2015

4. قايين وهابيل ومحبّة القريب - د. نقولا أبو مراد – العدد الثامن سنة 2015

 

قايين وهابيل

ومحبّة القريب

نقولا أبو مراد

 

في إطار الروايات البدئيّة التي تفسّر الحالة الإنسانيّة، وبعد مشهد آدم وحواء وسقوطهما في تجربة اعتبار كلّ منهما إلهًا، مشهد آخر من مشاهد الحالة الإنسانيّة، يتمثّل في قصّة قايين وهابيل. هذه القصّة، رغم قصرها، إلاّ أنّها تحتوي على معانٍ أساسيّة في السياق الذي أشرنا إليه، وكذلك بالنسبة إلى ما سيلي من روايات في التكوين وفي العهد القديم بشكل عامّ. يختصر مشهد قايين وهابيل حقيقة إنسانيّة جديدة، يبرزها كاتب التكوين، ألا وهي ميل القويّ والغنيّ إلى ظلم الضعيف والفقير.

في خطّ رواية آدم وحوّاء ذاتها، وبنتيجة تمرّدهما على وصيّة الربّ، تأتي رواية قايين وهابيل، لتبرز تبعات هذا التمرّد.

يحمل اسم كلّ منهما وصنعته الحقيقة التي يمثّلها. اسم قايين مشتقّ من القنية، أو الاقتناء، »اقتنيت رجلاً من عند الربّ«. يعمل في حراثة الأرض وزرعها. يفسّر عمله هذا طبيعته. القنية والزراعة أمران كانا في أساس قيام الحضارات الإنسانيّة، ونشوء المدنيّة. فالزراعة كانت عامل استقرار في الأزمنة القديمة، وهي التي مهّدت لقيام الحضارات المستقرّة، ونشوء المدن الكبرى. يختلف الأمر مع هابيل، فالنصّ لا يورد أيّ تفسير لاسمه كما الحال مع قايين. يشير فقط إلى أنّه كان راعيًا للغنم. ينقلنا رعي الغنم إلى بيئة غير مدنيّة، إلى عدم استقرار. فبخلاف المزارع الذي يحتاج إلى الاستقرار لإتمام زراعته والإفادة منها، يتميّز الرعي بالترحال، وبالانفصال عن الأرض الثابتة. إذا صحّت هذه القراءة، يصير مشهد قايين وهابيل تصويرًا للتمايز الحضاريّ بين حياة الاستقرار وحياة التنقّل والترحال. سنرى في الروايات اللاحقة من سفر التكوين، وخصوصًا في رواية بناء بابل، وكذلك في قصص الآباء والخروج من مصر، تركيزًا على هاتين الناحيتين من الحياة الإنسانيّة، الأمر الذي يعزّز قراءتنا هذه. اللافت في هذا السياق أنّ سفر التكوين يفضّل الرعي على الزراعة، وتاليًا، حياة التنقّل والترحال على الاستقرار. وهذا واضح في نصّنا هذا في تقديم هابيل على قايين، في الحديث عن مهنة كلّ منهما، مع أنّ قايين هو البكر، ولاحقًا أيضًا في قبول الربّ تقدمة هابيل ورفضه تقدمة قايين. يصبح هذا التفصيل لافتًا إذا أخذنا في الاعتبار أنّ حياة الاستقرار، على المستوى الحضاريّ، هي غاية عند الإنسان، والانتقال، بطبيعة الأشياء، يصير من حياة الترحال إلى حياة الاستقرار، وليس بالعكس. تفضيل سفر التكوين حياة الترحال على حياة الاستقرار، وربط حياة الاستقرار بالخطيئة (أنظر آ7)، برنامج في الكتاب المقدّس، يبدأ في قصّة قايين وهابيل ويتخلّل أسفارًا عديدة من أسفار الكتاب المقدّس، والأمثلة على ذلك كثيرة، ليس أقلّها أهمّيّة الخروج من مصر، باعتباره اقتيادًا للشعب من حضارة مصر إلى حياة البرّيّة، حيث يعطي اللَّه شريعته، التي يأمر بأن تطبّق لاحقًا بعد الدخول إلى الأرض. في رواية الخروج إبراز لأهمّيّة البرّيّة وحياة الترحال بالنسبة إلى تكوّن الشعب المدعوّ إلى أن يكون شعب اللَّه. أمّا في سياق التكوين المباشر، فحياة الترحال واضحة في روايات إبراهيم وإسحق ويعقوب، الآتين كلّهم من خلفيّة رعي الماشية مثل هابيل، وعلاقة هؤلاء بمدن وحضارات، مثل سادوم وعامورة في رواية إبراهيم، وجرار في رواية إسحق، ومصر في رواية يعقوب. سنتحدّث لاحقًا عن أهمّيّة هذه العلاقات. نشير هنا، إلاّ أنّ إشكاليّة العلاقة بين حياة الاستقرار وحياة الترحال التي ستأخذ حيّزًا مهمًّا في سفر التكوين تبدأ هنا في رواية قايين وهابيل. في اعتقادي أنّ كاتب سفر التكوين يستعمل نوعي الحياة هذين صورة للقوّة والضعف، والغنى والفقر، والتسلّط والعبوديّة، ليشدّد على فكرته الأساسيّة التي بدأت مع آدم، بأنّ ثمّة دائمًا مَن يقع ضحيّة ميل الإنسان إلى السلطة والسيادة، وهو الضعيف. وسيبني كاتب التكوين على هذه المقاربة تعليمًا أساسيًّا، سوف يتفتّح في الكتاب المقدّس كلّه.

