2017

5. الجوع إلى الحياة - د. جورج معلولي – العدد الأول سنة 2017

 

الجوع إلى الحياة

 

د. جورج معلولي

 

 

يعلّمنا يسوع في الصلاة الربّيّة أن نصلي »خبزنا الجوهريّ أعطنا اليوم«. تغرينا هذه الصلاة على أن نتساءل ماذا يغذّينا حقًّا؟ ما هو الجوع، وما هي الرغبة التي تحرّك يسوع نفسه في هذه الصلاة ؟ ما هو الخبز الذي يطلبه من الآب، عنصر الحياة، ويطلبه كلّ مصلٍّ معه  ليشاركه مع العالم؟

»ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان« (لوقا 4 : 4). ما هو جوع كلّ إنسان، ماذا يحيي نفس كلّ إنسان في عمقها وحميميّتها؟ لا يمكن أن ننفي الجوع إلى الطعام. ككلّ المخلوقات يصارع الإنسان للبقاء والتفتيش عن الطعام تعبير أساس عن هذا الصراع. يسوع نفسه يقلق ويهتمّ لحاجات الذين تبعوه: »إنّني أشفق على هؤلاء الناس، فهم معي منذ ثلاثة أيّامٍ ولا شيء معهم ليأكلوا. ولا أريد أن أصرفهم جوعى، لئلاّ يغمى عليهم في الطريق« (متّى 15: 32). لا يتكلّم يسوع على الروحانيّات أمام بطون فارغة. يطلب من تلاميذه أن أطعموهم أنتم. بمعنى آخر يقول: ما تطلبونه منّي إفعلوه أنتم. شاركوا ما لكم من قليل الخبز، والقلوب، والعقول، والبركة التي تأتي من العلوّ أو من عمق القلب الذي يسكنه اللَّه، ستضاعف وتكثّر ما بذلتموه من خبز وسمك.

ولكنّ هذا الخبز لا يكفي. هناك أنواع أخرى من الجوع التي تحرّك الإنسان للتفتيش: الجوع إلى الحنان والتقبّل، الجوع إلى الحقيقة، إلى الشعر والجمال والمعرفة، والجوع إلى الاحترام والتقدير والمحبّة غير المتملّكة، والجوع إلى المودّة والمشاعر الطيّبة... ولكن كلّ هذا لا يختزل الخبز الجوهريّ الذي يطلبه يسوع في صلاته: لا تعملوا من أجل الطعام الذي يزول، بل من أجل الطعام الذي يدوم ويعطي حياةً أبديّةً (يوحنّا 6: 27). لم يقل هذا إلاّ بعد أن أطعم الجائعين. يوقظنا يسوع إذًا إلى أن نعمل ليس فقط لتأمين خبزنا اليوميّ، بل أيضا لنصحو إلى أبعاد أخرى من الحياة، إلى الحياة النازلة من فوق، التي لم تبدأ ولن تنتهي، التي يسمّيها الإنجيل الحياة الأبديّة. ماذا يغذّي فينا هذه اليقظة إلى النور في عمق الكيان؟ ربّما التساؤل ذاته، والصمت، والصلاة، والتأمّل.

