قراءات في وجه «إبراهيم» في الكتاب
نقولا أبو مراد
مقدّمة
يحظى إبراهيم في الأوساط العلميّة وغير العلميّة باهتمام كبير، إذ يندر ألاّ يصدر كلّ عام عدد من الدراسات أو التأمّلات التي تتناوله وتتناول دوره في تاريخ الخلاص. تكمن أهمّيّة شخص إبراهيم في أنّ توحيده كان نموذجًا دينيًّا تبنّته اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، ما جعل من إبراهيم وجهًا دينيًّا فريدًا، تتخطّى أهميّته حدود الأديان.
غير أنّ بحثي لن يكون ذا طبيعة تاريخيّة. كما أنّني لا أبغي أن أشير إلى الميزات الروحيّة الأساسيّة في شخص إبراهيم في مختلف التقاليد الدينيّة، مع أنّ الجزء الأوّل من عنوان هذه الدراسة يوحي بهذا. ما أريده في هذه المقالة هو أن أبيّن وظيفة قصّة إبراهيم أو دورة إبراهيم كما يسمّيها البعض في كتاب التكوين بشكل خاصّ، وفي العهد القديم بشكل عامّ. الطرح الذي سوف أحاول تبيانه هو أنّ قصّة إبراهيم هي رواية تصف »إقامة« العهد الجديد الذي يتحدّث عنه الأنبياء، وخصوصًا إرميا وحزقيال. فقناعتي أنّ العهد الجديد، الذي أقامه اللَّه مع إبراهيم، تحقّق في يسوع المسيح وبه.
للوهلة الأولى لا يبدو هذا لافتًا. فقد اعتدنا استعمال شخص إبراهيم بشكل »مطّاط« جدًّا لتبرير هذا التيار الدينيّ أو ذاك أو دعمه. من هنا سوف يظنّ بعض قرّائي أنّ مقالتي إنّما هي محاولة لربط العهد الجديد بالعهد القديم تشبه أيّ محاولة أخرى لربط أيّ تيّار دينيّ بشخص إبراهيم. خلافًا لهذه التوقّعات لن أنطلق من العهد الجديد كما يفعل بعض الذين يفسّرون قصّة إبراهيم من منظور مسيحيّ. سوف أنطلق في دراستي هذه من نصّ العهد القديم عينه. أمّا سبب هذا الخيار المنهجيّ، فهو قناعتي بأنّ ما يقوله العهد الجديد، خصوصًا في رسالتي بولس الرسول إلى رومية وغلاطية، في وظيفة قصّة إبراهيم، لم يبتكره كتّابه، بل إنّ العهد القديم عينه يقدّم إبراهيم على هذا النحو.
دورة إبراهيم في كتاب التكوين
دورة إبراهيم في كتاب التكوين جزء من سياق أوسع نسمّيه قصص الآباء. تروي هذه القصص، التي تشكّل الجزء الأكبر من كتاب التكوين، أحداثًا ترتبط بثلاثة أشخاص: إبراهيم وإسحق ويعقوب. حاول الكثيرون أن يكتشفوا وظيفة قصّة إبراهيم بخاصّة، ووظيفة قصص الآباء بعامّة، في سياقها الأوسع خارج كتاب التكوين. عند ك. وسترمان، الذي كتب أهمّ تفاسير كتاب التكوين حتى الآن، تتحدّث هذه القصص عن العناصر الأساسيّة للمجتمع البشريّ، مبيّنة أنّ الخلافات هي جزء من الوجود الأخويّ. يقول إنّ هذه القصص تعبّر عن أهمّ معاني العائلة بالنسبة إلى كلّ الأشكال الاجتماعيّة الأخرى: علاقة الأب بالأولاد (في قصّة إبراهيم)، وعلاقة الأخ بالأخ (في قصّة يعقوب وعيسو)، وعلاقة عدد من أعضاء العائلة بعضهم ببعض (مثل قصّة الإخوة الاثني عشر). وهي تربط عنده الأجيال التي تعيش في الحاضر بالآباء ومصيرهم.
