2016

8- البحث عن المعنى – د. جورج معلولي – العدد السادس سنة 2016

البحث عن المعنى

د. جورج معلولي

 

 

لا تعرف الكنيسة الأرثوذكسيّة انفصامًا بين الكشف الطبيعيّ (أي فهم الطبيعة ومعاينة اللَّه في الطبيعة) والكشف الذي يفوق الطبيعة. فالكشف الطبيعيّ يُعرف ويُفهم بشكل كامل في ضوء الكشف الإلهيّ؛ أو قل إنّ الكشف الطبيعيّ يمنحه اللَّه للبشر ويسنده بشكل مستمرّ بعنايته الدائمة التي هي فوق الطبيعة والفاعلة في داخل الطبيعة في آن واحد. فالله يعبّر عن نفسه في الطبيعة والتاريخ والكتاب المقدّس وكلّ هذه التجلّيات مركزها ومصدرها الابن المتجسّد كما يشرح القدّيس مكسيموس المعترف. يتفتّح الكشف الإلهيّ ويثمر في الكشف الطبيعيّ مرشدًا الطبيعة المخلوقة في حركتها الداخليّة نحو اللَّه.

محتوى الكشف الطبيعيّ هو الكون والإنسان المتّصف بالوعي والحرّيّة داخل هذا الكون. غير أنّ الإنسان ليس فقط شيئًا من الأشياء الممكن دراستها ومعرفتها داخل هذا الكشف، بل هو شخص وفاعل ومعاين لكشف اللَّه في الطبيعة. الإنسان والكون موجودان بسبب فعل اللَّه الخلاّق ومستمرّان في الوجود بعنايته الدائمة. قابليّة الكون لأن يُعرف تقابل قدرة الإنسان على المعرفة. وكأنّ الكـون المختوم بالمعقوليّة (أي في قابليّته لأن يُعقل ويُفهم) يُفصِح عـبر نظـامـه وقوانينـه الداخـليّة الدينـاميكيّة أنّه صنع كائن عاقل وأنّ الحوار قائم عبر هذا الكون بين هذا الخالق والإنسان المخلوق.

يبدو الإنسان مختومًا أيضًا بهذه المعقوليّة (بسبب انتمائه لهذا الكون) ولكنّه أيضًا واع لهذه المعقوليّة. فالإنسان وعي الطبيعة. لا يستطيع الإنسان أن يعي نفسه من دون وعيه للطبيعة. كلّما وعى الإنسان الكون وما فيه كلّما أصبح أكثر وعيًا لنفسه. الإنسان قطب الطبيعة ومعناها ولكنّه أيضًا بحاجة إلى الطبيعة. يكشف الإنسان وعيه وقدرته العاقلة بشكل عميق في تلمّس قصد اللَّه في المخلوقات أي كلمات اللَّه الخلاّقة التي هي ألف كلّ مخلوق وياؤه. وكأنّ مبتغى الكون أن يتأنسن أي أن يستدخله الإنسان في وعيه ومعرفته وجذبه إلى اللَّه. لذلك ليس الإنسان فقط كونًا صغيرًا بل هو كون كبير يحمل في نفسه طبيعة الكون من دون أن يخسر الوعي الذي يميّزه. هل الكون في مراتب وجوده البدائيّة الكيميائيّة المعدنيّة والعضويّة هدف نفسه؟ أو هو يجد غايته في طبيعة الإنسان الواعي؟ كلّ طبقة من طبقات الوجود في الكون مشدودة إلى طبقات أعلى في التعقيد والتنظيم والوظائفيّة حتّى يظهر الإنسان قمّة هذه المسيرة التصاعديّة. يحرث الإنسان تراب هذا الكون بيديه وبفهمه فيعيد تنظيمه ويحوّله ويستخدمه ويضع عليه بصماته. كلّ هذا يستدعي أن يعرف الإنسان الكون وأشياءه بالمعرفة التحليليّة العلميّة، ولكن أيضًا بالفهم العميق الذي يفتش عن المعاني في الكون وفي نفسه وراء كلّ تحليل وصناعة واستخدام.

