الجهاد والاستشهاد
في الفكر المسيحيّ
الأب يوحنّا ياسمين
الشهداء: (في كتابات القدّيس أفرام السريانيّ):
أحبّ القدّيسون اللَّه بكلّ نفوسهم، لذلك لم تستطع لا التجارب ولا العذابات ولا الإغراءات أن تفصلهم عن محبّته. أمّا نحن على العكس، فنعيش في الراحة والترف، فماذا نفعل عندما يأتي ذلك اليوم الرهيب ونرى القدّيسين اللابسي الجهاد يظهرون علامات الجراح والعقوبات الرهيبة؟
نحن، ماذا سنظهر حينذاك؟ أيّة إنجازات؟ هل هي المحبّة والإيمان به؟ هل نظهر هدوءًا أم وداعة؟ رحمة أم مشاركة في آلام الآخرين؟ صلوات نقيّة أو تخشّعًا صافيًا؟ مغبوط هو الذي عنده مثل هذه الإنجازات لأنّه يشترك مع القدّيسين ولا يطرد خارج خدر النور، بل يكون له الدالّة أمام المسيح وملائكته.
فهلمّ إذًا يا أخي وصر تلميذًا لهؤلاء القدّيسين. هم يعلّمونك الإيمان الكامل والمستقيم، محبّة اللَّه الصادقة الحارّة، مشاركة الآخر في الألم والتشوّق إلى الخيرات المستقبليّة. لقد تغلّبوا على النار المشتعلة بقدرة اللَّه والإيمان الكامل، فتغلّب أنت أيضًا على الرغبة الرديئة التي تشتعل باستمرار. تغلّبوا على الطغاة بالوداعة وطول الأناة، فتغلّب إذًا أنت أيضًا على سلطان الغضب. لقد صار أولئك شهداء بصراحة، فصر أنت أيضًا باستمرار شاهدًا كاملاً للحقّ، أولئك جاهدوا جهاد الدالّة، فجاهد أنت أيضًا حتّى تنال الإكليل وتوجد في الملكوت وارثًا معهم متمتّعًا بالفرح السيّديّ.
فجهادنا اليوميّ، هذا، مع كلّ ما نتعرّض له من محن وتجارب، وضيقات، ليس إلاّ استشهادًا، فليس الشهيد فقط من قطع رأسه، ونال الإكليل، بل كلّ من احتمل، من أجل المسيح، كلّ شدّة واحتقار وإهانة، فالقدّيس موسى الحبشيّ يعتبر كلّ من يحتمل ظلمًا من أجل الربّ شهيدًا. وكلّ صبر واحتمال تظهره محبّة بالربّ ولأجله، تمنح عليه إكليل الاستشهاد من دون ريب. لذلك فنحن إن وهب لنا أن نتألّم من أجل المسيح، فلنفرح بالألم وبكلّ ضيق، وليكن لنا ثقة بأنّ الإكليل سيتوّج هامتنا إذا صبرنا حتّى النهاية مؤمنين بقول الربّ: من يصبر إلى المنتهى يخلص.
الجهاد و الاستشهاد في الفكر المسيحيّ (٣)
الاضطهاد :
مسألة الاضطهاد في الكنيسة هي قصّة المسيحيّة الأولى وسبب انتشارها في كلّ الأزمنة والأمكنة، حيث ارتبط الاضطهاد بالمسيحيّة وهو يسير معها جنبًا إلى جنب حتّى الاستشهاد لغاية يومنا هذا. وأوّل اضطهاد تعرّضت له المسيحيّة كان من اليهوديّة، إذ ولدت المسيحيّة في وسط المجتمع اليهوديّ، ورفض اليهود السيّد المسيح وصلبوه، واضطهدوا أتباعه بالقتل والتعذيب أو بالوشاية وإثارة الجماهير أو بالمقاومة الفكريّة.
