المتروبوليت أنطونيوس الصوري
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس
فؤاد الصوري - ميسون حدّاد
دخلنا دير السيّدة »القديم الأيّام« في بكفتين، فاستقبلنا التاريخ برائحة العراقة والعتاقة، ثمّ أضاء لنا نور التجديد الذي غيّر وجه الحجر، وأصالة التراث، المقدّم بالحبّ، التي جذبت قلوب البشر.
في رحلتنا مع أبونا »يونان«، لم يدخلنا جوف الحوت، فيض محبّته انعكس فرحًا قياميًّا أّسبغ على زيارتنا. في المعيّة، أنت دائمًا في معيّة »أبينا السماويّ« كل شيء يبدأ و ينتهي عنده. معه، »السيّد« هو الأوّل والآخر، الألف والياء، وهذا لم يلق علينا من ضرورة التعليم، بل كانت لغة الكيان.
تجالسه فينشقّ حجاب الثوب الأسود وتعتريك المهابة من حضورٍ للَّه فيه، ويأخذك بمحبّته وتواضعه إلى سرّ »الأخ«.
عندما قصدنا دير السيّدة في بكفتين للقائه، لم نكن نعلم أنّنا أمام عريسٍ أنطاكيّ سيزفّه المجمع المقدّس إلى عروس البقاع »زحلة«. ولم يكن هو يعرف أنّ الحوت سيقذفه على ضفاف البردونيّ كي يجدد دعوة أهل كنيسته في زحلة والبقاع إلى الربّ. لم يكن يعرف أنّه سيقبل أن ينزله أحد عن صليبه كي يسمّر على صليب أكبر، لأنّ الذي له يعطى ويزاد.
س.: أبونا يونان، ولكلّ من اسمه نصيب. هل هربت يومًا من وجه اللَّه كما شفيعك؟ وهل اختبرت جوف الحوت؟
ج.: في الحقيقة لم أهرب يومًا، بل لا أزال هاربًا ولا أزال في جوف الحوت، أطل أحيانًا خارجًا ثمّ أعود للتوّ، وأقول للَّه أخرجني من هنا أرجوك.
س.: يونان أقام لثلاثة أيّام فقط...
ج.: صحيح، ألف يوم في عيني الربّ كيوم أمس الذي عبر، فلا تحسب الأيّام عند اللَّه كما عندنا، هو سيّد الزمان. أنا، بالأساس، عندما اخترت أو بالأحرى استجبت لنداء الربّ إليّ لطريق الكهنوت، كان قدوتي الربّ يسوع نفسه وحياته. كنت أحبّ منهجه، كيف عاش مع الناس وبشّرهم وخدمهم. وأنا كنت أظنّ أنّ هذا هو طريقي أن أتمثّل بالربّ يسوع وأخدم الناس. هذا الدافع كان وراء اختياري الطريق. بالتأكيد وراء هذا كانت هناك علاقتي مع الربّ التي أوصلتني إلى هنا. هذا الخيار كان فيه شيء من الحبّ الجنونيّ ولكن كان فيه أيضًا من الكبرياء، لأنّي كنت أريد أن أخدم الربّ من دون أن أعتمد في معيشتي على الكنيسة. لهذا، قرّرت أن أتعلّم، فدرست الهندسة، وأن أشتغل وأخدم الكنيسة وأردت أن أكون حرًّا. هذا كان فيه كبرياء ولم أرَ هذا في وقتها، لهذا تعلّمت وعملت، وفي خيارات العمل اخترت ما يساعدني على استمرار خدمتي في الكنيسة. كنت مقتنعًا بأنّ على الإنسان، أحيانًا، أن يترك الفرص التي تفتح له أبواب الحياة المهنيّة، ولكن تأخذ منه كلّ وقته ليختار شيئًا آخر يساعده على تأمين معيشته. ولكن يترك له وقتًا لذاته وحياته الروحيّة وشهادته وخدمته للربّ.
صحيح أنّه كان لديّ هذا الحبّ للربّ وهذا التوجّه للتكرّس الكلّيّ له، وما زال، ولكن عبر هذه المسيرة وفي الوقت عينه كانت هناك تجارب تدفعني بالاتّجاه المعاكس. طريق ربّنا صعب، كان هناك الكثير من العراقيل، كنت كثيرًا ما أقول لنفسي: »شو بدي بهالطريق، فلأعد أدراجي وأعش كباقي الناس«، »شو بدي بوجعة هالراس«، ولكن حينما كنت أصل إلى اليأس وأقترب من الهرب »يلقطني ربّنا ويردّني«.
