الخلاص كتألّه
د. جورج معلولي
اللَّه الخالق هو الكائن الوحيد الذي هو فوق الموت والفساد، أي فوق المحدوديّة والضعف. يتدخّل الخالق شخصيًّا حبًّا بالبشر ليغيث الكائن المخلوق الذي أغلقت أمامه الأبواب. كيف يتدخّل الإله من دون أن يحدّ من حرّيّة الإنسان ومن دون أن يصيب سلامة الطبيعة البشريّة بأدنى خـلل؟ بعكــس الحيلة الإبليسيّة التي نصبت للبشر مصيدة بقوّة غير بشريّة، لا يظهــر اللَّه قدرتـه الفائقة باغتصـاب الإنسان ولا بإرهابه. هذا هو عدله كما يشرح القدّيس غريغوريوس بالاماس إذ إنّ سلطانه كامل الصلاح وليس تسلّط طاغية يفرض إرادته بقانون كاسر. نحن في مناخ يختلف تمامًا عن المفاهيم الحقوقيّة التي سادت في العصر الوسيط، حيث اعتبر الخلاص إرضاء للعدل الإلهيّ. يرى اللاهـوت الشـرقيّ فـي سرّ الخلاص تعبيرًا عن صلاح اللَّه غير المحدود ومحبّته المجّانيّة. بهذا العدل الإلهيّ، يعطي اللَّه للبشر فرصة الاستجابة الحرّة لقصده وتدبيره.
أراد اللَّه أن تصدر الغلبة على الموت من الطبيعة البشريّة نفسها، لأنّ الإنسان عرّض نفسه إراديًّا لسلطان الموت. ولكن، أنّى للطبيعة البشريّة هذه الغلبة؟ وكيف تجمع هذه الطبيعة الغالبة الموت كلّ البشر لتنقل لهم هذه الغلبة؟ كان على آدم الجديد ألاّ يكون فقط إنسانًا بل أيضًا إلهًا، أن يكون هو نفسه حياة وحكمة، عدلاً ومحبّة، حتّى يحقّق الحياة الجديدة لآدم القديم، ويعطي الفرصة لكلّ شخص بشريّ، أن ينضمّ إلى هذه الخليقة الجديدة، متجاوزًا تشرذم الطبيعة البشريّة. لذلك »أصبح ابن اللَّه وكلمة اللَّه، الوحيد الذي من غير خطيئة، ابنًا للإنسان، غير قابل للتغيير في ألوهيّته، ومن دون لوم في بشريّته« (القدّيس غريغوريوس بالاماس). تغلبه الطبيعة البشرية نفسها التي وقعت تحت إغرائه في القديم. هذه المهمّة لم يكن لأيّ إنسان أو ملاك القدرة على تحقيقها، بل وحده الذي »حُبل به وتجسّد في حشا البتول الأموميّ، وبقي إلهًا غير متغيّر«. يعيد الكلمة الإلهيّ خلق الطبيعة البشريّة التي صنعها في البدء على صورته. »لا يكتفي اللَّه بإعادة جبل طبيعتنا بيديه بطريقة مدهشة، ولكنّه يحتويها في نفسه. لا يتّخذها فقط ليقتلعها من الفساد، بل يلبسها بطريقة لا ينطق بها باتّحاده بها بلا انفصال، مولودًا معًا كإله وإنسان، من امراة... ليخلق إنسانًا جديدًا« (القدّيس غريغوريوس بالاماس).
يظهر هذا التدخّل الإلهيّ كامتداد للتدبير الإلهيّ الذي قصد منذ خلق آدم الاتّحاد التدرّجيّ للخالق والمخلوق. لا تتغيّر وجهة التدبير الأوّل، بل تتحقّق متّخذة مأساة سقوط الإنسان. تأسيس الكون ذاته منذ البدء، ينظر نحو الابن المتجسّد الذي به وله خلق كلّ شيء. خلق آدم الأوّل من أجل آدم الثاني وكوّن على صورته »حتّى يستطيع يومًا ما أن يحتوي النموذج« (القدّيس غريغوريوس بالاماس). كلّ الطبائع المخلوقة وكلّ الرتب الملائكيّة كانت تائقة إلى هذا الهدف: التدبير الإلهيّ-الإنسانيّ الذي خدمته من البدء إلى النهاية. يظهر لاهوت القدّيس غريغوريوس بالاماس، في رؤيته المسيحانيّة للتجسّد، أكثر اتّساعًا من مجرّد الفداء المتّصل فقط بخطيئة الإنسان الأوّل. تمتدّ هذه الرؤية من الخلق إلى تحقيق ملكوت اللَّه. لذلك ليس الخلاص في المسيح شفاء للطبيعة البشريّة فقط، بل هو تحقيق للهدف الأوّل، أي اتّحاد الخالق والمخلوق فيكتمل بتأليهها في المسيح. يتحقّق توق الإنسان إلى التألّه في تجسّد الابن. محور التدبير الإلهيّ الأساس وهدف خلق كلّ الكائنات هو تجسّد الابن وتأليه الإنسان. فالابن هو الألف والياء، الكائن والذي كان والذي يأتي (رؤيا 1 : 8). »لقد صار ابن اللَّه إنسانًا كي يظهر أنّ طبيعتنا خلقت حسنة من اللَّه... وأنّ قرابتها مع اللَّه هي بهذا المقدار أنّها تستطيع أن تتّحد به في أقنوم واحد؛ ولكي يكرّم البشرة، هذه البشرة القابلة للموت بحدّ نفسها، بحيث لا تظنّ الأرواح المتكبّرة نفسها ولا تُعتبر أكثر كرامة من الإنسان... بحجّة أنّها من دون جسد« (القدّيس غريغوريوس بالاماس).
