2017

7. الرغبة المتصاعدة: أضواء من القدّيس غريغوريس النيصصيّ - د. جورج معلولي – العدد الخامس سنة 2017

الرغبة المتصاعدة: أضواء من القدّيس غريغوريس النيصصيّ - د. جورج معلولي

 

ما هي الطريق التي تسلكها رغبة الإنسان في عطشها إلى الحقيقة؟ معاناة النفس وعدم ارتياحها مرتبطان بانفصال الإنسان عن موضوع حنينه. فالانجذاب السرّيّ، الذي يربط الإنسان بالمطلق الذي تشتاق إليه النفس، يجعله في إحساس عدم الرضى المستمرّ. الإنسان كائن رغبة وحنين لا ينتهي. فكما تحتوي العين طبيعيًّا ما يؤهّلها لالتقاط الضوء، هكذا مزج اللَّه بالنفس البشريّة ما يؤهّلها لأن ترغب فيه وأن تبحث عنه كقريب. هذا ما يشرحه القدّيس غريغوريوس النيصصيّ. فكلّ ما لدى الإنسان من حياة وعقل وإدراك يولّد فيه الرغبة في من جعل نفسه في علاقة قرابة بالبشر.

غير أنّ هذه الرغبة تبقى حرّة. فالإنسان مرآة حرّة، إذا جاز القول. صورة المرآة المعدنيّة مألوفة عند الفلاسفة الإغريق. ولكنّ القدّيس غريغويوس يوضح أنّ حرّيّة الإنسان في نزع الصدأ عن مرآة نفسه وفي توجيه المرآة. لا يكفي الشعور بالرغبة. ما ينقص هو اكتشاف وجهتها السرّيّة أو شرقها. فالإنسان يصير ما ينظر إليه. المرآة الموجّهة إلى العدم تعكس العدم. والمرآة الموجّهة إلى الضوء تصير ضوءًا. إنّنا نصبح ما نحبّ. فحيث يكون الكنز، هناك يكون القلب.

ماذا يستحقّ حقًّا أن يكون موضوع حبّنا؟ يقدّم النيصصيّ نموذج إبراهيم صورة عن تحوّلات الرغبة. في البدء يشاهد إبراهيم ظواهر الطبيعة: تعاقب الليل والنهار، النجوم، حركة قطعانه، غيرة النساء والرجال، أي ما تقدّمه له الطبيعة وحضارة قبيلته الوثنيّة. فكان له انسجام الظواهر الطبيعيّة مرقاة إلى حبّ الجمال الذي هو وراء ما يبدو للحواسّّ. فبعد المعرفة الحسّيّة (أو العلميّة) يستيقظ حبّ الصلاح والخير والجمال. أمّا بعد هذه المرتبة، فهناك تنقية الذهن من كلّ هذه المفاهيم (التي قد تصف بطريقة أو بأخرى الحقّ المطلق، أي اللَّه)، لتكتشف النفس أنّ اللَّه هو فوق كلّ المفاهيم. هي عين المشاهدة التأمّليّة بعد عين العلم وعين الفلسفة. ليست هذه الرؤى المختلفة متناقضة. إن هي إلاّ مصاعد للرغبة في بحثها عن الحبيب.