ليس من إجماع عند العلماء حول كيفيّة نشوء هذه القصص. ففيما ينسبها البعض إلى مرحلة انتقال شفويّة سابقة تعود إلى الآباء أنفسهم، يعتبرها البعض من »ابتكار« مرحلة أدبيّة متأخّرة (فلهاوسن ومدرسته). أمّا النظرة التي يقبلها معظم العلماء اليوم، فمبنيّة على ما ندعوه مقاربة نقد المصادر. تنسب هذه النظرة التقليد المكتوب لقصص الآباء إلى ثلاث مدارس، أو ثلاث مجموعات من ناقلي التقاليد: المدرسة اليهويّة، وهي تضمّ لاهوتيّي الفترة الملكيّة، والمدرسة الإلوهيّة، وهي تضمّ ناقلي تقاليد من الفترة الملكيّة اللاحقة، والمدرسة الكهنوتيّة، وهي تضمّ كاتبي التقاليد في فترة السبي. يشدّد المفسّرون الذين يتبنّون هذه المقاربة على أنّ المحرّرين، في نقلهم ما كانوا تسلّموه هم إلى معاصريهم من السامعين والقرّاء، كانوا يوجّهون رسالة تتعلّق بالأوضاع القائمة.
يرفض وسترمان التشديد التفسيريّ على واحدة من هذه المدارس دون غيرها، بقراءة قصص الآباء من منظور أحاديّ، ذلك بأنّ فهمنا هذه القصص، وخصوصًا شخص إبراهيم، كما يقول وسترمان، لا يكتمل إذا ما قيّدنا أنفسنا بتقليد واحد أو مدرسة واحدة. نظرة وسترمان هذه مبنيّة على تفسيره المراحل المختلفة للتقليد المرتبط بقصّة إبراهيم. نقطة الانطلاق لكلّ التقاليد، هي أنّ إبراهيم كان أبًا، وهي فكرة تعود إلى الفترة الآبائيّة عينها، بحسب وسترمان. »أبوّة إبراهيم البدئيّة هذه«، تمّ تفسيرها وتوسيعها على يد محرّرين لاحقين، ليصير إبراهيم »أبًا لإسرائيل« بالنسبة إلى محرّري الفترة الملكيّة، و»أبًا للإيمان« بالنسبة إلى المحرّرين الكهنوتيّين في فترة السبي. وهكذا لا يمكن حدّ إبراهيم، في طرح وسترمان، بخطّ تفسيريّ واحد. فهو ليس أبا شعب واحد، لأنّ النصّ يقول عنه إنّه ولد شعوبًا أخرى كثيرة (المعنيّون هنا هم إسماعيل وأولاد إبراهيم من قطّورة). وما هو بمؤسّّس دين واحد، لأنّه كان ذا دين يختلف عن دين إسرائيل. ولهذا يمكن لإبراهيم، بحسب وسترمان، أن يكون أبًا لليهود والمسيحيّين والمسلمين، على حدّ سواء.
من جهة، تبدو نظريّة وسترمان مهمّة. إلاّ أنّها تقدّم لنا، من جهة أخرى، بعض المصاعب: 1) من غير أن نقصي إمكانيّة أن تكون بعض أجزاء قصّة إبراهيم تعود إلى فترة سابقة، لا يمكن لأيّ منّا بلوغ اليقين التامّ حول أيّ من النصوص هي التي تعود إلى هذه الفترة. وسترمان نفسه يقرّ بأنّ ما يدلي به لا يدّعي أن يكون أكيدًا بالمطلق. إذا كانت هذه هي الحال، يبقى طرحه المتعلّق ببنوّة إبراهيم مجرّد افتراض، لا يمكن تبريره تبريرًا تامًّا. 2) مقاربة وسترمان، المبنيّة على مسح شامل لكلّ التقاليد المرتبطة بإبراهيم، لا تأخذ بالاعتبار أنّ نصّ القصّة، كما نعرفه اليوم، أنتجه المحرّرون الأخيرون للعهد القديم، كقصّة واحدة متكاملة. هذا يعني أنّ المحرّر الأخير للتكوين 12- 50، ولو كان مدركًا معنى التقاليد السابقة والقصد منها، إلاّ أنّه أعاد تحرير ما تسلّمه وتشكيله، ليجعله قصّة واحدة متكاملة، ينبغي أن تقرأ، وتاليًا أن تفسّر وتفهم، كما هي. لا يعني هذا مطلقًا أنّي أدعو قرّائي الآن إلى تبنّي قراءة أحاديّة للنصّ، بل على العكس، ما أريد أن ألفت إليه هو أنّ المفسّرين الحديثين لا يعطون المحرّرين الأخيرين للنصّ البيبليّ أهمّيّة كبيرة، مع أنّ عمل هؤلاء هو في منتهى الأهمّيّة، وهو مركزيّ جدًّا. فهم الذين قرأوا كلّ ما تسلّموه من سابقيهم من وجهة نظر غير مرتبطة بوضع من الأوضاع، بل على خلفيّة واسعة لأنّهم أرادوا أن يجعلوا النصّ منطبقًا على كلّ أجيال السامعين والقرّاء في المستقبل. 