في النهاية تكرّست. العام 2001 رُسمت إيبوذياكونًا على يد سيّدنا جورج (خضر)، متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما، في دير مار يوحنّا، دوما. تمّت رسامتي في دير لأنّي أردت أن أرتبط بدير لكوني عازبًا، وهكذا أبقى مرتبطًا بعائلة روحيّة تسندني. ثمّ في العام 2005 رسمت شمّاسًًا إنجيليًّا، فكاهنًا.
في كلّ هذه المراحل كان ثمّة فكر يجرّبني يقول لي، من الأفضل لك أن تهرب لأنّ طريق الربّ صعب. أمّا بالنسبة إلى كبريائي، في موضوع المال، فقد أعطاني الربّ أن أعيش »على قدّي«، كما يقولون، مع أنّني كنت أشتغل وكان موقعي المهنيّ جيّدًا جدًّا.
في مرحلة لاحقة تركت عملي، وعندها الربّ هو من كان يعيلني ليعلّمني: »لست تعمل ما أنت تريد ولكن كما أريد أنا أي ما يبنيك«، أي »كسّرْلي راسي« قليلاً أو كثيرًا ولا يزال، كي أتواضع لأنّني متكبّر كثيرًا.
إذا كان الإنسان غير متواضع، ويختاره الربّ يبقى »يكسّرلو راسو« لأنّه يحبّه. هذا الكلام لا يقبله الكثيرون ولا يفهمونه. الكتاب يقول: »اللَّه يجلد كلّ ابن يحبّه«، وينظر الإنسان متسائلاً: »ما هذه المحبّة؟! معقول هذا؟!«. لكنّ أحكام الربّ غير أحكام البشر. الغاية أنّ يتنقّى الإنسان، والإنسان لا يتنقّى إن لم يتواضع، إلاّ إذا عرف أنّه لا شيء، ولا يعرف أنّه لا شيء إلاّ عندما لا يبقى معه شيء، وعندما يبتلعه الحوت، في الأعماق، حيث لا يرى أحدًا ولا يرى من أحد، في الظلمة، مخبّأ.
عندما تمّ تصييري راهبًا في هذا الدير (بكفتين)، في السادس عشر من حزيران 2012، ولبست الإسكيم الملائكيّ الكبير، عندها طلب سيّدنا أفرام (كرياكوس)، راعي أبرشيّة طرابلس والكورة وتوابعهما، من الأشمندريت توما (بيطار) (أبي الروحيّ) مدبّر عائلة الثالوث القدّوس في دوما ورئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ، أن يقول العظة، قال لي يومها إنّك ستصير »ورقة منْسيّة«. هذا ما أختبره اليوم كيف يكون الإنسان ورقة منسيّة، في حين أنّه يظنّ بأنّ لديه الكثير من الطاقات التي يريد أن يستثمرها فيفكّر قائلاً في نفسه: »أريد أن أعمل وأن أشتغل، ما هذا، لماذا حبستني هنا؟! لديّ الكثير لأعمله... الربّ يكون قد وضعه في جوف الحوت، يقول له: »الآن أنت وقتك هنا في الجوف ولم يحن الوقت بعد لتخرج إلى نينوى، أنت الآن في الجوف لأنّ يونان لم يعرف نفسه إلاّ في جوف الحوت، هناك عبّر عن حبّه للربّ وهناك أسلم نفسه له«، هناك يقول الإنسان: »صرخت إلى الربّ في ضيقي فاستجاب لي«، وهناك يتكلّم على أشواقه بالعودة إلى هيكل الربّ. يونان النبيّ أنا أشبهه لأنّه نبيّ معاند، اللَّه أراد إرساله إلى أهل نينوى الوثنيّين ليقول لهم: »توبوا«. يونان كان يهوديًّا، واليهود هم شعب اللَّه، فكيف يرسله اللَّه إلى أناس وثنيّين كي ينقذهم؟!. هؤلاء الوثنيّون هم بعيدون عن الربّ ويجب أن يتأدّبوا لأنّ حياتهم بعيدة عن اللَّه. هكذا كان يفكّر يونان، ولأنّ اللَّه أراد أن يرحمهم لم يقبل يونان أن يذهب بحسب أمر اللَّه إلى نينوى، فجرّب الهروب من وجه الربّ. ولكن، من يستطيع الهروب من وجه الربّ؟! يونان افتكر أنّه يستطيع. ربّنا، وأثناء هرب يونان، جعله يبشّر الوثنيّين الذين على متن السفينة، الذين آمنوا بإله يونان. ثمّ ذهب إلى نينوى عندما لفظه الحوت وتكلّم مع أهل المدينة فتابوا كلّهم. فخرج من المدينة، وجلس حزينًا قائلاً في ذاته: »إنّهم تابوا واللَّه رحمهم«. حينئذ ينبت له اللَّه اليقطينة التي تظلّله، ثمّ ينخرها الدود، فيحزن، فيكلّمه اللَّه معاتبًا له كيف يحزن على يقطينة عمرها يوم واحد، ولا يقبل أن يحزن اللَّه على ربوات من البشر وبهائم كثيرة قد ضلّوا، لأنّ اللَّه تهمّه الخليقة كلّها. وينتهي السفر ويونان حزين ولا يعجبه ما حصل، مع أنّه رأى قوّة اللَّه ورحمته؟!!...