موسى على الجبل نموذج آخر عن هذا التصاعد. فالانفصال الأوّل عن الأفكار المغلوطة أو الرؤية المشوّشة هو عبور من ظلمة الجهل إلى النور. تنقاد النفس عبر الأشياء المنظورة إلى تأمّل غير المنظور. فحياة الإنسان يمكن أن تكون له كشبكة العنكبوت تلتصق بها النفس التصاقًا، وتصبح ضحيّة للعنكبوت الراكضة إلى التهامها. ولكنّ الذين يبتغون التصاعد يطيرون بخفقة جناح فوق هذه الشبكة. قد يوحي النيصصيّ خطأ أنّه ينظر بسلبيّة إلى العالم المخلوق كما الفلاسفة الإغريق. ولكنّه يوضح في كتاباته أنّه لا يحكم على الخليقة ولا على المعرفة الحسّيّة، بل على العلاقة الصنميّة التي قد تجمّد النفس في مرحلة من مراحل التصاعد وكأنّها المطلق. فالنفس غير الناضجة إذا رأت شيئًا جميلاً قد تعتقد أنّ هذا الشيء جميل في حدّ ذاته وتقف عنده. أمّا النفس اليقظة، فتتخذ هذه الرؤية الحسّيّة سلّمًا إلى الجمال الذي يفوق الحسّ. غير أنّ الذهن يكتشف في هذا التصاعد أنّ اللَّه لا تحصره المفاهيم، وأنّ المفاهيم تصنع أصنامًا مكان اللَّه. فتولد من هذا الامتداد المعرفة التنزيهيّة أو الظلمة المنيرة في خبرة موسى على الجبل الذي يدخله اللَّه في الضباب المشعّ حيث تدخل كلّ أنواع المعرفة إلى الراحة أو السبت. وكأنّ النفس قد وصلت إلى منحدر شديد الانحدار وليس لها ما تستند إليه فيصيبها الدوار الشديد. فكلّما اقتربت النفس من المشاهدة، اكتشفـت أنّ اللَّه لا يُـــرى. معرفة اللَّه الحقيقيّة هي الإيقان أنّ اللَّه لا يُعرف. الاشتــراك فـي الخيـرات الإلـهيّة يلـهـب الشــوق، ويجعل النفس أكثر رغبة في التصاعد. وكلّما استهلكت النفس وقود رغبتها، كلّما تضاعفت قوّتها وكأنّها في تمرين وتمدّد إلى الأمام.

يسأل القدّيس غريغوريوس النيصصيّ كيف يمكن للنفس بعد أن تلتقي اللَّه أن تبقى في بحث؟ كيف لموسى بعد أن كان يتكلّم مع اللَّه في الخيمة كما يكلّم الصديق صديقه أن يطلب من اللَّه أن يكشف له وجهه كأنّه لم يره بعد؟ يقود صوت اللَّه موسى إلى نوع من اليأس إذ يقول له إنّ ما يطلبه يتجاوز قدرة الطبيعة البشريّة. ولكنّه يقول له إنّ هناك مكانًا بالقرب منه وفي هذا المكان صخرة وفي الصخرة فجوة. يطلب اللَّه من موسى أن يستقرّ في هذه الفجوة. حينها يمرّ اللَّه في كلّ مجده، ويغطّي موسى بيده، ويراه موسى من الخلف. سلام النفس أن يقبل الإنسان هذه الفجوة في نفسه كأنّها فسحة حرّيّة وإمكان تصاعد ونموّ لاشتراك لا يتوقّف في مجد اللَّه. ما يلتقطه الذهن ليس هو الحياة لأنّ الطبيعة الإلهيّة المحيية تتجاوز المعرفة. في تضادّ يقود الذهن إلى صليب وفصح، تتحقّق رغبة موسى في رؤية اللَّه في اكتشافها المذهول أنّها غير قابلة للإشباع، لأنّ محبوبها لا يُحصر بل يقفز أمامها من تلّة إلى تلّة كما في نشيد الأناشيد. تقول الرغبة للحبيب: إجذبني وراءك فنجري.

صورة الامتداد حيث يقذف المتسابق جسمه كلّه إلى الأمام (فيليبّي 3 : 12- 14) هي حالة الإنسان الباحث الداخليّة في تجاوز مستمرّ لكلّ المراحل التي سبقت. امتدادات النعمة (أو الاشتراك فيها) بداءة لامتدادات جديدة. يأتي اللَّه إلى النفس وتسافر النفس في اللَّه. ولكنّ هذا الركض ليس ركضًا على تلّة من رمل. فالراكض على تلّة من رمل يبقى مكانه وتتلو خيبة الأمل خيبات لا تنتهي. فالراكض بحاجة إلى صخرة يثبت عليها (كما يقول المزمور)، والصخرة هنا هي المسيح. يصبح هذا الثبات جناحين للمسافر وفي سفره نحو الأعالي تصبح نفسه مجنّحة. صفة هذه الرغبة المتصاعدة هي ثباتها وتأصّلها. من دون هذا الاستقرار يصبح سعي الرغبة ركضًا على تلّة من تراب. هنا التضادّ الكامل: أنّ الاستقرار والحركة شيء واحد في مسيرة النفس إلى الحبيب. لا تعود فجوة الرغبة في نفس الإنسان نقصًا يشدها إلى الوراء، بل فقرًا إلى من يملأها دائمًا بالحبّ الذي لا ينطفئ. l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search