أمّا الإنسان فهو مشدود إلى ما يتجاوز الكون. يختنق الإنسان إن لم يسع إلى المطلق. فهو يرغب في أن يحبّ وأن يكون محبوبًا. هو سعي نحو حبّ لا ينتهي، حبّ مطلق. وهذا غير ممكن إلا ّفي علاقة مع مطلق شخصانيّ، أي  مع شخص مطلق وغير محدود. يسعى الإنسان إلى أن يكتشف جمالاً أسمى، وأن يحقّق جمالاً أسمى، وأن يتّصل بحقيقة أعمق وأن يستمرّ في تجدّد لا يتوقّف. في كلّ هذا يسعى الإنسان إلى المطلق لأنّه شخص. وهذا لا يتحقّق إلاّ في شركة كاملة بين أشخاص، كاملة في الوجود والحبّ والجمال، أي في شركة مع اللَّه الثالوثيّ. يبقى وجود الإنسان فقيرًا إلى المعنى من دون هذا التوق إلى من هو أعلى. فقط بهذا الانشداد يفهم الإنسان كيف يكون كاهن الخليقة وراعي المعاني في بساتينها.

من دون هذا الوعي يظهر الموت مجهضًا كلّ بحث وكلّ توق. وقد يعتقد المرء في حزنه أمام الموت أنّ الإنسان حلقة من حلقات الطبيعة غير الواعية، وأنّه مجرّد وسيلة أو ألعوبة في مسرحيّة الحياة والموت وصراع الأجناس من أجل البقاء. لذلك جاءت قيامة يسوع تأكيدًا لأوّليّة الإنسان-الشخص ضدّ كلّ عبثيّة وكشفًا نهائيًّا أنّ الحبّ أقوى من الموت وأنّ الحياة الإلهيّة نبع كلّ المعاني.

ليست المعاني أوهامًا من نسج الخيال. لا يمكن للإنسان أن يحيا من دون معنى ومن دون وعي لهذا المعنى. بطريقة واعية يبحث الإنسان عن معنى وجوده الذاتيّ، وفي تحليل أخير هو يبحث عن المعنى الأقصى الذي هو سبب وجوده وبقائه ونموّه واكتماله. ولهذا البحث صفة الإطلاق، أي هذا الانجذاب الجذريّ الكلّيّ القوّة الذي لا ينفكّ يزيد على ناره نارًا في توقه وفعله واستمراره. الإنسان مفتوح لمعانٍ تتجاوز الكون، والكون مفتوح عبر الإنسان لهذه المعاني. عبر الفهم والوعي والحرّيّة، عبر الأفعال وعبر الإلهامات التي لا تنضب، يكتشف الإنسان نفسه منفتحًا على أبعاد تفوقه وتفوق الطبيعة وإن تأصّل هو نفسه في هذه الطبيعة التي ولد منها. وخلف كلّ هذا اتّصال الإنسان-الشخص باللَّه الثالوث. هذه علاقة مبنيّة على الحرّيّة. هل يمكن لهذه العلاقة أن تكون أدنى في نوعيّتها من العلاقات الإنسانيّة الشخصيّة حيث يحبّ الإنسان إنسانًا آخر بحرّيّة وبذل وغنى متبادل؟ وحدها إمكانيّة الاتّصال مع الكامل الأزليّ تهب الإنسان اكتمال المعاني واكتمال المحبّة، فتكون علاقاته البشريّة سبلاً لاكتشاف وجه اللَّه وفي الوقت عينه ينير وجه اللَّه كلّ هذه العلاقات الشخصيّة بين البشر. هذا ليس فقط تصاعدًا من الإنسان إلى اللَّه، بل تنازل من الشخص الإلهيّ الذي يتحرّك بمحبّته نحو أصدقائه البشر. في كلّ شيء يعطي اللَّه نفسه للإنسان ويعطي الإنسان نفسه إلى اللَّه.

كلّ ما في الكون يجد اكتماله في الإنسان ويجد الإنسان اكتماله في اتّحاده باللَّه. هل تراتبية المعاني هذه منتج من منتجات هيكليّة الإنسان النفسيّة - العقليّة؟ أم الطبيعة البشريّة مهيّأة في أصالتها لتلمس آثار اللَّه في الكون وفي نفسها؟ هذا خيار بين كون مغلق على نفسه في عبثيّة الموت واللامعنى وكون شفّاف لما يتجاوزه ومتحرّك نحو المعنى. ليست هذه المعاني بحدّ ذاتها براهين علميّة. إن هي إلاّ مراق تتصاعد النفس بها إلى أن تشفّ وتقتبل الإله المتنازل إليها بكشوفات لا تنتهي. l

 

المرجع:

 

Dumitru Staniloae. Orthodox Dogmatic Theology. The Experience of God. Holy Cross Orthodox Press.

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search