3) تفسير وسترمان المقاطع المختلفة من قصّة إبراهيم، والمبنيّ على فهمه تطوّر التقليد المكتوب، لا يأخذ أحيانًا بالاعتبار أنّ بعضًا من هذه النصوص فيه الكثير من الغنى التفسيريّ، الذي يلقي أضواء على علاقة دورة إبراهيم بمقاطع أخرى كثيرة من العهد القديم من جهة، وعلى فرادة هذه النصوص من جهة أخرى. وسأشير إلى هاتين العلاقة والفرادة. أمّا قراءتي للنصّ، فهي القراءة المتزامنة، أي تلك التي تنظر إلى النصّ بشكله الحاضر، وبترابطه وسياقه كما نعرفه اليوم، طبعًا، من دون أن أنكر الطبقات المختلفة التي تكوّن منها النصّ.
كما ترد قصّة إبراهيم في كتاب التكوين، فهي تختم القسم الذي يتعلّق بأزمنة البداءة، أو أزمنة ما قبل التاريخ، وتبدأ قسمًا يتعلّق بتاريخ البشر الواقعيّ. سبق لعدد من المفسّرين أن أشاروا إلى أنّ تكوين 12: 1- 3: »وقال الربّ لأبرام إذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمّة عظيمة وأباركك وأعظّم اسمك وتكون بركة. وأبارك مباركيك ولاعنك ألعنه. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض«، وهي مقدّمة قصص الآباء، تشكّل، في الوقت ذاته، صلة وصلٍ بين قصص البداءة التي تسبقها، وتاريخ شعب إسرائيل الذي يليها. والواقع أنّ موضوعي البركة والملء المتضمّنين في هذا المقطع يتكرّران في قصّة إبراهيم، إذ نجدهما في مقاطع أساسيّة من هذه القصّة، كظهورَي اللَّه لإبراهيم في الإصحاحين 15 و17، وظهوره له عند بلّوطات ممرا في الإصحاح 18 (تكوين 13: 16؛ 14: ١٩- ٢٠). يذكر هذان الموضوعان في مقاطع أخرى في العهد القديم، غير أنّ هذا الذكر يأتي في أغلب الأحيان مرفقًا بإشارة إلى إبراهيم.
ويظهر موضوعا البركة والملء (أو التكثير) أيضًا في نصّين مهمّين يردان قبل قصّة إبراهيم، في تكوين 1 (الخلق)، وفي تكوين 9 (بركة نوح بعد الطوفان). في تكوين 1 يبارك اللَّه البشر، ويقول لهم: »أثمروا واكثروا واملأوا الأرض، وأخضعوها«. وفي تكوين 9 يبارك اللَّه نوحًا وأولاده ويقول لهم: »أثمروا واكثروا واملأوا الأرض«.
لموضوع البركة مكانة مهمّة في العهد القديم. فهو يرد دائمًا بعلاقة مع الالتزام بمشيئة الله وحفظها. ويشكّل كتاب تثنية الاشتراع مثالاً واضحًا على العلاقة بين بركة اللَّه وحفظ مشيئته: »وإن سمعت سمعًا لصوت الربّ إلهك لتحرص على أن تعمل بجميع وصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم يجعلك الربّ إلهك مستعليًا على جميع قبائل الأرض، وتأتي عليك جميع هذه البركات وتدركك إذا سمعت لصوت الربّ إلهك« (تثنية 28: 1- 2). »أشهد عليكم اليوم السماء والأرض. قد جعلت قدّامك الحياة والموت. البركة واللعنة. فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك« (تثنية 30: 19). ويحتوي كتاب تثنية الاشتراع على مقاطع مطوّلة تصف لعنة اللَّه على كلّ من لا يسير وفقًا لمشيئته (28: 15- 68).
