الكنيسة إذا تابت
أسعد قطان
الكنيسة »جسد المسيح«. هكذا يعرّفها الكتاب العزيز. صورة الجسد لتوصيف الكنيسة نعثر عليها في غير موضع في العهد الجديد، ولا سيّما في رسائل الرسول بولس. فهو يكتب متوجّهًا إلى أهل كورنثوس: »فأنتم جسد المسيح، وكلّ واحد منكم عضو منه« (1كورنثوس 12/27). وفي الرسالة إلى أهل رومية يستنجد الرسول بولس بهذه الصورة ذاتها لكونها، في رأيه، تعبّر عن التوتّر الخلاّق بين الوحدة والتنوّع الذي تتّصف به حياة المنتمين إلى كنيسة اللَّه: »فكما أنّ لنا أعضاء كثيرة في جسد واحد، وليس لجميع هذه الأعضاء عمل واحد، فكذلك نحن في كثرتنا جسد واحد في المسيح لأنّنا أعضاء بعضنا لبعض« (رومية 12/4-5). إنّ لجوء الرسول إلى »استعارة« الجسد للتعبير عن سرّ الحياة الجديدة في المسيح لا يقلّل البتّة من قوّة هذه الصورة. فالمؤمنون بيسوع أعضاء حقيقيّون في جسده. يؤسّس هذه العضويّة أنّهم، في معموديّتهم، صاروا شركاء في موته المحيي، وأنّهم متّحدون معه اتّحادًا لا تنفصم عراه عبر تلقّفهم السيّد نفسه في أجسـادهـم وذواتهـم كلمةً وخبزًا وخمرًا تعطى لهم كلّما الـتفّـوا حـول سيّـدهـم ليقـرأوا إنجيـله ويعبّوا من كأسه. هذه العلاقة العضويّة بسيّد الكنيسة، التي تجعلنا أعضاء في جسده، معطاةٌ لنا نعمةً. فنحن أنّى لنا أن نصنع شيئًا يجعلنا نستحقّها، إذ ليس هناك ما يمكن البشرَ أن يصنعوه فيؤهّلهم ليصبحوا أعضاء في جسد المسيح. أن نكون مغروسين فيه عبر »أخذنا السرّ من الماء« وعـبـر تلقّفنا الخبز النازل علينا من السماء، هذا كلّه لا فضل لنا فيه ولا منّة. المؤمنون أعضاء في جسد المسيح، لأنّه هو قرّر أن يفتدي البشر الخطأة بموته على الصليب وأن يجعلهم أعضاء في جسده. ومن ثمّ، فإنّ عضويّتهم في هذا الجسد لا يمكن أن تكون مدعاة افتخار أو تباهٍ، إذ وحده الغبيّ يمكن أن تزيّن له نفسه أن يفتخر بما لم يتعب في الحصول عليه.
الكنيسة »جسد المسيح« هي إيّاها التي نقول عنها في دستور الإيمان الذي وضعه الآباء في مجمعي نيقية (325) والقسطنطينيّة (380-381) إنّها »مقدّسة«. كيف يقول المؤمنون قولاً كهذا عن جسم هم أعضاء فيه وهم يعرفون حقّ المعرفة أنّهم بشر لهم زلاّتهم وهفواتهم الكبيرة والصغيرة؟ قداسة الكنيسة التي نتكلّم عليها في الدستور هي، في الدرجة الأولى، قداسة سيّد الكنيسة الذي »امتُحن مثلنا« في كلّ شيء »ما عدا الخطيئة« (عبرانيّين 4/15). القداسة، في مفهومها الأعمق والأكثر دقّةً، هي صفة اللَّه وحده. ولا يمكن لأحد أن يدّعيها لنفسه كائنًا ما كان صلاحه. أمّا الذين نسمّيهم نحن »قدّيسون« - واللافت أنّ العهد الجديد كثيرًا ما يطلق هذه الصفة على كلّ من آمن بيسوع واعتمد على اسمه (فيليبّي 1/1)، فإنّنا نطلق عليهم هذا اللقب من باب التجاوز، أي من باب حدسنا الجماعيّ بأنّهـم لبّوا دعـوة اللَّه إيّاهـم أن يشتـركـوا فـي قـداسـته (رومية 1/7؛ 1كورنثوس 1/2). أمّا هم، ففي أكثف لحظات اتّحادهم باللَّه، أي حين يرتضي هو نفسه أن يغدق عليهـم بعـضًا من ضياء وجهه، فيدركون أنّهم لا شيء. ولعلّ من أرقى ما يُفصح عن هذه الخبرة البكر كلامُ النبيّ أشعياء حين تراءى له اللَّه في الهيكل: »فقلت: ويل لي، قد هلكتُ لأنّي رجل نجس الشفتين، وأنا مقيم بين شعب نجس الشفاه، وقد رأت عيناي الملك ربّ المجد« (إشعيا 6/5).