هذا هو يونان!...
س.: البداءة في الكنيسة كانت، منذ الطفوليّة، عبر جوقات الترتيل الكنسيّ في الميناء مع الأستاذ ديمتري كوتيّا، المرتّل الأوّل. ثمّ رئيسًا لفرع الميناء، ثمّ لمركز طرابلس، فنائبًا لرئيس سندسموس، ودرست اللاهوت في سان سيرج، واليوم أنت رئيس لدير سيّدة بكفتين.
ج.: سأقول لك سرًّا. أنا منذ الطفوليّة كنت شقيًّا جدًّا. أختي الصغرى دخلت الجوقة الثالثة. كان لدى الأستاذ كوتيّا ثلاث جوقات، واحدة للصغار وواحدة للمراهقين وأخرى للكبار. أختي الصغرى أصرّت عليّ أن أذهب معها فذهبت وتعلّمت الترتيل واستمرّيت في الجوقة حتّى صرت قائدًا فيها. دخلت أسرة الطفولة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة سنة واحدة ثمّ تركت. ثمّ دخلت أسرة طلائع النور من طريق صديق، وبعد فترة تغيّر المرشدون واستلم الفرقة الأخ كوستي بندلي، طيلة فترة المرحلة الثانويّة وأوّل مرحلة الجامعيّين. بعدها، سلّمنا الأخ كوستي إلى مرشدة أخرى، إيرين كوتيّا زوجة أنطوان بيطار، وهما معروفان بعملهما البشاريّ في الحركة، والتزم معنا في الفرقة كواحد من أعضائها...
عندما دخلت الحركة في عمر المراهقة، بداءة ما كان يشدّني وجود الرفقة من الشبان والفتيات و النشاطات، من ثمّ شخص الأخ كوستي هو الذي شدّني وأصبح لي المثل الأعلى، إذ أحببت تواضعه ومحبّته الكبيرة وعلمه، وكيف كان يوصل لنا الإيمان بلغة نفهمها قريبة منّا، وكيف كان في الاجتماع يعطي كلاًّ منّا الفرصة ليعبّر عن رأيه، لتقوى شخصيّته ويتعلّم الإفصاح عن أفكاره. تأثّرت فيه كثيرًا. خلال هذه الفترة أصبحت هوايتي القراءة في الإنجيل، أحببت كثيرًا عشْرة الكتاب المقدّس. أيضًا، تعلّقت بالربّ يسوع وأحببته، وأردت أن أكون مثله، وكان في هذا شيء من الكبرياء وكثير من المحبّة للربّ. ثمّ وهبني الربّ عطيّة حبّ من لدنه، فمشيت »بقوّة تلك الأكلة«، وما زلت...
