فلاديمير لوسكي اللاهوت الصوفي لكنيسة الشرق
أسعد قطّان
١- حين سئل البابا يوحنّا بولس الثاني، بعدما طعن في السنّ، لماذا لا يستقيل ويتقاعد، أجاب: »ولمن أقدّم استقالتي؟«. كيف سها عن هذا الذي أعلنت الكنيسة الكاثوليكيّة قداسته، قبل زمن قصير، أنّه «خادم خدّام المسيح»، وأنّ المجمع الفاتيكانيّ الثاني سعى إلى تصحيح المفهوم المنحرف للأوّليّة الرومانيّة عبر التشديد على أنّ خدمة أسقف رومية لا تستقيم ما لم تتمّ في إطارها الصحيح، أي مجمع الأساقفة؟ ألم يكن من المنصوح به لاهوتيًّا ورعائيًّا أن يرفع البابا الذي أرهقته السنون استقالته إلى إخوته الأساقفة؟ مهما يكن من أمر، لم ينل الأسقف الآتي من بولونيا، والذي يعتبره بعضهم صاحب اليد الطولى في إسقاط المعسكر الشيوعيّ، »شرف« الاستقالة من الكرسيّ البابويّ. ولم يتوقّع أحد أن يُقدِم سلفه بنيدكتوس السادس عشر على مثل هذه الخطوة التي غيّرت، مرّةً أخرى، وجه الكنيسة الكاثوليكيّة في الزمن الحديث. ولكنّ الأسقف الجرمانيّ الأصول والقادم من غبار الكتب السميكة ودائرة مراقبة الأفكار في الفاتيكان، فاجأ الجميعَ حين أبلغ إخوته الأساقفة بأنّه يترك لهم مهمّة اختيار سلف له. لعلّ أبرز حدث في عهد الكردينال يوسف راتسينغر بعد اختياره رأسًا للكنيسة الكاثوليكيّة هي الطريقة التي أنهى بها عهده، وهي طريقة لم تعهدها كنيسة الغرب عبر مئات من السنين. فدخل التاريخ، قبل موته، بوصفه البابا الذي تخلّى، بملء إرادته، عن الكرسيّ الرومانيّ قائلاً لمن حوله: «أنا ماضٍ إلى الصلاة والعزلة، وسيّد الكنيسة يعينكم على تدبّر أموركم». ما الذي دفع الأستاذ الجامعيّ إلى هذه الخطوة التي لم يجرؤ أحد من أسلافه على القيام بها؟ لا يُسقط المراقبون من حسابهم دور التواضع الجمّ الذي كان عليه هذا البافاريّ المعروف بأنّه بدأ مسيرته كأحد أبرز الأدمغة اللاهوتيّة التي هندست المجمع الفاتيكانيّ الثاني، وأنهاها مفكّرًا قليل المرونة يقول كلامًا على الإسلام والحداثة الغربيّة يشي بالكثير من المحافظة. ولكنّهم أيضًا يعرفون أنّ الأسقف الشيخ عاد لا يطيق ثقل المسؤوليّة الملقاة على عاتقه لكون الكنيسة الكاثوليكيّة ترزح تحت وطأة تحدّيات أخلاقيّة تستدعي إصلاحاتٍ جذريّة. فقبل بضع سنوات، قرّر كاهن يسوعيّ ألمانيّ، بعكس أسلافه، ألاّ يسكت عمّا تراكم في ذاكرة المدرسة التي كان مسؤولاً عنها من قصص تحرّش جنسيّ بأحداث قام به بعض الكهنة. فانطلقت شرارة عمّت الكنيسة الكاثوليكيّة في أوروبّا وأنحاء أخرى شتّى. والبنك الذي يحتضن أموال الكنيسة الكاثوليكيّة ثمّة أخبار تسري هنا وهناك عن ضلوع بعض العاملين فيه في صفقات مشبوهة. والإدارة في الحاضرة الرومانيّة تحتاج إلى عمليّة إصلاحيّة جريئة. كلّ هذا حدا البابا الألمانيّ الشيخ على ترك ناصية القيادة إلى مَن يستطيع تدبّر شؤون الكنيسة أفضل منه مختارًا الانكفاء الطوعيّ. وكما لم ينتظر أحد أن يذهب راتسينغر، بملء إرادته، إلى قلاّيته وحيدًا، لم يتوقّع أحد أن يجعل خليفته فرنسيس من الفقراء في الأرض قضيّته. فيغادر رفاهيّة مقرّه مفتتحًا صراعه مع الانحراف في مؤسّسته الكنسيّة، وطائفًا في الأرض يحثّ البشر على الالتفات إلى المعوزين واللاجئين، أحبّة يسوع.