يقدّم قايين من أثمار الأرض قربانًا للربّ. أمّا هابيل، فيقدّم من أبكار غنمه. يعطي الأوّل شيئًا يمكنه الاستغناء عنه بسهولة، أمّا الثاني فيقدّم بكر غنمه، أي الضمانة لاستمراريّة حياته. عطاء الثاني فيه تضحية. أمّا عطاء الأوّل، ففيه استكبار، بمعنى مَن أعطى من دون أن يتأثّر. إشارة النصّ اللغويّة إلى نوعيّة التقدمة هذه تفسّر لنا لماذا قبل الربّ قربان هابيل ولم ينظر إلى قربان قايين. بغضّ النظر عن هذا التفسير، يبقي تفضيل سفر التكوين لحياة الرعي باعتبارها صورة تدخل ضمن السياق الذي يريد كاتب التكوين أن يضع فيه الإنسان، أي ألاّ يكون في أيّ وقت من أوقات حياته سيّد مصيره بل أن يكون في اتّكال دائم على الربّ، هو التفسير الأقوى لموقف الربّ. رأينا، في رواية سقوط آدم، أنّ خطيئته كانت الشهوة التي قادته إلى أن يجعل من نفسه سيّدًا، ليس فقط على حياته، ولكن على الخليقة أجمع. هذه الرغبة هي التي تحرّك قايين في هذه الرواية. وهي التي تفسّر لنا لماذا اغتاظ لعدم قبول تقدمته. »لماذا اغتظت؟ إن أحسنت فلا رفع؟« سؤال الربّ هذا إلى قايين فيه تحدّ. فما كان قايين ليغضب ممّا حصل لو أنّه قبل الأمر وأقرّ بمشكلة ما عنده جعلت الربّ يرفض قربانه. غير أنّ موقفه الغاضب يعني أنّه لم يرض عن تصرّف الربّ، كما لو كان واجبًا عليه أن يقبل قربانه. ينظر قايين إلى أناه، وربّما إلى كرامته المجروحة، ولا ينظر إلى خطيئة رابضة له، »إنْ أحسَنتَ أفَلا رَفعٌ؟ وإنْ لم تُحسِنْ فعِندَ البابِ خَطيَّةٌ رابِضَةٌ، وإلَيكَ اشتياقُها وأنتَ تسودُ علَيها«. كان الأمر قد قضي لو أنّ قايين اعتبر رفض الربّ قربانه توبيخًا له على موقف مستكبر، وبادر إلى تغيير نظرته إلى الأمور. غير أنّ برنامج كاتب التكوين قضى بغير ذلك. صعب على الغنيّ، والقويّ، والمتسلّط، والمقتني، أن يخرج من أناه، لا بل يستحيل أحيانًا. تلك حالة إنسانيّة، فيها استعلاء المدينة، مثال الحضارة والاستقرار على ما هو خارجها، على ما ليس في إطارها وتحت كنفها. المدنيّة المكتفية بذاتها، في نظر كاتب التكوين، رافضة لما يختلف عنها، إلى حدّ الإقصاء الكلّيّ. يقتل قايين أخاه هابيل. هذه الجريمة صورة لهذا الإقصاء. نلاحظ في هذه الرواية أنّ هابيل لم يقل شيئًا. لم نسمع صوته. لا كلام عن شعوره أو موقفه. لا قصّة له، سوى أنّه قدّم للربّ أفضل أبكار غنمه. أمّا قايين، فيتكلّم، يغتاظ، يقتل، ينكر الجريمة، يعاقب، يسترحم الربّ، يتزوّج، يلد، ينشئ نسلاً. مع هذا نرى أنّ هابيل الذي لا قصّة له، هو محور القصّة هنا، وأنّ مَن يبدو وكأنّه هو صاحب القصّة، تحوّل إلى هامشيّ.

