كنت سجينًا فجئتم إليَّ (متى ٢٥: ٣٦)
أن نحولَ دونَ ولوج السجن
شفيق حيدر
مسؤوليّة رعاية المساجين
هَمُّ المساجين عند المؤمنين قديم قدم المحبّة، حمله قلّة وأهمله كثيرون. »كنت سجينًا فجئتم إلي« (متّى25: 36)، يقول السيّد الديّان العادل للأخيار الذين عن يمينه. أمّا للذين عن يساره الضالّين الأشرار فيتوجّه نحوهم قائلاً: »كنت مريضًا وسجينًا فما زرتموني« (متّى25: 43). أولئك أقامهم الحبّ في الجنّة ومتّعهم بالغبطة، وهؤلاء أبعدهم وأبقاهم في تيه الحقد ولظى الصدّ.
وطاعةً للحبّ تهتمّ الكنائس والرعاة بالسجون والمقيمين فيها، وتشارك في هذا الهمّ أيضًا هيئات دينيّة مرشدة من الطوائف كلّها، وتنظيمات أهليّة تعنى بالشأن الإنسانيّ وبحقوق الناس. العناية بالمساجين والمحافظة على حقوقهم وكرامتهم كبشر من أعمال البرّ المطلوب القيام بها.
»درهم وقاية خير من قنطار علاج«
رعاية هؤلاء المواطنين واجب على الدولة والأمّة والمجتمع، وليس الأمر ملقى على عاتق فئة أو وزارة أو إدارة. أهمّيّة السجين أنّه إنسان، وقيمته أنّه مفيد بالقوّة. صحيح أنّ المفيدين المنتجين ليسوا كلّهم من المساجين، ولكنّ الصحيح أيضًا أنّ السجين هو إنسان أوّلاً وأخيرًا وما فتىء كذلك، فمن المعقول أن يثمر بوفرة وينفع المجتمع. ولا ننسى نحن المؤمنين أنّ اللَّه نلقاه في المعذّبين، ومنهم السجناء. إنّهم إعلان لنا.
وانطلاقًا من هذه المسؤوليّة الملقاة على عاتقنا أجمعين سأتناولها اليوم من باب الوقاية، إذ الوقاية مهمّة وقد قالت العرب فيها: »درهم وقاية خير من قنطار علاج«، ومن المتعارَف عليه أيضًا، في مجال العلوم الطّبّيّة، أنّ الطبّ الوقائيّ أهمّ بكثير من الطبّ العلاجيّ. مسَلَّمَة "الوقاية" هذه تقودني إلى أن أتناول موضوع رعاية المساجين من باب: ماذا علينا أن نعمل كي نبقى خارج السجن؟
قنبلة بشريّة موقوتة
علمًا بأنّ ظروف لبنان الصعبة اليوم بسبب الحرب العبثيّة القذرة التي ضربت شعبه وأرضه منذ أربعين سنة، وبسبب النزوح القسريّ الذي ابتُلي به الأخوة السوريّون، وقد سكن جلُّهم في الأحياء الفقيرة، فاختلطوا بأطفال لبنان الذين يعيشون البؤس ويشكون الإهمال ويعوزهم كثير من الرعاية والحماية. إنّهم من الطبقات الفقيرة وأكثريّتهم من الأطفال والمراهقين. يشكّل هذا كلّه قنبلة بشريّة موقوتة.
سنلحظ أنّ هذه القنبلة البشريّة الموقوتة التي تتفجّر رويدًا رويدًا، ويومًا إثر يوم، ستخلّف في الواقع السكّاني تأثيرًا سيّئًا. وهذا لا يلحق فقط بالأخوة النازحين ولكنّه سيتسرّب إلى المجتمع اللبنانيّ إذ التناضح الإنسانيّ قانون طبيعيّ لا توقف آثارَه إجراءات وتدابير.
ثمّة خطورة ّناتجة من النزوح السوريّ القسريّ الذي نضرع إلى الله أن يتوقّف باستتباب الأمن والاستقرار في البلد الجار والشقيق، وبعودة السلام والطمأنينة إلى ربوعه. ولكن فيما ننتظر ذلك لا نستطيع أن نتصرّف كالنعامة ونغفل القنبلة البشريّة الموقوتة المزروعة في لبنان، في المدن والدساكر والقرى الكبيرة والصغيرة.