س.: كيف ترى العلاقة بين الإكليروس والعلمانيّين في الكنيسة. واليوم، برأيك، كيف تنظّم هذه العلاقة؟
ج.: نحن نؤمن بوجود الكهنوت الملوكيّ. كلّنا، بالمبدأ، كهنة وملوك وأنبياء. آدم الأوّل كان كاهن الكون، اللَّه وضعه في الجنّة ليحفظها ويهتمّ بها وينمّيها. فالكهنوت هو، بالضبط، أنّ يتقبّل الإنسان عطايا اللَّه الحياة والوجود- ويحفظها وينمّيها بطاعة الكلمة التي/الذي من الآب في روح اللَّه، ويردّها للخالق مع الشكر في فرح المحبّة الإلهيّة. هذا ما نفعله في القدّاس الإلهيّ: »التي لك ممّا لك«، أي الكهنوت الملوكيّ هو تقبّلنا الحياة والنعمة الإلهيّة وكلّ عطايا اللَّه وتنميتها بالنعمة حتّى تثمر فينا وفي العالم. وعندما تثمر نقدّمها للَّه ثمرة شكر وحبّ. اللَّه أعطانا الكون والوجود عربون حبّ، وهذا الحبّ نحن نقبله، ونعيده للَّه مع الشكر. لذلك، في العهد القديم، كانوا يقدّمون بواكير الثمار للربّ في الهيكل. فنحن كلّ ثمرة في حياتنا نقدّمها للربّ، لأنّ حياتنا كلّها عمل ليتورجيّ. الإنسان كائن ليتورجيّ. الذهبيّ الفم يقول: عندما ننتهي من خدمة المذبح ننتقل إلى خدمة مذبح الأخ.
نحن الكهنة لدينا هذه النعمة الخاصّة، أي أنّ اللَّه أعطانا أن نقيم الأسرار، وأعطانا نعمة، أيضًا، هي في الوقت عينه لكلّ الناس المؤمنين بالربّ، ولكن بشكل مخصّص أكثر للكهنة، وهي الرعاية. فالإكليروس سيسألون عن هذه النعمة أمام اللَّه. الربّ قال لبطرس: "»أتحبّني؟ ارع خرافي«. لم يقل له أتحبّ خرافي، بل أتحبّني، لذلك الكاهن، أي المفروز للكهنوت، هو الشخص الذي يحبّ الربّ، وتاليًا يحبّ خرافه ويبذل نفسه عن الخراف، هذا هو الكاهن عمليًّا وإيمانيًّا.
أمّا التسلّط، فيأتي من نقص المحبّة والخوف من الآخر. يقول القدّيس يوحنّا الحبيب: »المحبّة تطرد الخوف خارجًا«. فحيث توجد المحبّة الحقيقيّة لا يوجد الخوف، وتاليًا لا يوجد تسلّط. لذلك، عندما نرى أنّ هناك تسلّطًا من إكليروس على علمانيّين أو من علمانيّين على إكليروس، وهذا موجود أحيانًا تجد مجلس رعيّة يتسلّط على الكاهن وأحيانًا تجد أنّ كاهنًا أو أسقفًا يتسلّط على الرعيّة، هذا يأتي من ضعف الإيمان ومن ضعف معرفة اللَّه ومحبّته.
الكلّ يجب أن يكونوا إخوة وخدّامًا لبعضهم البعض، ورعاة لبعضهم البعض. ولكن، في البيت هناك الأب وهناك الأمّ وهناك الأخ الكبير. الأب ليس هو الأخ الكبير. الكنيسة هي الأمّ، الرعاة هم الأب والرعيّة هم الأبناء. الأولاد يرعون أهلهم والأهل يرعون أولادهم وإلاّ لا تكون الحياة العائليّة سليمة. لذلك، في الكنيسة، يجب أن توجد هذه الديناميّة في التعاطي بين الرعاة والخراف. لكن، هذه الديناميّة ليست أيّ شيء آخر سوى الحبّ، لأنّ طبيعة العلاقة بين أقانيم الثالوث القدّوس، أي في اللَّه، هي هذا الحبّ الذي يعيشونه الواحد مع الآخرين. لذلك، ديناميّة العلاقة بين الأقانيم الإلهيّة، إذا جاز التعبير، هي ديناميّة الحبّ، عطاء الذات. وفي الكنيسة، أيضًا، على الرعاة أن يعطوا ذواتهم بالحبّ للرعيّة، وعلى الرعيّة أن تعطي ذاتها بالحبّ للرعاة. هذه هي الكنيسة بالعمق، لأنّ الراعي، بالمعنى العميق للكلمة، هو الربّ وليس الإكليريكيّ. لذلك، نحن نكون رعاة بقدر ما يكون الربّ فينا هو الذي يفعل، ونكون رعاة بقدر ما نحبّ إلهيًّا. المحبّة عندما تكون بشريّة فقط هي ساقطة، أنانيّة، لكن عندما يدخل فيها روح الربّ تصبح إلهيّة، لا تطلب ما لنفسها.