يسأل الربّ قايين عن هابيل أخيه. سؤال بلاغيّ كسؤال الربّ لآدم عمّن أعلمه بأنّه عريان. كما أشرت آنفًا يتحوّل هابيل هنا من شخصيّة لا معنى لاسمها ولا تتكلّم ولا تفعل شيئًا سوى تقدمة قربان للربّ إلى محور للقصّة. يصير الأخ الذي وجب على أخيه حمايته ورعايته. ويصير صوتًا صارخًا من الأرض ضدّ الظلم والكره، يسأل الربّ التدخّل. أربع مرّات في ثلاث آيات تتكرّر عبارة »أخ« في الكلام عن هابيل. ورودها المتكرّر يقضّ مضجع قايين. »لا أعلم، أحارس أنا لأخي؟« سؤال يدين سائله. يعرف قايين الجواب عنه، ولكنّه ينكره، عساه يهرب من الجريمة. يأمل أن يكون الجواب عنه بالنفي حتّى لا تعود الأخوّة تدينه. قايين الذي شاء أن يلغي أخاه، فلا يبقى في الدنيا قصّة إلاّ قصّته، وقع في الفخّ الذي نصبه. صارت قصّته هو مرتبطة بقصّة أخيه بشكل مزعج له. أصبح قاتل أخيه. وهذه صورته إلى الأبد. تلاحقه أينما ذهب. وصم بها.

وإذا ما أخذنا ما أشرت إليه آنفًا عن احتقار المدنيّة للترحال المتمثّل في قتل قايين لهابيل، يصبح لهذه الرواية القصيرة والعميقة في آنٍ معانٍ أساسيّة. فللمدنيّة تاريخ يبنى ويصنع ويتطوّر. أمّا الترحال، فيغيب عنه التاريخ. التاريخ مرتبط بالمدنيّة. وهذا ما يدركه كاتب سفر التكوين على ما يبدو، لأنّه يعرف تمامًا أنّ ملوك الأمم يسجّلون إنجازاتهم في العمران والانتصارات والتشريع وغيرها، في ما يغيب عن التاريخ كلّ الذين عاشوا على هامش الحضارة، ومن هؤلاء من سحقهم تاريخ العظماء، كالضعفاء، والفقراء، والمساكين، وغيرهم من الفئات المهمّشة. وإذا كان الملوك في أخبارهم وسجلاّتهم لا يحفظون إلاّ تاريخهم، وكأنّ العالم لم يعرف سواهم، يرى كاتب التكوين أنّ الربّ الذي يعمل في الكتاب المقدّس يرى الأمر من زاوية مختلفة تمامًا. هذا الربّ الذي خلق آدم من التراب، والذي لا يأبه لكبر الإنسان، لا يلتفت إلى الأفعال الناتجة من هذا الكبر إلاّ من زاوية أثرها في هؤلاء الذين لا مكان لهم في تاريخ العظام. وكأنّ هذا الربّ يريد أن يكتب تاريخًا لمَن لا تاريخ له. والتاريخ الذي يكتبه لهم استعادة لتاريخ العظام من حيث كونهم مضطهديهم وظالميهم وقاتليهم. كتابة تاريخ الذين لا قصّة لهم في الحضارات دينونة لمَن خطّوا التاريخ لأنفسهم دون غيرهم، حتّى يصبح تاريخ هؤلاء تاريخ ظلم وقهر.