من الآثار السيّئة
من آثار هذا النزوح القسريّ تململ وبغض ابتدأنا نلمسهما. لقد هبّ مجتمعنا على مختلف تلاوينه، وانبرى حكّامنا أيضًا يحتضنون النازحين الوافدين هربًا من الحديد والنار، ولكن سرعان ما لاحظنا أنّ الحماس بدأ يخبو إذ إنّ آثارًا سلبيّة بدأت تطفو. حمّى الاستقبال الإنسانيّ العفويّ الراضي بردت كثيرًا الآن هنا وثمّة، وبدأنا نلحظ نقمة وتشكّيًا. ولست هنا لأعلّل هذه الظاهرة وأستعرض مسبّباتها ملقيًا التهم على هذا أو ذاك. أنا ألاحظ فقط. وفيما ألاحظ أسجّل أنّ عنصريّة بغيضة استيقظت في النفوس عند الوافدين والمستقبلين وأيقظت معها الكراهية.
وفيما أسجّل أيضًا شيئًا من التشفّي يعبّر عنه نفر من اللبنانيّين، أو شيئًا من الحسد والنقمة يعبّر عنهما نفر من السوريّين، وكثيرًا من التذمّر يفصح عنه الجميع. فيما ألاحظ كلّ هذا حقّنا أن نخاف من التداعيّات الشديدة الخطورة التي يولّدها هذا التململ الذي يعمّ التجمعّات البشريّة من النهر الكبير حتّى الناقورة. السؤال المفتاح الذي يقضّ مضاجعنا: ماذا نعمل لدرء مخاطر هذه التداعيّات علينا التي من شأنها أن تؤدّي إلى انحرافات كبيرة في نفوس الناشئة وتشرّع أبواب السجون؟
وقبل أن أبدي وجهة نظر تربويّة في هذا المجال، أحبّ أن أنوّه بأنّ التصدّي للسموم القتّالة التي تنفثها النتائج الوخيمة للحرب اللبنانيّة والقنبلة البشريّة المزروعة في ربوعنا، هو مسؤوليّة الأمّة جمعاء الموَحَّدة قواها والمتّفق ساساتها والمخلص رجالاتها، والعاقل حكّامها والمتضافرة أحزابها، والمستنير إعلامها. أين نحن من هذا كلّه؟ تساؤل أهرب منه لأنّه يطرد النوم من العيون، ويثير القنوط في النفوس، ويرميك في قتام الليل، ويطفىء الرجاء في القلوب.
هي بعض الخواطر التربويّة سأذكّر بها الآن. وأعود هنا وأكرّر أنّ مسؤوليّة تجسيد هذه الفِكَر التأمّلات هي مسؤوليّة وطنيّة عامّة، لأنّ فريقًا في الأمّة قادر على أن يخرّب كلّ ما يقوم به فريق آخر أو الأفرقاء جميعهم. ورسم هذه الخطّة الوقائيّة الإنقاذيّة ينسج سداها ولحمتها علماء في الاجتماع والتربية والنفس والقانون. هل يأتي يوم تقرّ أعيننا بساسة يخضعون للعلم والعلماء، أم سنبقى إلى الأبد نردّد مع فيلسوف المعرّة:
يسوسون الأمور بغير عقل ويُطاع أمرهم ويقال ساسة
فأفّ من الحياة وأف منّي ومن زمن رئاسته خساسة
الخواطر
أوّلاً - الإنسان السويّ
قال لي يومًا أحد المتخرّجين واصفًا جيله: »نحن شباب لم نأخذ من الدنيا إلاّ الحقد والكراهية، ولم نر منها إلاّ النار والدمار«. قوله هذا تعبير صادق عن الواقع الذي يذوقه الأطفال اللبنانيّون والساكنون معهم اليوم.
ما عسانا نعمل لنخفّف عن أولادنا والمقيمين معهم ثقل هذا الجوّ وظلامه وغيومه الدكناء وناره المحرقة؟ كيف نحاول فيما نربيهم أن نُنَشّئهم على الصدق فيما الكذب يلفّنا، أو على الشعور بالمسؤوليّة تجاه الذات والآخر، فيما الناس لا يفكّرون إلاّ بأنفسهم وأهوائهم، ولا يراعون إلاّ أنانيّاتهم ولا مَن يحاسب؟ كيف نحاول أن ننشّئهم على تذوّق الجمال فيما القبح يسود ويسيطر ويطلّ علينا بألف وجه ووجه؟ حاجتنا إنّـما هي إلى إنسان سويّ، إنسان حقّ، إنسان متّزن ينتبه إلى نفسه ويراقبها ويصقلها، ويلتفت إلى الآخر الذي به يكمل وبواسطته يحقّق ذاته. حاجتنا ماسّة إلى الإنسان الحقّ لأنّ أسمى القضايا الدينيّة والوطنيّة وغيرها وأرفع المبادىء الإصلاحيّة والتقدّميّة السامية، وأعلى العلوم وأرقاها إنْ حملها إنسان موتور أنانيّ حقود، لا يقيم للآخر وزنًا، ولا يحاسب نفسه، هو إنسان مبلبَل مبلبِل ، تبلبله أهواؤه. مثل هذا الإنسان يضرّ ويدمّر.