بعدها دخلت المسيحيّة الناشئة في صراع طويل مع الوثنيّة المتمثّلة في الأمبراطوريّة الرومانيّة بما له من سلطة الدولة وقوّة السلاح، ووصل هذا الصراع إلى حدّ الإبادة والاستشهاد، وكان الصراع غير متكافئ إذ لم يكن للإيمان الجديد ما يسنده من قوّة زمنيّة أو سلاح اللَّهمّ إلاّ ترس الإيمان ودرع البرّ وخوذة الخلاص وسيف الروح (أفسس6). واستمرّ الصراع حتّى مطلع القرن الرابع حين قبلت الأمبراطوريّة الرومانيّة الإيمان بالمسيح وسقطت الوثنيّة.
بدأ اضطهاد المسيحيّة في روما على يد نيرون في القرن الأوّل المسيحيّ، وانتهى على يد قسطنطين في القرن الرابع، وكان القصد منه إبادة المسيحيّة. ولكن، على العكس، كان سببًا في تنقيتها وإظهار فضائلها في بطولات شهدائها، الأمر الذي أدّى إلى انتشارها ودخول الوثنيّين في الإيمان المسيحيّ، و كما عبّر عن ذلك العلاّمة ترتليانوس »أنّ دماء الشهداء بذار الكنيسة«.
كنيسة المسيح أبواب الجحيم لن تقوى عليها (متّى 16: 18).
ليس بمقدورهم أن يحرقوا إلاّ نسخًا عن كنيستنا المقدّسة، إذ إنّ كنيستنا الحقيقيّة هي في السماء، يعجزون عن تدميرها، حتّى ولو كانوا مدجّجين بكلّ ما أرسل لهم من أسلحة جهنميّة مدمّرة. وإذا قتلوا ألوفًا من الكهنة والأساقفة، فإنّهم لم يقتلوا إلاّ خدّام كاهننا الحقيقيّ الذي هو الربّ يسوع المسيح، الموجود في كلّ مكان، ولا يطاله الرصاص. فكلّ المجازر وكلّ الشرور التي فعلوا كانت بدون طائل. إنّها مثل الضرر الذي أنزله أحد ملوك الفرس بالبحر، عندما أمر جنوده بأن يجلدوا الأمواج بالسياط.
أيّها المؤمنون المقهورون في الأرض، لنصلّ كلّ حين ونتذكّر: »عندما هبّت العاصفة على التلاميذ وهم في السفينة، كان يسوع في ذلك الوقت نائمًا نومًا عميقًا في وسط العاصفة الهوجاء. لأنّه كان يعرف شيئًا لم يكن التلاميذ يعرفونه، وهو أنّ كلّ شيء تحت السيطرة. مع أنّ الأمر لم يبدُ كذلك في نظر تلاميذه، لكن بكلمة واحدة منه سكنت العاصفة«.
وتعلّم بطرس منه في هذه التجربة الحصول على النوم الهادىء، فبعد سنوات عدّة عندما قبض عليه كان نائمًا في السجن نومًا ثقيلاً لأنّه كان يثق باللَّه الذي كان يقود حياته. وذلك هو السلام الحقيقيّ. تأكّد أنّ كلّ شيء تحت سيطرته، حتّى ولو بدا لك أنّه نائم، لنصلّ كلّ حين من أجل أن يرحمنا الربّ الإله لنقيم معه في ملكوته السماويّ.
الثورات وشرك الحرّيّة:
ما نريد أن نتناوله في نهاية بحثنا هذا، يعكس لنا الحيرة والريبة التي نواجهها، بسبب بعض الجماعات والفرق الإرهابيّة الشائعة في بلادنا تحت اسم »الحرّيّة«. والمثل الذي قدّمه لنا الربّ يسوع المسيح عن أب محترم وولدين يعلّمنا كيف نتعامل مع ما يسمّى »الحرّيّة«؟ وكيف يمكن أن نعرف إن كانت حرّيّتنا حقيقيّة أو مزيّفة؟
هذا النصّ يمكن أن يجسّد ليس فقط على المستوى الفكريّ كأفراد، بل يمكن أن نعكسه أيضًا على مستوى الجماعة أي (الكنيسة، المدينة) بل حتّى الوطن الحبيب. الذي نستطيع أن نتعلّمه من قصّة محبّة الآب، أو كما نسمّيها الابن الضالّ أو الابن الشاطر، أنّ هناك فخًّا في الحرّيّة علينا أن نكون حذرين كيلا نسقط في براثنه.