والحقيقة أنّ موضوع البركة والملء (أو التكثير) ليس الموضوع الوحيد المشترك بين تكوين 1 وتكوين 9 وقصّة إبراهيم. فإلى جانب الوعد بالبركة والتكثير يصف كلّ من هذه النصوص بدءًا ما. تكوين 1 هو البدء المطلق لكلّ شيء؛ وفي تكوين 9 بدء بعد الطوفان؛ أمّا تكوين 12- 25 فهو بدء قصص الآباء، وبدء قصّة اللَّه مع شعبه. في حين أنّ البداءتين الأولى والثانية تحصلان قبل التاريخ، في أزمنة غابرة، تأتي البداءة الثالثة في التاريخ الواقعيّ، في حياة البشر اليوميّة. ثمّة هنا ترتيب تنازليّ للأشياء: من البداءة المطلقة إلى البداءة في الأزمنة الأولى وصولاً إلى بداءة التاريخ. من الناحية الإحصائيّة تشغل البداءتان الأولى والثانية أحد عشر إصحاحًا، مع أنّهما تغطّيان مدّة طويلة من الزمن، فيما تشغل البداءة الثالثة سائر إصحاحات التكوين مع أنّها لا تغطّي إلاّ مدّة قصيرة من الزمن. هذا يعني أنّ للبداءة مع إبراهيم عند كتّاب العهد القديم أهمّيّة خاصّة. في تقديري أنّ أهمّيّتها تكمن في كونها تحقيقًا للبداءتين الأولى والثانية، لا بل هي التحقيق الوحيد الممكن في حياة البشر، ذلك بأنّ البداءة الأولى مطلقة، أمّا البداءة الثانية ففي الأزمنة ما قبل التاريخيّة. قصّة إبراهيم محبوكة لتكون في زمن الناس العاديّ، والزمن هنا، لا يزال آخذًا مجراه.
غير أنّ هذه البداءات الثلاث تليها، في تأليف التكوين بخاصّة وفي تأليف كتب الشريعة الخمسة والكتب التاريخيّة بعامّة، ثلاث نهايات على التوالي. تلي خلق الأرض »الحسنة«، والبركة والدعوة إلى الإكثار التي وجّهها اللَّه إلى الإنسان في تكوين 1، بلعنة الأرض بسبب خطيئة آدم، وتجاوزه وصيّة اللَّه في تكوين 2- 6. أمّا بركة نوح فيليها عقاب اللَّه لكلّ الناس، لأنهم لم يتكّلوا على اللَّه، بل حاولوا، بوسائلهم الخاصّة، أن »نصنع لأنفسنا اسمًا لئلا نتبدّد على وجه كلّ الأرض« (تكوين 11: 4).
دورة إبراهيم في العهد القديم
أمّا النهاية التي تلي قصّة إبراهيم، فثمّة شيء من الصعوبة في إيجادها لأنّها متضّمنة في الكتب التي تصف الخروج من مصر ودخول أرض كنعان، وهما الموضوعان الخلاصيّان بامتياز في العهد القديم. غير أنّنا إذا أنعمنا النظر في قصص الخروج والدخول إلى أرض كنعان، يتبيّن لنا أنّها تقدّم كأعمال اللَّه الخلاصيّة، من جهة، أمّا من جهة أخرى، فجواب الشعب على هذه الأعمال يأتي سلبيًّا. فهو يعارض دائمًا مشيئة اللَّه وما يصنعه لأجله. ويتمرّد على اللَّه، حتّى في الوقت الذي أراد اللَّه أن يخرجه فيه من مصر (خروج 6: 9). مرّة تلو الأخرى كان الشعب يشكو خروجه من مصر. حتّى إنّه لم ينسب هذا الخروج إلى اللَّه نفسه، بل إلى موسى وهارون: »فلمّا اقترب فرعون رفع بنو إسرائيل عيونهم وإذ المصريّون راحلون وراءهم. ففزعوا جدًّا وصرخ بنو إسرائيل إلى الربّ. وقالوا لموسى هل لأنّه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرّيّة. ماذا صنعت بنا حتّى أخرجتنا من مصر. أليس هذا هو الكلام الذي كلّمناك به في مصر قائلين كفّ عنّا فنخدم المصريّين. لأنّه خير لنا أن نخدم المصريّين من أن نموت في البرّيّة« (خروج 14: 10- 12). تكثر مثل هذه الجمل في قصّة تيه بني إسرائيل في صحراء سيناء (خروج 15: 22 وما يليها؛ 16: 2 وما يليها، 17: 1 وما يليها). يبلغ تمرّد إسرائيل على إله الخروج أوجه في عبادة العجل الذهبيّ (خروج 32)، وفي بعل فغور (عدد 25)، الحادثتين اللتين جلبتا عقاب اللَّه القاسي على الفعلة. نجد في مقدّمة كتاب تثنية الاشتراع موجزًا سريعًا عن قصّة أعمال اللَّه وتمرّد الشعب بعد الخروج من مصر (تثنية 1-10؛ المزامير 78، 105، 106، 135، 136).
