2016

6- خاطرة – "ابكوا مع الباكين" - الأب إيليّا (متري) – العدد الثامن سنة 2016

 

ابكوا مع الباكين

الأب إيليّا متري

 

ختمنا مقال »خواطر في التأبين« بحثّنا أنفسَنا على زيارة الحزانى، في بيوتهم، مرًّا ومرارًا (مجلّة النور 7، 2016). وهذه، وصيّةً، تدعونا إلى اعتناقها كلماتُ الرسول: »وابكوا مع الباكين« (رومية 12: 15).

طبعًا، هذا يلزم الكهنة خدّام الرعايا أوّلاً. وأوّلاً تعني أوّلاً، أي لا تنحصر فيهم. فالوصايا، التي تحضّنا على أن نرتقي إلى أنّنا أعضاء في شعب اللَّه، لا تخصّ بعضًا من المؤمنين من دون سواهم.

لست بواصفٍ أهل كوكب آخر إن صدّرت هذه المساهمة بقولي أن ليس جميع الإخوة الملتزمين يعنيهم، اليوم، أن يعزّوا بعضهم بعضًا. وهذا لا يدلّ عليه، فقط، أنّ كثيرين بيننا يتعاطون مع حدث رقاد أخ، يحيا في رعيّـتهم (إن كان ملتزمًا أو لا!)، على أنّه يخصّ مَن يخصّونه (فقط)، بل تراه في خدمنا الكنسيّة أيضًا. وهذه لا أعني بها »خدمة الدفن" التي يؤمّها الأهل والأقارب والأصدقاء عمومًا، بل أيّ صلاة تجري في ذكرى أخ رقد منذ أسبوع أو أربعين يومًا... (أي: التريصاجيون). فما يبدو جليًّا أن ليس جميع المؤمنين يتحرّكون، بعد صلاة التريصاجيون (إن أقيمت في نهاية القدّاس الإلهيّ)، إلى أن يعزّوا مَن يخصّون أخًا راقدًا (هذا إذا لم نذكر أنّ معظمهم يخرجون من الكنيسة قَبْلَ بدئها)، بل القليلون يفعلون. وهذا، مهما برّرناه، لا يعني سوى أنّنا لا نشعر كلّنا بأنّ الرسول يخاطبنا بقوله: »وابكوا مع الباكين«.

إذًا، »وابكوا مع الباكين«، تلزمنا أن نعي أنّ الارتباط بجسد المسيح لا يحكمه لحم ودم قيل فيهما إنّهما »لا يسعهما أن يرثا ملكوت اللَّه« (1كورنثوس 15: 50). فالإنسان، في الجماعة الكنسيّة، إن أراد أن يكون شيئًا في عيني اللَّه حقًّا، شأنه أن يعي أنّ ثمّة بطنًا، هو جرن المعموديّة، تفوق قيمته أيّ بطن آخر، وَلَدَنا جميعًا إخوةً وأقرباء. من هذا الوعي الفذّ، تتشكّل العضويّة الكنسيّة. وهذا يعني أنّ كلّ ما يحدث في الجماعة الكنسيّة، ومنه: لأيّ عضو فيها، يخصّني شخصيًّا. وما يحدث، نتيجته وضعان: فرح أو حزن (لا غير). وفي كلا الوضعين، يجب أن أرى نفسي معنيًّا. لم يقل يسوع في كلامه على الدينونة الأخيرة: »كنت حزينًا، فحزنتم معي«. لكنّ ما قاله (متّى 25: 35 و36)، لا نفهم شيئًا إن لم نرَ الحزن من ضمنه. ففي الواقع، حياتنا في المسيح كلّها أن نعي أنّ الربّ بات يقيم معنا وفينا، أي بات يقيم في كلّ واحد منّا!

أمّا إذا تكلّمنا على وضع الحزانى (ولا سيّما في المدن)، فنبقى في كوكبنا عينه إن ذكرنا أنّهم، هم أيضًا، لم يرتقوا بأجمعهم إلى أن ينتظروا أن يعزّيهم مَن لا تجمعهم بهم قُربى أو صداقة. فمن دون افتراض، يمكننا أن نرجّح أنّه، إن دخل شخص »غريب« على منزلٍ أهلُهُ محزونون، فلن يقدروا جميعهم على أن يردّوا الاستغراب عن وجوههم. حالنا يكاد يكون أنّني لا أشعر بأنّ واجبي أن أعزّيك، وتاليًا لا أنتظر أن تبادر فتعزّيني. يبدو أنّنا، عن قصد أو غير قصد، قد أخذنا ننقل ما يحدث في بلاد بعيدة.

