2016

10- قرأت لك – "المعلّم في الزمن الصعب" – غسّان الحاجّ عبيد – العدد الثامن سنة 2016

 

المعلّم في الزمن الصعب

غسّان الحاج عبيد

 

 

الصعوبة سمة الأزمنة في تعاقُبها، ومثلُها الهشاشة، والأزمنة أزمنة الناس، فيكون أنّ هاتين (الصعوبة والهشاشة) لا تكمنان في الزمان بحدّ ذاته وما هما من طبيعته - إذ لا يسعُنا النظر إلى الزمان ورصد حركته بمعزل عن الإنسان الذي يُوعب الزمان مضمونه - بل تكمنان في الإنسان الذي، بارتكابه الشرّ، ينقل إلى الزمان، وبما يُشبه العدوى، صعوبته هو وهشاشته هو، ما يجعل الزمان صعبًا وهشًّا بآن، هذه اللوثة التي هي الخطيئة - خطيئة الإنسان - هي التي تُقبّح زماننا وتفسدُه إذ تطبعه بصعوبة وهشاشة دامغتين تنسبهما، مجازًا، إليه، والحال أنّهما فيه، لكن ليستا منه.

هذه، لَعمري، حقيقة وجوديّة يُدركها الكاتب جيّدًا وما هو بِغافل عنها، فما تُراه يكون، إذًا، »الزمن الصعب« الذي يُصدِّر به كتابه عنوانًا؟ إنّ من يستعرض محتويات الكتاب - وهي كلمات قيلت أو كتبت، في مناسبات مختلفة، في معلّمين ومربّين عملوا في الثانويّة الوطنيّة الأرثوذكسيّة، مار إلياس، ميناء طرابلس، ردحًا من الزمن، وطبعوها بما طبعوها به، وأعطوها قدر ما أعطتهم في حركة وفاء متبادل - والشريط الزمنيّ الذي تنسحب عليه هذه المحتويات يخلُص إلى أنّ هذا »الزمن الصعب« ربّما يكون سنوات الحرب اللبنانيّة التي اندلعت العام ١٩٧٥، فخلّفت ما خلّفته من دمار رهيب، وزرعت في النفوس الرعب والقلق الجدّيّ على المصير، وتركت وراءَها وطنًا داميًا مُشلّعًا بمؤسّّساته وبُناه التحتيّة والفوقيّة. سنوات قاسيات عجاف شهد فيها البلد حركة هجرة كثيفة لم يَعْرِف مثلها إلاّ، ربّما، في سنوات الحرب العالميّة الأولى، هجرة جعلت كلّ صامد في أرضه وداره مغامرًا وشاهدًا، بل مشروع شهيد في كلّ لحظة.

إلى هذا الزمان يبدو لي أنّ الكاتب يؤشّر، وفي تعرّجاته يتحرّك. هو الذي، برؤيته البعيدة الثاقبة، وحكمته الواقعيّة، وإيمانه الراسخ بربّه، ورجائه الذي لا يخيب، نجح، وفي أحلك الظروف وأشدّها حرجًا، في أن يمخر بهذه السفينة التي اسمُها مدرسة مار إلياس عباب الأنوار والأخطار، وأن يعبر بها إلى برّ الأمان، حافظًا إيّاها سالمة من الأذى. وفيما عمّال الإثم يمعنون هدمًا وتدميرًا، كان هو، بتصميمه الصلب وتخطيطه السليم، يشيّد ويعمّر، يبني ويعلّي البنيان، متّكلاً على الربّ وحده، الذي »إن لم يبنِ هو البيت، فباطلاً يتعب البنّاؤون« (مزمور ١٢٧/١).

كذلك نجح شفيق حيدر، بحسن موازنته بين حزم المدير وحسّه الإنسانيّ في أن يخلق في مدرسة مار إلياس جوًّا أُسريًّا بسببه بات العاملون فيها، على اختلاف مواقعهم وصفاتهم، مشدودين بعضهم إلى بعض، وكلّهم إلى المؤسّّسة، بعُرًى حبّيّة وثيقة، كما نجح في أن ينسج، مع المجتمع الطرابلسيّ  بخاصّة والمحيط الشماليّ بعامّة، شبكة علاقات واسعة، تربويًّا وإنسانيًّا، يسّرَت له أن ينتزع لمدرسته مكانة مرموقة بين مثيلاتها وأن يجعل لها، عندما تُذكر المؤسّّسات التربويّة الناجحة في البلد، اسمًا يُذكر. كلّ هذا لأنّ شفيقًا آمن بالمؤسّّسة التربويّة الأرثوذكسيّة ليس، فقط، بصفتها صرحًا تربويًّا تعليميًّا، لكن، وقبل كلّ شيء، بصفتها، في هذه الديار، مدًى شهاديًّا من أمداء الكنيسة.