بعد أن يصف كتاب تثنية الاشتراع جواب الشعب السلبيّ عن أعمال اللَّه، يكرّر دعوة وصايا اللَّه ليدعوه إلى حفظ شريعته. لكنّه ينتهي بتصريح غريب عن دور هذه الشريعة ووظيفتها. في تثنية 31: 24- 29 نقرأ: »فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها أمر موسى اللاويّين حاملي تابوت عهد الربّ قائلاً: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الربّ إلهكم ليكون هناك شاهدًا عليكم. لأنّي أنا عارف تمرّدكم ورقابكم الصلبة. هوذا وأنا بعد حيّ معكم اليوم قد صرتم تقاومون الربّ فكم بالحريّ بعد موتي. اجمعوا إليّ كلّ شيوخ أسباطكم وعرفائكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد عليهم السماء والأرض. لأنّي عارف أنّكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به ويصيبكم الشرّ في آخر الآيّام لأنّكم تعملون الشرّ أمام الربّ حتّى تغيظوه بأعمال أيديكم«. يوحي هذا النصّ بأنّ وظيفة الشريعة (أو الناموس) أن تكشف خطايا الشعب الذي ينقض وصايا اللَّه.
ولم تكن الفترة التي تلت دخول إسرائيل أرض كنعان أفضل من الفترة التي تلت الخروج. ففترة القضاة التي نقرأ عنها في كتاب القضاة تشدّد على خطيئة بني إسرائيل المتكرّرة (تتكرّر خطيئة ترك اللَّه وصنع الشرّ في عينيه اثنتا عشرة مرّة مع القضاة الاثني عشر). يصف كتاب صموئيل رفض الشعب للَّه عندما أرادوا أن يكون لهم ملك كسائر الشعوب: »فقال الربّ لصموئيل: إسمع لصوت الشعب في كلّ ما يقولون لك. لأنّهم لم يرفضوك أنت بل إيّاي رفضوا حتّى لا أملك عليهم. حسب كلّ اعمالهم التي عملوا من يوم أصعدتهم من مصر إلى هذا اليوم وتركوني وعبدوا آلهة أخرى هكذا هم عاملون بك أيضًا« (1صموئيل 8: 7- 8). ويصف كتابا الملوك أعمال ملوك إسرائيل ويهوذا الشرّيرة، والتي أدّت في النهاية إلى النفي من الأرض. بهذا النفي تنتهي القصّة التي بدأت مع يعقوب وأبنائه الاثني عشر.
ما وصفته هنا، هو ما أعتبره النهاية الثالثة بعد البداءة الثالثة مع إبراهيم. وإذا كانت البداءة حصلت في التاريخ، فالنهاية حصلت أيضًا في التاريخ. أمّا سبب هذه النهاية، فهو ذاته سبب النهايتين الأولى والثانية: رفض اللَّه ومشيئته، وتاليًا رفض وعده بالبركة والملء.
إذا أخذنا بالاعتبار كامل القصّة التي تبدأ برحلة يعقوب إلى مصر وتنتهي بالنفي من الأرض، نرى أنّ الشعب بهذا النفي قد عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل خروجه من مصر، أي إلى العبوديّة. والحقيقة أنّ بعض نصوص العهد القديم تساوي بين عقاب اللَّه والعودة إلى مصر: »ولكن، إن لم تسمع لصوت الربّ إلهك لتحرص على أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك... ويردّك الربّ إلى مصر في سفن في الطريق التي قلت لك لا تعود تراها فتباعون هناك لأعدائك عبيدًا وإماء وليس من يشتري" (تثنية 28: 15، 68، إشعياء 7: 18، 27: 13؛ إرميا 2: 18، 36؛ هوشع 8: 13؛ 9: 3، 11: 5).