»الكنيسة« لفظ نستخدمه اليوم للإشارة إلى جماعة الذين آمنوا بيسوع واعتمدوا على اسمه. وهي أيضًا لفظ نلجأ إليه أحيانًا للدلالة على ما راكمته هذه الجماعة عبر العصور، أو ما تراكمه اليوم، من معالم هي أقرب إلى ما نعثر عليه في عمل الكتل البشريّة المنظّمة، إذ لا يندر أن تكون للكنائس دوائر مختصّة في الإعلام والإدارة والاقتصاد، وهي غالبًا ما تمتلك مدارس ومستشفيات ومؤسّّسات أخرى شتّى. هذه المعالم ربّما تكون ضروريّة، فالتنظيم في ذاته ليس أمرًا سيّئًا، والثابت أنّ الذين أقاموها كانوا يهدفون إلى إيجاد آليّات تعين المؤمنين بيسوع على أن تصبح شهادتهم للإنجيل في خضمّ المجتمعات التي ينتمون إليها أكثر فاعليّةً وتأثيرًا. ولكن أيًّا يكن المعنى الذي يرتبط في ذهننا بلفظ »كنيسة«، فالأكيد أنّ صفة القداسة التي غالبًا ما تقترن بهذا اللفظ، كما في دستور الإيمان مثلاً، لها مصدر واحد ومسوّغ واحد هو إيّاه ربّ الكنيسة الذي يطهّر كنيسته على الدوام »بحميم الماء والكلمة«، فيظهرها عروسًا له »لا دنس فيها ولا غضن« (أفسس 5/27). قداسة الكنيسة، إذًا، ليست مسألةً بدهيّة، بل هي تفترض عمل الأعضاء الدؤوب على أن يعكسوا، في تفاصيل حياتهم اليوميّة، القداسة التي أُعطيت لهم في المعموديّة المقدّسة في ميثاق يتجدّد كلّما تمثّلوا في ذواتهم كلمة اللَّه وتناولوا خبزه المحيي. هذا ما يشير إليه كتاب اللَّه بلفظ »توبة«، وهي في المصطلح العربيّ الأوبة والرجوع إلى اللَّه، وفي المصطلح اليونانيّ، الذي سُطّر فيه العهد الجديد، تغيّر الذهن، أي إقلاع الإنسان عن فكره وسلوكه القديمين وانخراطه في ما ينسجم مع مشيئة اللَّه.
لقد شاع في أوساطنا أن نتكلّم على القداسة بوصفها مسألةً تختصّ بالإنسان الفرد. هذا يتوافق، ولا شكّ، مع مقاربة الكتاب المقدّس، الذي يغصّ بسير البشر الأفراد الذين عادوا إلى اللَّه بعدما أمعنوا في التغرّب عنه، من داود الملك إلى زكّا العشّار: »هكذا يكون الفرح في السماء بخاطئ واحد يتوب« (لوقا 15/7). ولكنّ الكتاب العزيز يوحي أيضًا، في كثير من مواضعه، بأنّ التوبة أمر يتطلّبه اللَّه لا من الأفراد فحسب، بل من الجماعة ككلّ. ومن ثمّ، نجد أنّ الأنبياء يتوجّهون، في كثير من وعظهم، إلى الشعب مستخدمين صيغة الجمع: »فاغتسلوا وتطهّروا، وأزيلوا شرّ أعمالكم من أمام عينيّ، وكفّوا عن الإساءة، تعلّموا الإحسان والتمسوا الحقّ، قوّموا الظالم وأنصفوا اليتيم، وحاموا عن الأرملة« (أشعياء 1/16-17)، حتّى إنّ يونان النبيّ دعا مدينة نينوى برمّتها إلى التوبة، وكانت النتيجة أنّ مَن تاب هناك لم يكن ملك المدينة فحسب، بل سكّان المدينة جميعهم: »فآمن أهل نينوى باللَّه، ونادوا بصوم، ولبسوا مسوحًا من كبيرهم إلى صغيرهم« (يونان 3/5). ربّما تكون التوبة بوصفها فعلاً جماعيًّا، فعلاً كنسيًّا، أصعب بأشواط من التوبة الفرديّة، لا بسبب العدد فحسب، بل لأنّ الجماعات، من وجهة نظر مجتمعيّة، هي حامية التقاليد والأعراف والمسلّمات، هذه التي غالبًا ما تُفرض على الأفراد بقوّة العادة. فإذا تمرّدوا عليها، نبذتهم الجماعة أو سحقتهم. الكنيسة بوصفها، في وجه من وجوهها، »تجمّعًا بشريًّا« ليست في منأى عن كلّ هذا، إذ هي أيضًا معرّضة لحماية »مسلّمات« أو »أعراف« لا تنسجم بالضرورة مع إنجيل يسوع. والحقّ أنّ تاريخ الكنيسة يعجّ بأمثلة عن اجتماع كثر من بني الكنيسة، وحتّى خدّامها ورعاتها، على الباطل باسم الدفاع عن »الحقّ«، وذلك من التصالح مع بعض الأفكار اللاهوتيّة المنحرفة مرورًا باضطهاد العلم والعلماء ومباركة أنظمة القمع والتمييز العنصريّ وصولاً إلى شراء »سلام« الكنيسة عبر البحث عن كبش محرقة. غنيّ عن القول إنّ خبرات من هذا النوع ليست بنت الماضي فحسب. ولو لم يكن الأمر كذلك، كيف نفسّر أنّ البابا الرومانيّ الحاليّ، وهو يمثّل السلطة العليا في الكنيسة الكاثوليكيّة، يدعو إلى توبة كنيسته توبةً حقيقيّةً ويسعى إلى إصلاحها من الداخل؟
الكنيسة مدعوّة إلى التفكّر في الأخطاء التي ارتكبتها »جماعيًّا« في حقّ أحبّة يسوع الصغار، وإلى الاعتراف بها والعودة عنها. وهي إذا لم تسارع إلى ذلك، صارت حقولنا رميمًا وديارنا خرابًا.l