من هنا، لا أرى إشكاليّة في العلاقة بين الإكليروس والعلمانيّين، بقدر ما أرى مشكلة عمق في الحياة الروحيّة عند الإكليروس والعلمانيّين. استطرادًا، أجد أنّ كلمة علمانيّ غير دقيقة، لأنّ كلمة علمانيّ باليونانيّة تأتي من كلمة »لاووس« وهي في الكتاب المقدّس تعني »شعب اللَّه«. فبهذا المعنى استعمل كلمة علمانيّين، بمعنى شعب اللَّه.
ليست الإشكاليّة في »من يتسلّط«. هذه الإشكاليّة تنشأ فقط عندما يكون هناك مرضى سلطة. لهذا السبب، وحده، نجد التسلّط إلإكليريكيّ أو العلمانيّ. أمّا الذين يحبّون الربّ، الذين الربّ هو أساس حياتهم وغاية حياتهم، هؤلاء لا خطر عليهم ومنهم أن يتسلّطوا. نحن نعيش في شركة. في الكنيسة الأولى، كانوا كلّهم فكرًا واحدًا وقلبًا واحدًا. عمليًّا الناس، في الكنيسة، عندما يكون المسيح هو ختنهم لا يوجد خطر التسلّط في ما بينهم. لكن عندما يصبح للناس ختن آخر غير المسيح عندها يكون هناك خطر التسلّط، لأنّ كلّ واحد يتبع أهواءه.
أمّا الحلّ، فيكمن في أنّنا في مسيرة جهاد. أفلاطون يقول إنّ الفلاسفة في المدينة الفاضلة هم الذين يجب أن يحكموا، ونحن، في الكنيسة، نقول إنّ القدّيسين هم الذين يجب أن يكونوا الرعاة، لذلك نخاطب الرعاة قائلين: »بارك أيّها الأب القدّيس«، »قدس الأب«. لأنّنا نفترض أنّ من يدخل في الكهنوت يجب أن يكون متقدّسًًا. في كتاب الذيذاسكاليا Didascalia أي تعاليم الرسل الاثني عشر، يقولون إنّ المطران يجب أن يكون متألّهًا، والكاهن مستنيرًا...
س.: في هذه الأزمنة الصعبة في سورية ولبنان، برأيك ما هو دور الكنيسة، عمومًا، والحركة، خصوصًا، لنكون شهودًا للمسيح الحيّ؟
ج.: عندما يسأل الناموسيّ الربّ ما هي الوصيّة الأولى والعظمى؟ يقول له الربّ: الوصيّة الأولى هي أن تحبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك وقوّتك نفسك و ذهنك، والثانية، مثلها، تحبّ قريبك كنفسك.
في هذه الأزمنة الشهادة هي، أوّلاً، أن نبقى على محبّة الربّ، ألاّ نكفر به ولا نقول له ماذا تفعل بنا، ألاّ نقول له لماذا تركتنا؟ أنت ظالم، ولا نقول له نحن نصلّي لك، فلماذا لا تستجيب؟ صلّينا لك، فلماذا لا نزال في الألم والموت؟ أن نبقى على الإيمان، هذه هي الشهادة الأولى. الكنيسة لم تزدهر روحيًّا وعدديًّا وشهاديًّا، في العمق، إلاّ في زمن الاضطهاد. لذلك، في ما بعد، في زمن الأمبراطوريّة البيزنطيّة نشأت الشهادة البيضاء، »ليس لنا ههنا مدينة باقية...«. نحن لا نحيا، فقط، لهذه الدنيا، نحن نطلب الزمن الآتي. نحن مدعوّون إلى أن نتذوّق، هنا على الأرض، ملكوت اللَّه في داخلنا. الشهادة هي أن يرى الناس ملكوت اللَّه في وسطنا، في هذه الجماعة الكنسيّة، في هذه الجماعة الحركيّة، أن يروا صورة عن الملكوت. ما هو الملكوت؟ الملكوت هو حيث اللَّه هو الملك، هو السيّد المطلق، هو المحور؛ حيث اللَّه هو النور. اللَّه محبّة، كما يقول يوحنّا الإنجيليّ، لذلك، يكشف الملكوت للناس فينا عندما - وكما كانوا يقولون عن المسيحيّين الأوائل- يقول الناس عنّا »إنّهم يحبّون بعضهم بعضًا«. نحن علينا أن نحبّ بعضنا بعضًا أوّلاً. كيف يستطيع أحد أن يقنعني، بأنّه إن لم يكن يحبّ، أمّه أو أباه أو أخاه، أنّه يحبّ جاره؟ هذا غير معقول. أوّل شهادة هي أن نكون جماعة محبّة، من ثمّ هذه المحبّة تفيض للآخرين.