تتحقّق في التجسّد العلاقة الأيقونيّة بين الوجود الإلهيّ والوجود البشريّ، ويظهر لنا أنّ الخطيئة ليست من الطبيعة البشريّة، وأنّ الجسد ليس بحدّ نفسه سبب الموت. ليس لأيّ مخلوق حياة في نفسه. فصار الابن المتجسّد ضمان القيامة والحياة الأبديّة، والوسيط الحقيقيّ بين الطبيعتين اللتين يحقّق انسجامهما في نفسه.لم يرغم سقوط الإنسان اللَّه على التجسّد، بل كانت هذه المبادرة مدفوعة من محبّة اللَّه الفائقة، ليحرّر الإنسان من ضعفه ويفتح له باب التألّه. »ماذا نقول أيضًا؟ إن لم يتجسّد ابن اللَّه، لم يكن للَّه أن يظهر في وجوده الشخصيّ، بل فقط كطاقة قابلة للتأمّل في المخلوقات، كما يقول أتباع برلعام وأكندينوس« (القدّيس غريغوريوس بالاماس).
يتمّ تأليه الطبيعة البشريّة في وحدة أقنوم الابن المتجسّد، كما أوضحها مجمع خلقيدونية. تضمن هذه الوحدة تبادل الخواصّ أو الصفات بين الطبيعتين، بحيث تصبح النعمة غير المخلوقة ومجد الألوهة سطوع البشريّة في المسيح. لا تتبدّل الطبيعة البشريّة بل تُمسح باتّحادها الأقنوميّ بطبيعة الإله في الابن، وتتقبّل ملء القوى الإلهيّة لطبيعة الثالوث. كلّ عطيّة إلهيّة للخليقة وبالأخصّ تأليه الطبيعة البشريّة هي حدث محوره الثالوث. تنزل النعمة الإلهيّة غنى ألوهيّة الثالوث- على هذه الأرض، وتستقرّ نهائيًّا في الطبيعة البشريّة التي اتّخذها (»قنّمها«) أقنوم الابن.
أوضح القدّيس أثناسيوس أنّ كلمة اللَّه »اتّحد بالبشرة وصار بشرًا، إنسانًا كاملاً حتّى يتّحد البشر في الروح الواحد. هو اللَّه الذي يحمل البشرة ونحن البشر نحمل الروح«. تجسّد الابن بدء هذا التأليه لأنّه نقل لنا نعمة الروح القدس. لكنّ تأليه الطبيعة البشريّة في شخص يسوع المسيح حدث خاصّ ووحيد في الاتّحاد الأقنوميّ الذي تمّ فيه. لا يتّحد الأشخاص البشريّون أقنوميًّا باللَّه، بل بالاشتراك في القوى بنعمة الروح غير المخلوقة. طبيعة المسيح البشريّة نبع النعمة المؤلِّهة وأساس الكنيسة. يفتح المسيح الباب واسعًا للبشر، لكي يصبحوا ممسوحين، وكأنّهم بلا بدء ولا نهاية بالنعمة وليس بالطبيعة. يستمرّ حضور المسيح بامتداده عبر هؤلاء الممسوحين، أي القدّيسين في العالم، فهم أيقونات حيّة للمسيح، كما يقول القدّيس مكسيموس المعترف. قداسة الكنيسة اشتراك في قداسة المسيح وهذا الاشتراك ظهور إلهيّ أي كشف للمسيح. تجديد كلّ إنسان كشخص مميّز، يكمله تدبير الروح القدس كتجسيد شخصيّ لما أكمله المسيح في تجسّده. عطيّة الروح هذه تكشف قوّة حضور الابن الوحيد على الأرض، نارًا تنتقل بجسده قوّة قيامة وحياة أبديّة، استنارة للقدّيسين وعنصر وجود لكلّ الكائنات. لا يعود النور الذي أضاء التلاميذ على جبل التجلّي خارجيًّا، بل مضيئًا لكلّ المؤمنين من الداخل لأنّ الابن ضمّهم إلى جسده المنير. l
المرجع:
Le salut comme divinisation dans l’œuvre de saint Grégoire Palamas. Stavros Yangazoglou. Contacts numéro 222 (avril-juin 2008)