في هذا المقطع يكتب الربّ تاريخ قايين كما يشاء هو. يعيد إنتاج قصّته. ففي حين أراد قايين ألاّ يبقى في الدنيا سواه لعلّه يرضي ربًّا لم يرض بقربانه، إذا ما ألزمه بنفسه لغياب سواه، يكتب له الربّ قصّة أخرى، يجعله فيها هاربًا وتائهًا في الأرض. يتحوّل قايين إلى ما كانه هابيل في نظره لمّا قتله. يخاف أن يُقتَل، »ويكون أنّ كلّ مَن وجدني يقتلني«. غير أنّ الربّ يحرسه. لا يتصرّف الربّ معه كما تصرّف هو مع أخيه. كما اهتمّ الربّ بآدم بعدما تمرّد عليه، يهتمّ الربّ هنا بقايين بعد قتل أخيه. غير أنّ هذا لا يعني أنّ الربّ نسي ما صنعه آدم، ولا ينسى هنا ما صنعه قايين. يبقى قايين قاتل أخيه، ولكنّه يبقى أيضًا محروس الربّ، لعلّه يرى خطيئته. غير أنّ لحماية الربّ قايين هنا مدلولاً إضافيًّا مرتبطًا بأنّ نصّ التكوين يوشك أن ينهي قصّة قايين بالكامل، فبعد الكلام على نسل قايين في المقطع التالي، لن يعود قايين يُذكَر بعد. من جهة القارئ يبقى قايين في الذهن صورة لمَن قتل أخاه وعوقب بالتيه، وبحاجته دومًا إلى مَن يحميه لئلاّ يقتل بسبب فعلته. قلنا هذه قصّته الأخيرة والأبديّة. بعد قليل سيحوّلنا الكاتب إلى قصّة أخرى يفتتحها الربّ لمتابعة المسيرة، قصّة ستمرّ بالأبرار، وستشكّل هذه القصّة نقيض قصّة قايين. وهذا ما سيجعل القارئ أمام خيارين لا ثالث لهما، إمّا تبنّي قصّة قايين، أي الانخراط في مشروعه الإقصائيّ، والوقوع تاليًا، في دينونة الربّ، وإمّا اختيار النسل الذي سيقوم بدل هابيل والسير مع الربّ في السبيل الذي سيختاره.

٤: ١٧- ٢٤. يبدأ نسل قايين بولادة حنوك المرتبطة ببناء المدينة. هذا يعزّز الارتباطَ الذي أقمناه سابقًا بين قصّة قايين وقصّة المدنيّة. تأتي المدينة هنا مع بدء النسل وكأنّ المدنيّة تطبع نسل قايين. بناء المدينة سوف يبرزه كاتب سفر التكوين على نحو سلبيّ في الإصحاح 11 أيضًا حيث يصوّر بناء مدينة بابل تحدّيًا لربوبيّة اللَّه. ارتباط بناء المدينة بنسل قايين يعني، على الأرجح، أنّ المدنيّة على الدوام، في خطر أن تتحوّل إلى قايين، في أيّ وقت من الأوقات. يذكر هذا المقطع سلالة قايين المؤلّفة من سبعة أجيال بدءًا بقايين نفسه وانتهاء بابني لامك، يوبال وتوبال. غير أنّ اللافت في هذا النسل أنّ لامك أبا الجيل السابع سيرتبط اسمه بالقتل أكثر من جدّه قايين، »إنّه ينتقم لقايين سبعة أضعاف، أمّا للامك فسبعة وسبعين«. هذا يعني أنّ لامك كان قاتلاً أكثر من قايين، ولذا كانت دينونته أعظم من دينونة قايين، واحتاج إلى حماية الربّ أكثر من قايين، بالمعنى الذي أشرنا إليه آنفًا. انتهاء قصّة قايين على هذا النحو يعني أنّ كاتب السفر أراد أن ينهي قصّة قايين حيث بدأت، ليجعلها قصّة كلّ مَن تشبّه به في كلّ زمان ومكان، لكلّ قاتل وظالم، ولكلّ مدنيّة قاهرة. وكأنّ نسل قايين مفتوح ليضمّ إليه كلّ قتلة الأرض الذين ينهي كاتب سفر التكوين قصّتهم في قصّة قايين، حتّى ولو ظنّ هؤلاء أنّ لهم الأرض ومِلأها.