هناك قصّة تروى عن البطريرك غريغوريوس الرابع، تقول إنّه في أيّام الحرب العالميّة الأولى صارت مجاعة، فأتى أشخاص مسلمون يطلبون شيئًا من الخبز، وشمّاس البطريرك لا يريد أن يعطيهم، فقال له البطريرك: »أرني رغيف الخبز، هل مكتوب عليه مسلم أو مسيحيّ؟!«. فقال له: »لا«. فأجاب البطريرك إذًا عليك أن تعطيه لمن يسألك من دون أن تسأل عن دينه أو جنسه.
س.: قوافل من الشباب رحلت، هل تؤيّد الهجرة في ظلّ قساوة الأيّام؟ وبرأيك ما الدور الذي تستطيع الكنيسة أن تقوم به لتحدّ من هجرة الشباب؟
ج.: القصّة ليست مع أو ضدّ. في هذا الموقف لا نستطيع أن نحمّل الإنسان فوق طاقته. إذا كانت هذه الظروف تسبّب الانهيار للبعض، فليغادر. المسيحيّون الأوائل، عندما هاجم الرومان أورشليم هربوا، لكنّ هروبهم كان للفائدة لأنّهم ذهبوا وبشّروا. لا نستطيع أن نقارب هذا الموضوع من باب الخير والشرّ، أو الحقّ والباطل، أو الخطأ والصحّ. القصّة قصّة شهادة شخصيّة وجماعيّة. يقارب الموضوع بحسب النموّ الروحيّ للشخص وقدرته على تحمّل العيش في ظروف تتطلّب منه التضحيات إلى حدّ كبير. كما يقارب بحسب درجة وعي المؤمنين لوحدتهم وعيشها، وارتباطهم العضويّ بعضهم ببعض. فالإنسان الذي يأتي مرّة في السنتين إلى الكنيسة - هذا على سبيل المثال - أقول له هنا: »مطلوب منك صبر وشهادة«، ولكنّنا لا نستطيع أن نزيد حمله فوق طاقته، جيّد أنّه لم يزل يقول بأنّه مسيحيّ. كلّ إنسان يطلب منه بحسب إيمانه ودرجة محبّته للربّ ومقدار وعيه لشهادته المسيحيّة، كما يقول بولس الرسول: »لا يحمّل اللَّه نفسًا فوق طاقتها«، فمن نحن البشر لنحمّل الناس ما هو فوق طاقتهم؟!...
س.: هل نحن، الذين ولدنا في هذا الشرق، مطلوب منّا أن نشهد هنا، حيث ولدنا؟
ج.: هذا الكلام صحيح بالمبدأ، فمن يقدر على ذلك يفعل حسنًا. لكن من لم يقدر، فهل يذهب إلى جهنّم مثلاً؟! أو نعتبره من الكافرين؟! لا طبعًا، من أنا لأدينه؟! ربّما يذهب إلى مكان آخر ويشهد للمسيح أكثر ممّا أشهد أنا للربّ هنا. في النهاية الربّ حاضر ويعرف ما هو الأنسب لكلّ منّا. لكن الأهمّ أن يطلب الإنسان معرفة مشيئة الربّ في حياته لإتمامها أوّلاً. نعود ليونان النبيّ، الذي كان هاربًا في السفينة ولا يريد تبشير أحد، ولكن ما حدث معه؟ صعد السفينة وبشّر من فيها، من دون أن يكون قصده ذلك.
س.: ما هو دور الكنيسة لتثبّت الشباب في أرضهم؟ أو على الأقلّ في إيمانهم؟
ج.: الكنيسة ليست دولة، الكنيسة هي جسد المسيح، وتاليًا جماعة مؤمنين بالربّ، يحبّون بعضهم البعض، وهم في المسيح أعضاء بعضهم لبعض، وهم »قلب واحد وفكر واحد، وكلّ شيء مشترك في ما بينهم«. هل تجدين في رعيّة، اليوم، كلّ شيء مشتركًا في ما بين أبنائها؟!...هكذا يجب أن تكون الكنيسة...