ثمّة حادثة، جرت في بلاد غربة، أخبرني إيّاها طبيبٌ حفر في قلبي مكانًا أبديًّا له. وهذه: أنّ زميلاً له من بلادنا كان هامًّا، في صباح أحد الأيّام، بأن يخرج من بيته إلى مستشفى يعمل فيه. ورأى تابوتًا يحمله أشخاص إلى بيت جار يقطن، مقابل بيته، في البناء عينه. تبعهم من دون إبطاء. منظر التابوت لا يعوزه تفسير. رآه صاحب البيت. وعلم زائره منه أنّ زوجته قد رقدت. عزّاه، وقعد من دون دعوة. اعتذر صاحب البيت. ودخل غرفةً أخرى. ومن فوره، استدعى رجـال الشرطة. أتوا، وأوقفوا الزائر باعتبار أنّه تدخّل في ما لا يعنيه. ولولا أنّ الموقوف اتّصل بزميله (الذي نقل إليَّ الحـادثة)، وأسـرع هـذا إليه، وأقنـع رجـال الشـرطة بأنّ ما فعـله زميله يفعله الناس في بلدهم، لَكانت نهاية الأمر أخرى.

هذه الحادثة، التي ربّما تبدو لمعظمنا كاريكاتوريّة، لا أذكرها عالمًا بأنّنا بتنا كلّنا هكذا، بل خوفًا من أن نغدو في يوم قريب. فالمدنيّة، من دون إنكار خيرها، قد تعزلنا بعضنا عن بعض من دون إذن!

ليس عندنا ما يلزمنا بواجب أن نعزّي بعضنا بعضًا سوى وعينا أنّنا إخوة. الدنيا تعابير. وهذه، في غير حال، شأننا أن نخصبها بوعينا المسيحيّ. لقد وصف تراثنا أنّ الجحيم أناسٌ يقعدون ظهرًا إلى ظهر، أي لا يرى أيٌّ منهم وجه آخر. ولا يليق بنا أن نجعل حياتنا جحيمًا! لا يليق بنا أن ندير ظهرنا إلى أيٍّ كان، ولا سيّما إلى الذي يحتاج إلى وجهنا. عندما اعتبرت المسيحيّة أنّ الكنيسة بيتنا، كانت تريد أنّنا، أينما حللنا أو نزلنا، نرتبط بعضنا ببعض. في الكنيسة. في البيت. في العمل. في الشارع... ربّما نرى، في الدنيا، أشخاصًا، تعنيهم أناقة العلاقات الاجتماعيّة، يبدون أكثر من مسيحيّين كثيرين انطلاقًا إلى الآخرين. وهذا لا نذكره امتعاضًا، بل تثمينًا للخير الذي نعلم أنّه لم يولد مصادفة في الأرض، بل أمّه وأبوه أنّ الربّ أنعم علينا بأن جعل الناس إخوة. في الحزن، أو في الفرح، شأني أن أنسكب على الآخرين، إخوتي، الناس جميعًا. هم منّي، وأنا منهم. وهذا لا يراد منه أن تنتهي الدنيا بنا، بل أن ننفتح جميعنا على أنّ اللَّه ارتضى أن يشاركنا في كلّ شيء، ما عدا الخطيئة. الناس، في أوضاع حزينة، يعوز بعضهم، أو معظمهم، أن يدركوا أنّ اللَّه هنا. وهذا شأني إن كنت أذكر أنّني، في معموديّتي، قد وافقت المسيح في كلّ ما يرضيه، ويمجّده.

أن نصدق في بكائنا مع الباكين، لهو أن نتمثّل، نحن أيضًا، بمَن سيمسح عن عينينا كلّ دمعة (رؤيا يوحنّا 7: 17). هذه من دوافع شركة الحياة الجديدة التي كشفت كلمة اللَّه حقّها وجوهرها.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search