2016

9- قرأت لك – "المطران جورج (خضر) أديب المقالة وأسقف العربيّة"، كتاب جديد للدكتور جان توما – شفيق حيدر – العدد الثامن سنة 2016

 

المطران جورج خضر

أديب المقالة وأسقف العربيّة

كتاب جديد للدكتور  جان توما

شفيق حيدر

 

»المطران جورج (خضر) أديب المقالة وأسقف العربيّة« إنّه عنوان واحد من باقة كتب جديدة للدكتور جان توما صادرة عن مؤسّّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافيّة، التي أسّّسها حفيد الدكتور سابا ويرعاها بنشوة واغتباط. يحمله على ذلك وفاءان وحبّان: وفاء للجدّ وآخر للغة الأجداد، وحبّ لكلّ منهما، وإخلاص لفكر يسكبه صديق وأدب يدبّجه يراعه. فللمؤسّّسة والكاتب الشكر والامتنان.

يتمحور كتابنا الجديد حول فكر المطران جورج، ابن طرابلس وربيب أسواقها وحاراتها. لن أخوض في الحديث عن الكتاب، ومحتواه، ولكن حسبي منه عنوانه أتوقّف عنده مستقرئًا ومتأمّلاً فيه، أنا الذي تتلمذ منذ يفاعه على فكر المطران (خضر)، ورافقه جليسًا في السهرات، وشارك مع أترابٍ له في التحلّق حوله فيما يقرأ ويشرح. وأمامكم أشهد أنّنا استفدنا كثيرًا من موسوعيّته. جورج خضر ناطق دومًا بالحقّ الذي غذّى فكره وألهمه واختلج في روعه حبًّا وتحنانًا. كنّا إليه في الجلسات. تحلّقنا حول معين معرفة لا ينضب، ليس فقط في مجال الدينيّات بل في مجالات الفكر المتعدّدة والواسعة آفاقُها، وفي مجالات العلم ودهاليزه المتجدّدة باستمرار. كلّ هذا أذكى فضولنا فارتوينا ولمّا نبرأ من العطش، لأنّ الساعي إلى الحقّ يعوزه جهاد العمر والبحث الذي لا ينقطع. ميله إلى الحقيقة ميل إلى المطلق. وإلى المعرفة أخذنا عن هذا المجلبب إنسكاب الحبّ على البشر. ومثل هذا الحبّ أمداؤه لامتناهية، يتجاوز كلّ حدّ ويعبر إلى الناس كلّ الناس مهما اختلفت ألوانهم وتنوّعت مشاربهم وتعدّدت عقائدهم. 

أديب المقالة

لماذا امتهنت أيّها الكاهن الوقور صناعة الكتابة؟ ولماذا تعاطيت أدب المقالة ولم تحصر اهتمامك بالوعظ تؤدّيه داخل البيعة، لتحمل المؤمنين إلى توبة نصوح وتساعدهم ليعودوا إلى حضن اللَّه؟

طرحت عليه هذين السؤالين فأجاب وقال: إنّ اللَّه أقامني معلّمًا. تعاطيت الكتابة من باب الطّاعة أوّلاّ واتّكلت على الربّ الملهم والموحي الذي »مدّ يده ولمس فمي وقال لي: ها قد جعلت كلامي في فمك...«(١)، لتبلّغه العالمين. وبعد ذلك أراك كونيّ الأفق تكلّم الناس ولا تستثني منهم أحدًا، تخاطبهم في موضوعات شتّى لتسبيهم إلى قلب اللَّه. كتبْتَ متسلّحًا بالمعرفة الصافية والمحبّة. ونقلتَ إلى قرّائك، بواسطة ما كتبْتَ، أمرين هما أيضًا المعرفة والمحبّة لتجلس معهم في الرضى.   

وعى المطران (خضر) مسؤوليّته هذه، وعاها تكليفًا من فوق. استهلّ الكلمة التي ألقى يوم رسامته أسقفًا في الكاتدرائيّة المريميّة بدمشق في 15 شباط السنة 1970 بقوله: »الرسوليّ الرائيّ يؤتَى به أسقفًا ليرعى شأن الكلام الرسوليّ، يأخذه من أبعاد ويمدّه إلى أبعاد«(٢). كتب جورج خضر إذًا من أجل نقل الكلام ومدّه إلى أبعاد، على حدّ ما ورد في الرسالة إلى رومية: »إلى جميع الأرض خرج صوتهم وإلى أقاصي المسكونة انبثّ كلامهم«(٣). الكتابة عنده وسيلة لرعاية الناس بنقل الخبر السارّ إليهم »بالمعرفة والفهم«، حسبما يقول إرمياء النبيّ(٤).

ما كانت الكتابة عند أديبنا غاية بحدّ ذاتها. هي صوغ كلام لغاية حدّدها سيادته في مقال له عنوانه »التواصل والوصال« كتبه في 9/9/1984، قال: »الكلمات محطّات للكلمة أو مطلاّت«(5). أمّا عن تسويغ الكتابة عنده، فقد أورد أيضًا: »إنّ التصاقك بالنور ينجّيك وحده وينجّي الآخرين بك... إن انعتقت من هذا الصنم (والمقصود صنم عبادة الذّات) تسعى إلى إعتاق الآخرين. إذا التقت حرّيّة ذاتك وحرّيّة الآخر، تقيمان معَا في ابتهاج الحقّ«(٦).  

وفي الكتب التي صدرت له، وتضمّ بعضًا من مقالاته، قال سيادته: »الكتاب بآن أداة النقل وأداة الحرّيّة... الكتاب هو القبر الذي دفن اللَّه فيه نفسه لينبعث متى حلا له ذلك«(٧).   