أنت تتكلّمين على الكنيسة، أي الإكليروس والمؤسّّسة، هذه محدودة، تفعل ما تستطيع، ولكنّ الكنيسة هي جسد المسيح. هذه الكنيسة إذا أرادت أن تعمل ما يرضي الربّ، يكون أعضاؤها فكرًا واحدًا وقلبًا واحدًا ويكون كلّ شيء مشتركًا في ما بينهم، وهكذا يثبّتون بعضهم البعض، ولا يعود هناك شخص محتاج. ولكن، هل هذا موجود؟ إذًا، لا نستطيع أن نلوم محدوديّة المؤسّّسة.
الكنيسة لا تزول من منطقة، إلاّ عندما يزول الأبرار، هذا هو السبب الوحيد لذلك. في قصّة سدوم وعمورة زالت هاتان المدينتان لأنّه لم يبق فيهما أبرار. الكنيسة »أبواب الجحيم لن تقوى عليها«، إذا زالت من منطقة ما هذا لا يعني أنّها ستزول، هي باقية إلى دهر الداهرين. لذلك، إن كان العدد صغيرًا أو كبيرًا الكنيسة باقية. من يستطيع أن يبقى في أرضه لأنّه يحبّ الربّ ومتمسّك بالشهادة له هنا ولا يهاب الموت، فليبق. لأنّ الموت ربح في هذه الحالة، كما قال بولس الرسول: »الحياة لي هي المسيح والموت ربح لي«. هؤلاء الثابتون في إيمانهم وأرضهم وشهادتهم سيكونون الكنيسة بغضّ النظر عن عددهم. في الأزمنة الصعبة، حيث كان هناك هرطقات كان هناك أفراد حفظت فيهم الكنيسة، مثلاً، القدّيس مكسيموس المعترف قال: »أنا الكنيسة«. ربّنا حفظ الكنيسة في هذا الشخص. أيضًا القدّيس مرقس الأفسسيّ، بسببه حفظ الإيمان القويم...
س.: ما هي رؤيتك للدور البشاريّ الذي يمكن أن يقوم به الدير (سيّدة بكفتين) في هذه المنطقة؟
ج.: يقول الربّ يسوع، لا يشعل سراج ويوضع تحت المكيال، بل فوق المنارة ليضيء للجميع. الدور البشاريّ، برأيي، هو أن أتوب وأن أعرف نفسي وأن أتعلّم كيف أحبّ الربّ و الناس. فإذا أنارني اللَّه، عندها هو يعرف ماذا يفعل بي وأين يضعني لأنقل نوره إلى العالم. البشارة في العمق هي أن نستنير بنور اللَّه، وأن نترك اللَّه يقودنا في خدمة كلمته كما يشاء.
ليعطنا اللَّه أن نقبل استقبال كلّ إنسان يطلب أن ينمو في علاقته معه، وإذا كان هناك ما نستطيع أن نقدّمه له ضمن طاقتنا، نقدّمه. أتمنّى أن يصير هذا الدير ممتلئًا بالرهبان.
سيّدنا أفرام (كيرياكوس)، راعي أبرشيّة طرابلس والكورة وتوابعهما، يقول، إنّ ركيزة الكنيسة عمودان أساسيّان، الرعيّة والدير. ليعطنا اللَّه أن نصبح رهبانًا حقيقيّين. أنا راهب بالاسم ولكن في الواقع لست كذلك.
س.: هل خروج الرهبان من الدير لمساعدة الناس هو من ضمن التقليد الأرثوذكسيّ؟
ج.: طبعًا هو من ضمن التقليد الأرثوذكسيّ. القدّيس أنطونيوس الكبير، كان يخرج من الصحراء في أيّام الهرطقة الآريوسيّة، ويذهب للتبشير بالإيمان القويم، يذهب إلى السجون يشدّد المحبوسين من أجل الإيمان.
الرهبان يخرجون من الدير عندما تقتضي الحاجة إلى ذلك، لأنّ ما يقتنونه من معرفةٍ للَّه، ليس لهم، بل حتّى ينقلوه للآخرين، ليس فقط بالكلام بل بالخبرة. بولس الرسول يقول: »الويل لي إن لم أبشّر«، و لكنّ البشارة لا تعني، دومًا، أن يذهب الرهبان إلى الناس، بل تكون أيضًا حين يأتي الناس إليهم في طلبهم كلمة للخلاص.