تنتهي قصّة قايين ولو بقيت مفتوحة، إذ سيكون التاريخ مملوءًا بأمثاله كما سيرينا الكتاب لاحقًا. وتبدأ قصّة جديدة، حيث لم يكن قايين يتوقّع. مكان هابيل الذي قتله، يعطي الربّ آدم وامرأته ابنًا اسمه شيت. اللافت هنا، أنّ ولادة شيت تأتي تعويضًا من قتل هابيل، وكأنّ الكاتب يريد أن يكمل قصّة هابيل بشكل من الأشكال. غير أنّ اللافت بمقدار أكبر هنا، هو أنّ شيتًا حين بدأ نسله، عاد الناس يدعون باسم الربّ. غاب اسم الربّ عن نسل قايين القاتل. ولكنّه عاد مع نسل شيت. يفتتح هنا سفر التكوين نسلاً جديدًا غير نسل قايين. وسيكون هذا النسل حاملاً لاسم الربّ، نسل أبرار، سيخطّ الربّ عبرهم التاريخ كما يريده هو بعد أن رفض أن يكون قايين وأمثاله هم الذي يصنعون التاريخ.

هذا النسل هو الذي سيحمل عمل الربّ، أي أنّ الربّ سيكمل عبره عمله الخلاصيّ. وهكذا يجعلنا كاتب سفر التكوين أمام قصّتين لا ثالثة لهما: أوّلهما قصّة قايين التي بدأت بجريمة بشعة حين قتل أخاه، مخالفًا مشيئة الربّ في أمرين، في التقدمة وفي دعوة الربّ إيّاه ألاّ يترك للخطيئة مجالاً. هذه القصّة تنتهي أيضًا بالدم في رواية لامك القاتل أكثر من قايين. وثانيهما قصّة هابيل التي يتابعها الكاتب عبر قصّة شيت، التي تبدأ بالكلام الذي أشرنا إليه، وهو أنّ هذا النسل هو الذي أعاد ذكر الربّ، وهذا ما سيبدو عبر ذكر أشخاص معيّنين في هذا النسل، وخصوصًا أخنوخ ونوح ولاحقًا إبراهيم، صاحب وعد اللَّه بالخلاص.

ما ذكرناه آنفًا يفسّر لماذا يغيب قايين عن السلالة، أو كما نقول في الاستعمال الشائع »شجرة عائلة« آدم. بسبب جريمته قايين، ينتقل آدم إلى سلالة خاصّة يفتتحها هو وتنتهي في لامك، وتكون سلالة التائهين. في الآيات 1- 3 يبدو وكأنّ آدم لم يلد إلاّ شيتًا الذي أعطاه اللَّه له ولامرأته مكان هابيل الذي قتله قايين. غياب قايين عن هذه السلالة يعني أنّ الكاتب يعيد كتابة القصّة ليلغي قايين نهائيًّا، وتاليًا كلّ الذين يعملون لتعطيل فعل اللَّه وعمله. تعود القصّة إلى بداءتها، وتبيان ذلك في الإشارة إلى تكوين 1، »يوم خلق اللَّه الإنسان، على شبه اللَّه عمله، ذكرًا وأنثى خلقه، وباركه«. العودة إلى تكوين 1 وليس إلى قصّة خلق آدم في الحديث عن السلالة عبر شيت لها دلالتها المهمّة. إذا صحّ ما قلناه في قصّة الخلق الأولى أنّها تمثّل عمل اللَّه الخلاصيّ النهائيّ والأبديّ، الذي يجعل من الإنسان صورة للَّه، أي متمّمًا لمشيئته، فإنّ الإشارة اللغويّة إليها في تكوين 5: 1- 3، معناها أنّ عمل اللَّه الخلاصيّ هذا يتحقّق هنا، عبر سلالة آدم التي تمرّ بشيت. الإشارة إلى أنّ آدم هو اسم الإنسان الذي خلقه اللَّه على صورته ومثاله، يعني انتقال آدم عبر هذه السلالة، من حالة الخطيئة والتمرّد التي تضعه فيها رواية الخلق الثانية، إلى حالة الطاعة الإلهيّة وإتمام المشيئة الإلهيّة التي في القصّة الأولى. ولادة شيت والنسل الذي سيأتي منه، سيحمل إلى آدم الذي تمرّد في قصّة الخلق الثانية، خلاص اللَّه الذي تعلن قصّة الخلق الأولى إنجازه وإتمامه إلى الأبد. هذا، في رأيي، هو السبب الذي جعل لوقا يعود في تعداده أسلاف يسوع إلى آدم عبر شيت في إشارة واضحة إلى تكوين 5. يرى لوقا، كما سائر العهد الجديد، أنّ يسوع هو الذي فيه تمّ خلاص اللَّه الأخير والنهائيّ (لوقا ٣: ٢٣- ٣٨).l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search