٢- لم يسبق أن اتّسمت القضيّة الأخلاقيّة بهذه الآنيّة كما هي عليه اليوم في الكنيسة الكاثوليكيّة. ولقد بدأنا، نحن الأرثوذكس، نشعر بأنّ هذا التحدّي لا ينسحب على الكاثوليك وحدهم، بل يطاول الكنائس جميعًا، وخصوصًا كنيستنا الأرثوذكسيّة. تُظهر الدراسات أنّ كثرًا من أرثوذكس الولايات المتّحدة الأميركيّة، ولا سيّما المهتدون، كانوا من الذين انتخبوا دونالد ترامب المعروف بثرائه الفاحش وخلطه بين أمور الدولة وشؤون أمبراطوريّته الماليّة، وفي هذا، ولا شكّ، استخفاف عظيم بأهمّيّة البعد الأخلاقيّ في اختيار الحاكم، رغم أنّ هذا البعد هو في صلب رسالة الإنجيل التي كلّ أرثوذكسيّ مؤتمن عليها. شيء من هذه الملاحظة ينسحب أيضًا على سلوك الأساقفة الأرثوذكس في العالم الجديد. فهم تجاهلوا ضلوع بعض الأرثوذكس في التظاهرات التي شهدتها الولايات المتّحدة مؤخّرًا والتي روّجت للتمييز العنصريّ، وضربت عرض الحائط منظومة حقوق الإنسان، ولم يتّخذوا موقفًا واضحًا وصريحًا ينحاز إلى الإنجيل إلاّ بعد ضغط مكثّف من جهة الشعب المؤمن وعريضة إلكترونيّة وقّعها عشرات الآلاف من الأرثوذكس عبر العالم. بالمنطق ذاته، فإنّ المسألة الأخلاقيّة كانت حاضرةً بقوّة في الكنيسة الرومانيّة خلال الأسابيع المنصرمة. فبعد سكوت طال أمده، سمعنا البطريرك الرومانيّ دانيال يعتذر من المؤمنين لما شهدته الكنيسة هناك من حوادث تحرّش جنسيّ على يد رجال إكليروس. ولا شكّ في أنّ موقف البطريرك هذا يُعتبر سابقةً في الكنيسة الأرثوذكسيّة، لا لأنّه يقرن الجرأة بالتواضع فحسب، بل لأنّه يجعل موضوعًا حسّاسًا كهذا قضيّةً «علنيّةً» في الكنيسة من حقّ الشعب المؤمن أن يسائل رعاته عنها، وذلك انطلاقًا من ضرورة إخلاصهم للإنجيل الذي وُضع فوق رؤوسهم يوم السيامة. أمّا في ديارنا الأنطاكيّة، فإنّ أحداث الأشهر الأخيرة قد أظهرت أنّ القيادة الكنسيّة ماضية في التعامل بمسؤوليّة وجرأة مع القضايا الأخلاقيّة التي أخذت، منذ بضع سنين، تقضّ مضجع الجسم الكنسيّ، سواء كانت انحرافًا قانونيًّا هنا أو تحرّشًا هناك.
٣- لماذا تتصدّر القضيّة الأخلاقيّة اليوم واجهة الشأن الكنسيّ؟ الحقّ أنّ المؤسّسة الكنسيّة كانت مطالبةً دومًا بأن يأتي سلوكها منسجمًا مع المعايير الأخلاقيّة التي وضع إنجيل يسوع مداميكها. هذا لم يتغيّر عبر الأزمنة. لذا نجد معلّمي الكنيسة ولاهوتيّيها، بما فُطروا عليه من حسّ رعائيّ، يؤكّدون مرّةً تلو مرّة في عظاتهم ومصنّفاتهم اللاهوتيّة أهمّيّة أن تكون الكنيسة جمعاء، رعاةً ورعيّة، على صورة كنيسة اليوم الأخير من حيث سعيها إلى اجتثاث كلّ غضن وهنة فيها. ولكنّ الأكيد أيضًا أنّ تبدّل الظروف المجتمعيّة في عالمنا جعل المسألة الأخلاقيّة أكثر حضورًا في الضمائر. هذا يرتبط بأنّ المجتمعات البشريّة باتت أكثر مساءلةً حين يتعلّق الأمر بحقوق الضعفاء كالطفل والحدث والمرأة والشيخ والمعوّق والفقير. ولعلّ هذا يندرج في إطار وعي متزايد بأهمّيّة الركون إلى منظومة حقوق الإنسان، بوصفها إحدى أبرز القواعد التي يمكن على أساسها تنظيم العلاقات بين البشر. ينتج من هذا أنّ الفضاء الذي تتحرّك فيه الكنائس اليوم طرأ عليه تبدّل كبير مقابلةً بأزمنة ما قبل الحداثة. فالوعي الأخلاقيّ بات أكثر حضورًا في معظم المجتمعات بفعل أنّ الحداثة جعلت من الأخلاق قاعدةً للتعامل المجتمعيّ والسياسيّ بين البشر. وقد أفضى هذا، مع مرور الزمن، إلى ظهور منظومة حقوق الإنسان التي استندت، في ما استندت إليه، إلى أرفع المبادئ الأخلاقيّة التي كرّستها الأديان، ولا سيّما المسيحيّة، كالحرّيّة والمساواة وواجب حماية الضعفاء. أمّا في ما يختصّ بمنطقتنا العربيّة، فاللافت أنّ ما يُعرف بـظاهرة »الربيع العربيّ« قد رسّخ الحسّ بأهمّيّة المنظومة الأخلاقيّة في المجتمع والسياسة، وذلك بصرف النظر عن منطلقات هذه الظاهرة وخواتيمها. ومن ثمّ، يمكن القول إنّ التبدّل الاجتماعيّ الذي رفع من شأن القضيّة الأخلاقيّة وضاعف آنيّتها يحتّم على المؤسّسة الكنسيّة اليوم أن تتصرّف بمقتضى هذا الوعي الجديد إن هي أرادت ألاّ تُحدث شرخًا بينها وبين المؤمنين، علمًا بأنّ السلوك الذي هي مطالبة به ينسجم انسجامًا تامًّا مع مبادئ الإنجيل الذي أنشأ الكنيسة ومن المفترض أن يحرّكها عبر مسيرتها في هذا العالم حتّى انقضاء الأزمنة.
الكنائس مدعوة، إذًا، إلى توبة مستديمة إذا هي أرادت ألاّ تصبح مساحةً متحفيّة. وفي هذا الكثير من ضرورة الالتزام بأخلاق المسيح الذي كرّم المساكين، وجعل إخوته الفقراء والجياع والضعفاء والمسجونين في ناصية الملكوت.l