في أنطاكية، كلّ دير ينطبع بشخص رئيسه أو أبيه الروحيّ. لذلك، لدينا روح واحدة وأنماط متعدّدة. الروح الأساسيّة تكمن في أن نتمسّك بروح الصلاة والعمل والتأمّل وقراءة الكلمة والخدمة، في ما بعد كلّ دير يترجم هذا بحسب ما ينعم به عليه الربّ، ثمّ ضمن طاقة رهبانه.
الناس يتبعون النور، فإذا وجدوا نورًا في هذا الدير فسيأتون إليه. ليعطنا اللَّه من نوره كي نستطيع أن نكون أمينين، ولو قليلاً، له ولمحبّته.
(هنا انتهت المقابلة وأمّا الأسئلة الأربعة التالية فكانت بعيد انتخابه متروبوليتًا لزحلة)
١- عندما انتخبك المجمع المقدس كنت خارج لبنان. كيف تلقّيت الخبر؟
تذكّرت يونان النبيّ الهارب من وجه اللَّه. قلت لتكن مشيئة الربّ وليكن اسم الربّ مباركًا.
طبعًا دهشت من أحكام اللَّه، وما زلت إلى الآن، ولن أنفكّ، أتأمّل في سرّ حكمته الإلهيّة، هو الذي يرفع الإنسان من حبّ إلى حبّ، فيه، ليصير هو المصلوب في حامل حبّه الذي يختاره لتتميم مشيئته، فيصير الحامل محمولاً والمحمول حاملاً في سرّ وحدة الحبّ الإلهيّ المصلوب لأجل حياة العالم.
ها إنّي قبلت الصليب، عساني أحمله في المسيح بذلاً لخرافه الناطقة أمانةً وحبًّا...
٢- ماذا تقول للمجمع الذي سمع صوت الروح فانتخبك مطرانًا؟
ماذا عساني أقول لآبائي ومعلّميّ؟!... ليهبني الربّ أن أتعلّم من خدمتهم وبذلهم ومحبّتهم لكنيسة المسيح التي افتداها بدمه، وليهبنا الربّ أن نكون جميعًا، ودائمًا، فكرًا واحدً وقلبًا واحدًا وخدمة واحدة لمجد اسم اللَّه، وأن نكون سامعين، باستمرار، لما »يقوله الروح للكنائس«...
٣- ماذا تقول للمؤمنين عمومًا وللحركيّين خصوصًا؟
للربّ ينبغي أن يزيد ولي أن أنقص، هذه هي رسالة كلّ منّا أن يصل الناس والخليقة أجمع بالمسيح، لأنّه منه وبه وفيه الحياة. في المسيح نحن لا ننفصل. كما قال الربّ لتلاميذه إنّه معهم إلى منتهى الدهور، كذلك في المسيح نكون مع أحبّائنا دائمًا، وبقدر ما نتّحد بيسوع بقدر ما نتّحد بالذين هم فيه. لا وجود للمكان والزمان في المسيح. المسيح هو مطرح لقيانا ووحدتنا من الآن وإلى الدهر. لا حدود تفصلنا في المسيح لا في الزمان ولا في المكان. المهمّ أن نبقى على »محبّتنا الأولى« في كلّ فجر ليبقى هو ونبقى نحن، فيه، إيّاه في هذا العالم... هذه رسالتنا وبشارتنا وشهادتنا...
٤- ما هي رسالتك لأبناء أبرشيّة زحلة وبعلبك وتوابعهما؟
أقول لهم إنّي أحبّهم في المسيح، وسأسعى إلى أن أكون لهم أبًا وراعيًا بما يرضي الربّ، وأنّي ممتدّ نحوهم جميعًا لنتعاون لما فيه خير المؤمنين وحسن الشهادة لكنيستنا وإيماننا وخلاص الجميع بنقاوة وانفتاح. أتمنّى أن نستطيع بتعاوننا جميعًا أن نستفيد من طاقات الجميع رجالاً ونساء، شبّانًا وشابّات وأطفالاً، وألاّ يكون بيننا محتاج. رجائي أن يهبنا الربّ أن نكون كلّنا واحدًا لمجد اسمه القدّوس، وأن نكون خميرة صالحة في مجتمعنا وبلدنا، وأن نتعاون مع جميع أبناء المنطقة لما فيه الارتقاء ببيئتنا وبلادنا لخير الإنسان.
سيّدنا أنطونيوس ألا أدامك اللَّه فرحًا مسكوبًا من لدنه فوق كلّ وجع في أنطاكية.l