ما عرضته حتّى الآن، يوحي بأنّ وعد اللَّه لإبراهيم بالعهد الأبديّ والبركة والملء (تكوين 15 و17) لم يتحقّق في قصّة إسرائيل الكتابيّة. عندما لم يسمح إسرائيل لبركة اللَّه ووعده بأن يتحقّقا فيه، ساوى نفسه بإسماعيل، ابن إبراهيم من هاجر الجارية. ندرك أهمّيّة هذا عندما نتذكّر أنّ عهد اللَّه الأبديّ مع إبراهيم يجري في إسحق لا في إسماعيل: »ولكنّ عهدي أقيمه مع إسحق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية« (تكوين 17: 21). والحقيقة أنّ ولادة إسماعيل (تكوين 16) تأتي بين مقطعين يصفان ظهور اللَّه لإبراهيم ليقيم عهدًا معه. في تكوين 15: 5 يقول اللَّه لإبراهيم: »أنظر إلى السماء وعدّ النجوم إن استطعت أن تعدّها. وقال له هكذا يكون نسلك«. مباشرة بعد هذا تأتي رواية ولادة إسماعيل. كان قرار إبراهيم وسارة بأن يكون لهما ولد من هاجر الجارية قرارًا محض بشريًّا. والحقيقة أنّ ما اقترحته سارة على زوجها، كان أمرًا شائعًا في الشرق الأدنى القديم. ولكن، بعد ولادة إسحق بوعد اللَّه فيعد إبراهيم بأنّ النسل الذي سيعطيه إيّاه سيكون من زوجته العجوز سارة (تكوين 17)، وأنّ عهده الأبديّ معه سيكون بهذا النسل. تفسيري لهذه القصّة هو أنّ ما يريد النصّ أن يؤكّده هو تحقيق العهد بمشيئة اللَّه لا بمشيئة الناس. من هنا التضادّ بين ولادة إسماعيل الطبيعيّة وولادة إسحق غير الطبيعيّة.
يؤكّد هذا ما سبق وذكرته على التماهي بين إسرائيل في القصّة الكتابيّة وإسماعيل. تدعم الملاحظات الآتية هذا التأكيد: 1) يرتبط إسماعيل ارتباطًا وثيقًا بقدر مصريّ: كانت أمّه مصريّة كذلك زوجته. وقد أقام مع أولاده في منطقة بين مصر وأشور، المكانين اللذين استعبد فيهما إسرائيل؛ 2) أبناء إسماعيل الاثنا عشر يذكّرون بأسباط إسرائيل الاثني عشر.
إبراهيم والأنبياء
إذا صحّ هذا، فالسؤال الذي يطرح ذاته هنا هو الآتي: أين إذًا يتحقّق وعد العهد الأبديّ بين اللَّه وإبراهيم؟ ممّا رأيناه حول القصّة الكتابيّة يمكننا الجزم بأنّ هذا لم يتحقّق في إسرائيل الكتابيّ. حتّى الذين يقولون بأنّ العودة من السبي كما يصفها كتابا عزرا ونحميا هي تحقيق هذا الوعد، فهم على شيء من الضلال، ذلك بأنّ هذين السفرين لا يصفان العودة بكونها عودة نهائيّة وأبديّة. فالكتابان كلاهما ينتهيان بدعوة إلى التوبة من دون أن يذكرا ما إذا كانت هذه الدعوة استجيبت أو لا. على العكس، فإنّ عزرا ينتهي بإيراد معلومة غاية في الأهمّيّة: »كلّ هؤلاء {الكهنة} اتّخذوا نساء غريبات ومنهنّ نساء قد وضعن بنين« (عزر 10: 44). إذا أخذنا بالاعتبار أنّ الزواج بنساء غريبات مرتبط بعبادة الآلهة الغريبة، وهي الخطيئة العظمى في العهد القديم، يصير معنى هذا الآية واضحًا: لا تزال الخطيئة مسيطرة على يهوذا، حتّى بعد العودة من السبي.
جوابي عن السؤال المتعلّق بتحقيق العهد مع إبراهيم، هو أنّ هذا العهد لا يتحقّق بكامله إلاّ في كلمة الأنبياء الأخرويّة عن الخلاص الذي لا يزال أمامنا نحن سامعي الكتاب وقارئيه.