يعطينا يسوع إيضاحًا: »أنا هو خبز الحياة. أكل آباؤكم المنّ في البرّيّة، ثمّ ماتوا، ولكن ها هنا الخبز النازل من السماء ليأكل منه الإنسان فلا يموت. أنا الخبز الحيّ الذي نزل من السماء. إن أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أقدّمه أنا، هو جسدي، أبذله لكي يحيا العالم« (يوحنّا 6: ٤٨- ٥١). حين جاع العبرانيّون في البرّيّة »أتت طيور السلوى في المساء وغطّت المخيّم. وفي الصباح، كانت هناك طبقةٌ من الندى حول المخيّم. وحين اختفت طبقة الندى، ظهرت طبقةٌ رقيقةٌ من الجليد على الأرض.  فحين رأى بنو إسرائيل هذا، قال بعضهم لبعضٍ: »ما هذا؟« لأنّهم لم يكونوا يعرفون ما هو« (خروج 16: 13). المنّ في العبريّة تعني »ما هذا؟«. في صحراء الوجود، لا تبرح التساؤلات تغذّي جوعنا حتّى يتفجّر الجواب الذي ليس هو إجابة عن سؤال، بل إشباع للجوع الكيانيّ الذي يحفر فينا. ما هذا؟ من هو؟ من أنا؟ لا أحد يملك إجابات عن هذه التساؤلات الجوهريّة، أي النابعة من عمق الكيان المجروح. كلّ تاريخ الفلسفة والعلوم والأديان والروحانيّات القديمة والحديثة يؤكّد هذا الجرح. قوّة هذا الجوع أنّه قادر على أن يجذب الإنسان إلى ما هو أبعد، وأن يفتح في نفسه نوافذ على النور. ولكن إن أغلق على نفسه، واكتفى الإنسان بالمنّ كالعبرانيّين في البرّيّة فهو يأكل المنّ ولا يحيا. الإنسان كائن فقير إلى الوجود، إلى »الكائن والذي كان والذي سيأتي«. وهذه الرغبة التي لا يشبعها شيء تتصاعد كما يقول القدّيس غريغوريوس النيصصيّ للبحث عن الحبيب الذي يجذبها وراءه فتجري. هل يقبل الإنسان أن يتلقّى الحياة من »الكائن والذي كان والذي سيأتي«؟ أو ينغلق على أوجاعه وأحزانه وغضبه فينغلق على اللامعنى، أي على الموت؟ قال يسوع لمن أطعمهم: »أنا هو الخبز المحيي. الذي يأتي إليّ لن يجوع أبدًا، والذي يؤمن بي لن يعطش أبدًا. لكنّي قلت لكم إنّكم رأيتموني وما زلتم لا تؤمنون« (يوحنّا 6: ٥٣- ٥٤). قد يبقى الإنسان أسيرًا لخوفه من الموت ومنقبضًا على المنّ. كيف يسترخي ويطمئنّ؟ كيف يتّسع حتّى يتلقّى ما هو أعمق وأعلى من منّ الصحـراء؟ كيف يجـد واهـب المنّ فـي المنّ ذاته؟ طعام هذه الحياة (في كلّ أشكاله)  قادر على أن يكون اتّصالاً بإشعـاعات اللَّه المخترقة هذا الكون أو يكون طعامًا للموت.

من يستطيع أن يصدّق كلّ هذا؟ ولكن من يشكّ في عمق نفسه في أنّ الكائن والذي يكون هو وحده قادر على أن يملأ كياننا؟ ما يقوله يسوع في الإصحاح السادس من يوحنّا أنّه هو نفسه الغذاء الحقّ. سرّ الإفخارستيّا ذاته الذي تتحلّق حوله الجماعة وتصبح جسدًا للمسيح (أي جماعة إفخارستيّة) هو إكسير الخلود كما يسمّيه القدّيس نيقولا كاباسيلاس. حركة أخرى في الإصحاح عينه كما يشرح سيادة المطران جورج (خضر) أنّ شخص يسوع (وعلاقة كلّ شخص به) هو نفسه الطعام الحقيقيّ. وقد اكتشف التقليد الهدوئيّ بطريقة اختباريّة أنّ اسم يسوع نفسه (كما في صلاة القلب) هو طعام حقّ وامتداد للإفخارستيّا. »من يمضغ جسدي ويشرب دمي له الحياة الأبديّة« (يوحنّا 6: 54). المضغ هو أبعد ما يكون عن استهلاك خياليّ لطعام خياليّ. هناك استدخال تدرّجيّ للكلمة المتجسّد في كيان المؤمن، مسيرة بطيئة لامتصاص الحياة الإلهيّة في كلّ كيان الإنسان، في جسده وفكره وأبعاده غير المنظورة. من دون هذا المضغ، يبقى اللَّه إلهـًا خارجيًّا ونبقى تائهين في دنيا اللامعنى، أي الموت. أن نستدخل أفعاله وسلوكه وأفكاره ورؤيته بعدٌ آخر من مضغ جسد ابن الإنسان ودمه، كما يقول إكليمنضس الإسكندريّ. هناك اتّحاد شخصيّ، داخليّ مع القوى الإلهيّة الجارية في جسد المسيح البشريّ الممجّد، كما أوضح لوسكي في بحثه حول اللاهوت الصوفيّ لكنيسة الشرق.

أن نطلب خبز اليوم وخبز الغد، هو أيضًا أن نكتشف أنّ قلوبنا تطلب خبز الغد الأخير، أي أن نذوق اليوم في لحم جسدنا وعمق أحشائنا الملكوت الآتي. أن تصبح كلّ لحظة بابًا مشرّعًا على حياة اللَّه. كيف يفهم الإنسان في خوفه أنّ الحياة أفضل (أو أكثر أي أبعد) من الطعام وأنّ الجسد أفضل من اللباس؟ (لوقا 12: 22-31). وكيف يستطيع ألاّ يهتمّ أي ألاّ يشعر بالهمّ والقلق؟ يجب أن يصبح كلّ إنسان محبوبًا محبة واقعيّة حتّى يثق، حتّى يشعر بالأمان، وأن يؤمن، أي حتّى يقفز إلى فوق. يرفع يسوع جوعنا ورغبتنا إلى من يستطيع أن يغذّي توقنا ليس فقط بالمنّ بل أيضا بالحضور. l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search