عزيزي القارئ؛ لا تتوقّع، إذا ما عكفت على الكتاب، أن تقرأ فيه دروسًًا منهجيّة في التعليم وأصوله وتقنيّاته، أو في المعلّم ومواصفاته؛ فإنّما الكتاب مجموعة شهادات شاءها صاحبها لرعيل من المعلّمين والمعلّمات زاملهم، ردحًا من الزمن، أستاذًا ثمّ مديرًا، فعرفهم جيّدًا، وخَبِر فيهم ما خبره من حبّ للمهنة وتفانٍ في ممارستها، وحبّ للمؤسّّسة التي فيها يعلّمون وإخلاص لها، ووفاءً منه لهم، وشهادة للتاريخ، ولأنّ »السراج لا يوضع تحت المكيال بل على المنارة ليضيء لجميع الذين هم في البيت« (متّى ٥: ١٥)، لهذه الاعتبارات كلّها كتب ما كتب.

عزيزي القارئ؛ كثيرًا ما قيل لنا، ونحن بعد حديثو العهد في التربية والتعليم: لا يمكنك أن تمارس هذه المهنة بذهنيّة وظيفيّة وتنجح؛ فحتّى تنجح فيها ينبغي لك أن تمارسها بهمّة رساليّة وروح رسوليّة. ومع أنّ الذي يمتهن التعليم يمتهنه للارتزاق (طبعًا)، إلاّ أنّ هذه المهنة - خلافًا لأيّة مهنة أخرى - بعيدة جدًّا عن أن تكون مجرّد وظيفة يؤدّيها صاحبها ضمن دوام محدّد، وعند انتهاء دوامه يخرج من مكتبه، يُغلق الباب وراءه تاركًا في مكتبه ما عَلق فيه من مشاكل، ثمّ ينصرف، لا همّ يساوره ولا غمّ، وكأنه في سرّه يقول: غدًا نرى، إنّ غدًا لناظره قريب. إنّ مهنة التربية والتعليم بعيدة جدًّا عن أن تكون وظيفة بهذا المعنى. إنّها، بوجه من وجوهها، رسالة إنسانيّة. ذلك بأنّ الذين عُهدت إليك مهمّة تلقينهم هذه المادّة أو تلك، وتثقيفهم بها، إنّما هم تلاميـذك، أي أنّهم، بمعنى من المعاني، رعيّتك. وأنت ترعاهم بالحبّ والتفهّم، بالصبر والتأنّي والرفق، بقدر ما تتعهّدهم بالتربية والتعليم، وترعاهم، عند الاقتضاء، بالتأديب، أجل بالتأديب الذي يقوّم فيهم ما اعوجّ، أو يردّهـم إلى صواب حـادوا عنه، بالتأديـب الـذي لا يقتل فيهم الرغبة في المعرفة بل يذكّيها، عملاً بقول النبيّ داود: »...أدبًا أدّبني الربّ وإلى الموت لم يسلّمني« (مزمور ١١٨: ١٨). وإذا حملت دفاترهم أو أوراقهم معك إلى بيتك، لتدقيقـها وتصحيحـها، فإنّك غـالبًا مـا تحـمل معهم همومهم. أجل، إنّ هموم طلاّبك ترافقك إلى بيتك، ولست أغالي لو قلت إنّها تأكل معك في الصفحة، بل كثيرًا ما تدخل معك إلى قدس أقداسك، إلى مخدعك و»تسرقك من نومك«.

أجل، إنّ مهنة التربية والتعليم رعاية ودراية، وأنت معلّمًا، ينبغي لك أن تملك على طلاّبك قلوبهم وأن تلامسها؛ فإذا ما لامست قلوبهم، تُلامس، إذ ذاك، عقولهم، فيفهمون. إنّ محبّتك لطلاّبك جسر عبورك إليهم وهي جسر عبورهم إليك. هذه هي التربية وهذا هو التعليم: حركة حبّ متبادل بين ناقل ٍللعلم وطالب له، ومن حركة الحبّ هذه ينشأ الفَهم. هذه هي الرؤية، وفاشل قبل أن يبدأ كلّ من يُقبل على مهنة التربية والتعليم من خارج هذه الرؤية. ولمّا كانت هذه بحاجة إلى أمثلة حيّة تُبرهن صحّتها، حَسُن لشفيق حيدر أن يسدّ لنا، في كتابه الجديد هذا، هذه الحاجة: أمثلةٌ حيّةٌ من لحم ودم، معلّمون ومعلّمات نذروا ذواتهم لأجل طلاّبهم، فإذا هم قامات ولدت من رحم النور فغَدَت، على دروب التربية والتعليم، مشاعل ومصابيح.

عزيزي القارئ؛ ستَلمس، وأنت تقرأ الكتاب، أنّك برفقة نماذج في التربية والتعليم تُحتذى. وأنت تتابع النموذج وتُصغي إليه، وبقدر ما تتابع وتصغي تكتسب، وتكوّن لنفسك فهمًا خاصًّا، وتختبر متعة فريدة. فلئلاّ أعطّل عليك هذه المتعة، متعة قراءة الكتاب والسفر على متنه، أكتفي بهذا القدر من التعليق. فقط إشارة أخيرة، وهي أنّ متن الكتاب تُزيّنه صور معبّرة تُسعِف الكلمات إذا الكلمات قصَّرت، وتساهم في بلورة هويّته.

ختامًا ينبغي لنا، وبالحدّ الأدنى، أن نعترف للكاتب بجهده، وأن نُسجّل له هذه الكتاب الشيّق كثمرة طيّبة من ثمرات العمر. بالحدّ الأدنى ينبغي لنا أن نقول: شكرًا شفيق حيدر.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search