نقع في كتب الأنبياء إشعياء وإرميا وحزقيال على نظرة أخرويّة لخلاص اللَّه الأبديّ. في نبوءات إشعياء عن الخلاص الواردة خصوصًا في الجزئين الثاني والثالث من الكتاب (إشعياء 40- 66)، يعد اللَّه شعبه يعقوب الجديد بالخلاص الأبديّ. سيقيم يعقوب الجديد هذا في أورشليم. غير أنّ أورشليم هذه لن تكون مثل أورشليم عاصمة مملكة يهوذا التي دمّرت بسبب خطيئتها. ستكون أورشليم جديدة، سماويّة، يبنيها اللَّه على أساس عدله وبرّه، وعلى أساس مشيئته. وسيتألّف يعقوب الجديد من كلّ الذين يخضعون ذواتهم لبرّ اللَّه وعدله، ويقبلون مشيئته ويحفظونها، من كلّ الأمم: »إسمعوا لي أيّها التابعون البرّ الطالبون الربّ... أنصتوا اليّ يا شعبي ويا أمّتي أصغي إليّ. لأنّ شريعة من عندي تخرج وحقّي أثبته نورًا للشعوب. قريب برّي. قد برز خلاصي وذراعاي يقضيان للشعوب. إيّاي ترجو الجزائر وتنتظر ذراعي« (إشعياء 51: 1أ، ٤- ٥).
وفي إرميا 31 يعد اللَّه بخلاص نهائيّ لشعبه يعقوب. غير أنّ الخلاص مختوم »بعهد جديد« يختلف عن العهد الذي أقامه اللَّه مع شعبه حين أخرجهم من مصر. سيكتب هذا العهد على القلوب لا على ألواح الحجارة. وسيضمن أن يعرف كلّ واحد اللَّه بغضّ النظر عن العمر والمكانة الاجتماعيّة. وسيضمن ألاّ يعرف الشعب الذي يقيم اللَّه معه هذا العهد مشيئة الربّ فحسب، بل أن يعملوا بها ويحفظوها. »ها أيّام تأتي يقول الربّ، وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا. ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الربّ، بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيّام يقول الربّ. أجعل شريعتي في داخلهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا. ولا يعلّمون بعد كلّ واحد صاحبه وكلّ واحد أخاه قائلين إعرفوا الربّ لأنّهم كلّهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الربّ. لأنّي أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيئتهم بعد« (إرميا 31: 31- 34).
نجد في حزقيال كلامًا على الخلاص الذي يتمّمه اللَّه لإسرائيل الجديد على أساس نظام جديد، حيث سيشغل اللَّه مركز الوسط. ستبنى أورشليم في حزقيال حول مركز هو هيكل اللَّه، وليس حول بلاط الملك، أي أنّ اللَّه هو الذي سيديرها مباشرة. وهي تسمّى »الربّ هناك«.
في قصّة إبراهيم وجوه شبه كثيرة مع هذه النبواءت. عندنا أوّلاً فكرة الخلاص كعطيّة من اللَّه. هذا واضح في نبوءة إرميا عن العهد الجديد، حيث يهب اللَّه خلاصه مجّانًا، بأن لا يذكر الخطايا في ما بعد. من هنا التضادّ الذي تقيمه النبوءة بين العهد القديم، المختوم بناموس موسى، والعهد الجديد، المختوم بعطيّة اللَّه. إذا كانت وظيفة الناموس في العهد القديم أن يكشف خطايا الشعب كما رأينا آنفًا، فوظيفة العهد الجديد الذي سيقيمه اللَّه، أن يمحو هذه الخطايا. في الحقيقة لا يذكر كتاب التكوين سبب اختيار اللَّه لإبراهيم، ليقيم عهده معه. جلّ ما نعرفه عن إبراهيم قبل تكوين 12 هو أنّه من نسل سام، ابن نوح، وأنّ زوجته كانت عاقرًا. ليس من ذكر لأنّه كان بارًّا قبل أن يدعوه اللَّه، مثل نوح مثلاً. ما نعرفه عنه هو أنّ اللَّه طلب منه أن يترك بيته وأهله ويمضي إلى الأرض التي يريه إيّاها.