أسقف العربيّة

شدّد المطران (خضر)، منذ اعتلائه كرسيّ أبرشيّة جبيل والبترون وتوابعهما، على دور الأسقف في الكنيسة والعالم. قال: »حقّ اللَّه على الناس وحقّ الإنسان على التاريخ جُعِل الأسقف لإعلانهما في الكنيسة، وكانت الكنيسة لإعلانهما في العالم«(٨). ثمّة إشارة صريحة إلى كونيّة الكنيسة هنا.  صحيح أنّ الأسقف مسؤول عن رعاية المؤمنين، إلاّ أنّ هذه الرعاية ليست محصورة بهم. طالما أنّ الرعاية ناتجة من الحبّ، وطالما أن المحبّة شاملة عامّة لا تعرف حدودًا ولا تقف عند قوم دون قوم، إنّها تسع الكلّ ولا تستثني أحدًا. رعاية الأسقف كونيّة الأفق أيضًا، والأسقف الصادق يرعى الجميع بدون أيّ استثناء. بهذا المعنى يقول معالي الصديق النقيب رشيد درباس في مقدّمة الكتاب: »وكان أيضًا يبثّ مسيحيّته الفضفاضة وهو يعلم أن تلامذته ليسوا كلّهم من المسيحيّين« (ص 8).

صحيح أنّ »الأسقف هو ذلك الإنسان الذي يغذّي الحنين إلى الآخرة. هو المهاجر أبدًا إلى محجّة تسري أمامه وتذهب به إلى حياة الأبد. إنّه لا يرسخ في الدنيا ولا يرسّخ فيها قومه«(٩). هكذا يحدّد المطران جورج مهمّة الأسقف لمّا رفعته أنطاكية متهلّلة مطرانًا على جبل لبنان. ولكنّه فيما يشدّد على المرمى الأخير لوظيفة الأسقف في المسيحيّة إلاّ أنّه لا يتجاهل أنّ الدرب إلى السماء، للبلوغ إلى هذا المرمى، إنّما يمرّ في خدمة الأرض ومحبّة مَن عليها. يكتب سيادته: »الكنيسة بشريّة ولو غير ترابيّة. متأصّلة في تاريخ بلادها، تحمل على منكبيها صليب البلد وتصنع البلد بشهادة العدل والتحدّي النبويّ. ترمي كلاًّ من أبنائها في التزام الدنيا... مَن آمن بالتجسّد (وهو أساس المسيحيّة)، يؤمن تاليًا بأنّ أرض بلادنا هي لحمنا، وبأنّنا فيها راصدون لمَن أراد انتهاكها ظالمًا أو معتديًا«(١٠).

ولمّا حاورَتْ لوركا سبيتي المطران جورج في جريدة السفير في 25/11/2016 اعترف، وقد تجاوز التسعين، بصراحته المعهودة، بقوله: »قصّرت في الكثير من الأوقات عن مـحـبّة الإنسان في الواقع وعن خدمته الاجتماعيّة، وقصّرت في تحرير الشعوب من الاستعمار... ومعظم رجال الدين سيدانون في الآخرة على التقصير...«. أهمّيّة هذا الاعتراف كامنـة أيضًا في كونه مشيرًا إلى دور الأسقف في كنيسة المسيح.  

هو أسقف العربيّة صدقًا لأنّه أيضًا خبر العلاقة الأصيلة، الصافية الزلال مع المسلمين، أحبّهم وأحبّوه. وهو على حدّ قول مقدّم الكتاب الوزير النقيب درباس  لمّا أشار إلى أنّ المؤلّف الدكتور توما »قد وضع إصبعه في كلّ منعطف منها (من البحر والنهر والقلعة والسوق والمكتبة والمدرسة والكنيسة والجامع المنصوريّ) وفي الأزقّة، متقصّيًا ما تركته من أثر على نشأة »الخضر«، وتفكيره، وبنيته الروحيّة التي جعلته يؤمن بأنّ الوجود المسيحيّ الشرقيّ إنّما هو وجود مع المسلمين في إطارهم التاريخيّ والحضاريّ«، (ص 7). يقول سيادته عن هذه النشأة: »ولدت في بيت في جوار بوّابة الحدّادين، في حيّ إسلاميّ، تقريبًا بصورة كاملة، والعلاقات بيننا وبينهم كانت بعامّة ودّيّة. وحتّى يومنا هذا، لا يخيّم على هذه المدينة عصبيّة من أيّ طرف. هناك تآلف بين الناس، حقيقيّ وفعليّ«(١١).

وتبقى اللغة العربيّة، وهي عند المطران جورج اللغة الأمّ. كتب فيها، ولم يلجأ إلى سواها إلاّ لمّا توجّه إلى الأجانب. كانت أداته في التعبير عن المصطلحات الفلسفيّة واللاهوتيّة الدقيقة. لجأ في سبيل تطويع لغته إلى الاشتقاق والنحت فأثراها. علّم الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وهي حضارة الكلمة. وما تدريسه هذه المادّة إلاّ الدليل الفصيح على أنّها اللغة المحَبَّبة على قلبه، يقول أستاذ الحضارة: »في الحقيقة إنّ الحضارة الإسلاميّة هي اللغة العربيّة مع كلّ نتاجها الأدبيّ، ولا سيّما الشعريّ...«(١٢).

وأخيرًا أعتذر لأنّي لم أقدّم دراسة مستفيضة للكتاب لسببين اثنين، أوّلهما لأنّني مهما قلت في المعلّم والملهم المطـران جـورج (خضر) أبقى مقصّرًا، وثانيهما صعوبة تناولي، بموضوعيّة كلّيّة، كتابّا يعود إلى صديق يربطني به خالـص المـودّة وبالغ التقدير، قضيت معه زميلاً العقود الطويلة وكان زمنًا ولا أهنأ وأحلى. l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search