في إعلان حقوق الإنسان، هناك ما يسمح بأن تثور الشعوب من أجل حرّيّتها، لكن علينا أن نعرف أنّ ثورات الشعوب هي ليست كما يجري في بلادنا الشرق أوسطيّة، ثورات الشعوب من أجل الحرّيّة هي الثورات التي لا يستخدم فيها العنف والإرهاب والمدافع والدبابات والبنادق والمسدّسات أو أيّ نوع من أسلحة الحروب. إنّها الثـورات التي تقوم على شعب تائب عاد إلى رشده وتواضـع بشـدّة إلى أن وجّه صراخه إلى الإله العادل والمحقّ طالبًا غفرانًا، لأنّه هو من قام برشوة الموظّف فعلّمه أن يرتشي، لأنّه هو من رمى القمامة في الشارع فعلّم موظّف البلديّة ألاّ يقوم بمهامّه في جمع النفايات، لأنّه هو من حاول أن يتهرّب من الضرائب المترتّبة عليه فعلّم موظّف الماليّة أن يقبض ثمن تهرّبه من دفع الضرائب المترتّبة عليه.
نحن علينا أن ندرك أنّ اللَّه لن يستجيب لثورات أو حرّيّات لا تجسّد محبّته وتعاليمه. حرّيّة الابن الضال كانت تعني التخلّص من اللَّه، كما أنّ الحرّيّة أو ما يسمّى بالديمقرطيّة المطلوبة في بلادنا الآن من البعض تعني التخلّـص مـن اللَّه ومـن القـانون. الحرّيّة الحقيقيّة هي الحـرّيّة التي تحت سلطان اللَّه: »فإن حرّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا« (يوحنّا 8: 36). الحرّيّة الحقيقيّة موجودة فقط في اللَّه عبر ابنه يسوع المسيح. قال أحد الساسة المشهورين، عندما عرضت عليه رئاسة محكمة العدل: »حرّيّة الإنسان لا تأتي إلاّ عبر إنجيل الربّ يسوع المسيح«.
المطلوب اليوم إن كنتم تتطلّعون إلى الحرّيّة، فأعلموا أنّ الحرّيّة التي يريدها اللَّه لنا ليست كالحرّيّة التي نراها الآن في بلداننا العربيّة في وضعها المغدور، إنّها الحرّيّة التي في المسيح يسوع التي تدعونا إلى أن نعترف بأننا أخطأنا بحقّ اللَّه وبحقّ أوطاننا وبحقّ المجتمع.
ندعوكم اليوم إلى حياة الحرّيّة الحقّ البعيدة عن الفخاخ والأشراك التي عاشها الابن الضالّ. ندعوكم اليوم إلى الحرّيّة التي لا تعزلك بل تذكّرك بأنّك تنتمي إلى اللَّه.
ندعوكم إلى الحرّيّة التي لا تخرجكم، بل تذكّركم بأنّكم جميعًا تحت القانون متساوون.
ندعوكم لا إلى حرّيّة شخصانيّة، بل إلى حرّيّة في المسيح يسوع.
ندعوكم لا إلى حرّيّة مزيّفة وغاشّة.
ندعوكم لا إلى فوضى شعواء.
ندعوكم إلى حرّيّة مسؤولة تجاه اللَّه، تجاه الوطن، تجاه المجتمع وتجاه البيئة.l