النقطة الثانية المشتركة بين إرميا وقصّة يعقوب، هي أنّ العهدين يقامان كلاهما من دون ناموس موسى. لا يهمّ في حجّتنا هذه أن يكون واحدهما حصل قبل الناموس وثانيهما بعده. المهمّ أنّ كلاهما يحصل بدون الناموس. تبرّر إبراهيم من دون الناموس، تمامّا كالذين سيبرّرهم اللَّه بغفران خطاياهم حين يقيم عهده الجديد. السبب الوحيد للتبرير هو الإيمان، الإيمان بأنّ وعود اللَّه تستحقّ التصديق حتّى ولو بدت غير ممكنة. الختان الذي يمثّل شريعة موسى، يصير مجرّد علامة في قصّة إبراهيم (تكوين 17). إنه مجرّد علامة على أنّ إبراهيم يتبع اللَّه بأمانة وإخلاص وثقة. وراء إيمان إبراهيم هذا، كلّ ما يقوله اللَّه حقيقيّ، وكلّ ما يعد به سيحصل حتّى ولو في المستقبل البعيد.
وتطابق العلاقة المباشرة بين اللَّه وإبراهيم في التكوين غياب الوسطاء بين اللَّه وشعبه في النبوءات. يرافق هذه العلاقة المباشرة بين اللَّه وإبراهيم في تكوين حفظ تامّ لمشيئة اللَّه، أوضحه كتّاب التكوين في مطلع القصّة.
أضف إلى هذا أنّ قصّة إبراهيم وأقوال الأنبياء التي أشرنا إليها تتّفق على نقطة غاية في الأهمّيّة، وهي أنّ يعقوب الجديد سوف يتألّف من كلّ الذين يؤمنون باللَّه ويعملون بحسب مشيئته بغضّ النطر عن أعراقهم وأجناسهم. في إبراهيم سوف تتبارك كلّ الشعوب، والنبوءات التي ذكرناها تتحدّث عن إدخال كلّ الشعوب في الخلاص. هؤلاء سيكونون حاضرين في أورشليم الجديدة، السماويّة، ليشهدوا على إعلان مجد الربّ الأبديّ.
خاتمة
إذا صحّ هذا، تكون قصّة إبراهيم، كلاًّ لاهوتيًّا كاملاً، ما من قصّة أخرى في العهد القديم تشبهها. تسقط فيها آمال تتعلّق بالخلاص المستقبليّ على أحداث ماضية تختصّ ببدء قصّة اللَّه مع شعبه. لا تبدأ هذه القصّة بشكل سلبيّ، مع أنّ السلبيّات ترافقها كلّما تطوّرت. ولا تبدأ بشكل سلبيّ، لأنّ اللَّه لن ينهيها بشكل سلبيّ. سوف ينهيها كما يشاء هو. ونعلم من الكتب النبويّة أنّ نهاية القصّة إعلان مجد اللَّه، الذي الشعوب كلّها مدعوّة إلى مشاهدته. في قصّة إبراهيم تلتقي البداءة مع النهاية. فالبداءة والنهاية ليستا بداءة ونهاية في التاريخ وفي الزمن، بل بداءة ونهاية في كلمة اللَّه. بهذا تشكّل قصّة إبراهيم ونبوءات الخلاص في الكتب النبويّة تضمينًا للتاريخ. يعني هذا التضمين أنّ التاريخ، وإن كان مليئًا بعدم الأمانة للَّه، فكلّ مسيرة ينبغي أن تشبه مسيرة إبراهيم. ينبغي أن تكون مسيرة باتجاه كلمة اللَّه.
تقدّم لنا كتابات العهد الجديد الإيمان بأنّ بيسوع المسيح تحقّق العهد الجديد الذي قطعه اللَّه مع إبراهيم. تمّت المسيرة بيسوع، يعقوب/إسرائيل الجديد. على أساس هذا التعليم يكتب الرسول بولس عن أورشليم الجديدة، أمّنا الحرّة (في إشارة واضحة إلى سارة)، أمّنا جميعًا، نحن الذي تحرّرنا بيسوع المسيح من عبودية أشياء هذا العالم. وعليه فإنّ العهد الجديد ليس واحدًا من إمكانيّات عدّة لتفسير العهد القديم، ولكنّه الإمكانيّة الوحيدة، لأنّه يختتم التطلّعات الأخرويّة للعهد القديم في قصّة يسوع المسيح. هنا تنتهي قصّة إسحق. وتلتقي البداءة مع إبراهيم مع النهاية. فقط عندما نأخذ هذا بالاعتبار، يمكننا أن نتكلّم على أبوّة إبراهيم.l