ثانيًا - التربية على السلام
إنّنا اليوم أو غدًا حاصدون جيلاً لا ينعم بالسلام، بل تعمّه الخلافات والاضطرابات والتقاتل والتباغض. نحن يا سادة لا نذوق السلم الأهليّ وننعم بثمره ما لم نتدرّب على السلام الداخليّ الذي يعيشه الإنسان في توازنه الكيانيّ من جرّاء التناغم القائم بين قواه العقليّة والعاطفيّة والشهوانيّة الحيوانيّة. "النفس أمّارة بالسوء" وخير جهاد نقوم به هو الجهاد ضدّ النفس. الإنسان الحقّ في سعي موصول إلى كماله الإنسانيّ ليبلغ حال الطمأنينة والرضى فتسكن فيه الأطماع وتذبل الأهواء فلا النفس تشتهي ما يرفضه العقل، ولا القلب يجنح نحو ما يمقته العقل الحصيف، التربية على العقلانيّة تعبّد طريق السلام فيعمّ في أيّة بيئة كانت. التربية على السلام في البيوت أمر مهمّ لتحصين السلم الأهليّ والحيلولة دون مخاطر التفرقة والشقاق. ولكن من الضرورة بمكان أن يرفد البيوتَ الإعلامُ البنّاء، وقوى المجتمع الأهليّ المستنيرة، ودور الرعاية الدينيّة والوزارات والمؤسّسات التربويّة. إلاّ أنّ تأثير البيوت يبقى الأفعل والأنجع.
ثالثًا - التربية المسؤولة
والتربية المسؤولة المطلوبة هي ليست تلك القاسية السالبة الحرّيّة، والمعطِّلة تاليًا الخيار العقليّ. ولا هي أيضًا التربية الانفلاشيّة التاركة الناس على هواهم يتصرّفون. إنّها قائمة على احترام الإنسان في من نربي وذلك بتعهّده بالحضرة والحبّ. إنّها قائمة على الحوار والتفهم والتقبّل. هي تلك المبنيّة على المحبّة الصادقة. وللمحبوبيّة قدرة فائقة في صقل الكيان وزرع القيم وتغيير المسلك، وشحذ الهمّة من دون أن تغيظ الولد لئلاّ يفشل.
التربية المسؤولة تؤول إلى أن يتدرّب الانسان على محاسبة النفس وتقويم التصرّف بوعيٍ وعقلانيّةٍ. مصيبتنا الكبرى اليوم هي جيل شبّ على عدم المسؤوليّة وفقدان المحاسبة، شبّ ليرى المرتكبين يسودون، ولهم صدر المجالس. الأمثلة البشعة هذه أدّت إلى شيوع إهمال القيم وغياب الاستقامة الخُلقيّة عند السواد الأعظم. وهنا أرى من الضرورة التذكير بأنّ الأمم لا تقوم إلاّ على مكارم الأخلاق.
ومن الخواطر الضروريّة أيضًا التربية على الديمقراطيّة والحرّيّة والقانون. وفي هذه المجالات أشير إلى الاهتمام الدوليّ الكبير واستنباط الطرائق والتقنيّات المساعدة على تربية الناشئة، وتأهيل البالغين وتدريبهم على التصرّف الديمقراطيّ السليم،وممارسة الحرّيّة المسؤولة والخضوع الواعي للقانون.
وفي النهاية أشير إلى أنّ تعهّد الناس، والأطفال منهم بخاصّة، تعهّدًا سليمًا مستقيمًا، كفيل بأن يبعدهم عن أبواب السجون. من أجل البلوغ إلى هذا الهدف نحلم أن تتضافر الجهود الرسميّة والأهليّة لترسم خطّة تربويّة، والأمر ممكن إذا صفت النيّات وعُقدت العزائم وأخلص الرجال. ولكنّي أعود وأشدّد على ضرورة الاستفادة، وأقول الاستنارة، من العلماء في هذا المجال. إنّ أفضل رعاية نقوم بها للمساجين هي تلك التي نقوم بها قبل أن يصيروا مساجين. "من فتح مدرسة أقفل سجنًا" قول في محلّه. ومفاده أنّ التربية وسيلة ناجعة لتوصد أبواب السّجون.
أمّا والإنسان خطّاء في هذه الدنيا الناقصة فرعاية المساجين أمر مغبوط لا بدّ منه، لتوقظ في السجين كرامته وقيمته الإنسانيّتين، ولتحرّضه على التوبة النصوح إذ الله رحمن رحيم يقبل التوّابين.l