصليب ببطء، وعناية، وكأنّ أصابعها تبحث عن هذا المكان المميّز على جبينها«.

بعد أن أنبأت بيوم رقادها، أعطت تعليمات حول جنازتها. وقبل أن ترقد بسلام في ١٩ نيسان ١٩٥٢ (٢ أيّار بحسب الروزنامة القديمة)، صرخت: »تعالوا، كلّ واحد منكم، وأخبروني عن مشاكلكم كما لو كنتُ لا أزال على قيد الحياة! سأراكم، سوف أسمعكم، وسأحضر إلى مساعدتكم«. تضاعفت المعجزات عند ضريحها، ومنذ نقل رفاتها إلى دير حماية زنّار والدة الأله للراهبات في موسكو (١٣ آذار ١٩٨٩)، والمؤمنون يصطفّون بالآلاف للتبرّك بحامية موسكو الجديدة. وهم يتوجّهون إلى أيقونتها جالبين لها مشاكلهم المختلفة، كما لو أنّ القدّيسة مطرونة على قيد الحياة أمامهم.

أعلنت الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة قداسة مطرونة المباركة في الثاني من أيّار ١٩٩٩ من قبل البطريرك الروسيّ ألكسي الثاني. وكُرّس ضريحها حيث نقل رفاتها الى دير بوكروف للراهبات (حماية زنّار والدة الإله)، في شارع تاغانسكايا، موسكو.

صلواتها وشفاعاتها تكون معنا.l


© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search