سلام يسوع وسلام العالم
ريمون رزق
المفاوضات في أوكرانيا
مَن يتابع المفاوضات التي يخوضها الآن طرفا النزاع في أوكرانيا للوصول إلى اتّفاق سلام بينهما، يمكنه أن يفهم بعض الشيء ماهيّة سلام العالم. يوقّعان اتّفاقًا في النهار ويتجاوزانه في الليل. يقولان إنّهما يريدان السلام، ويحصّنان دفاعتهما الواحد ضدّ الآخر. إنّهما يريدان سلامًا يرتكز على المكاسب وموازين القوى والسلطة الذاتيّة. هذا هو سلام العالم. هو سلامي أنا والذين معي، ضدّ الآخرين.
سلام العالم
إن عدنا إلى الكتاب المقدّس في عهده العتيق، نجد أنّ عبارة سلام (شالوم) تقضي أن يكون الإنسان في انسجام مع الطبيعة ومع نفسه ومع اللَّه. أن أحظى بالسلام وأكون بصحّة جيّدة أمران متوازيان فيه. من هنا نقول »السلام عليك« لتحيّة الناس. لكن اختصر السلام مع الوقت على مجموع الخيرات التي يمكن للإنسان أن يتنعّم بها، أي أن يكون له أرض تعطيه طعامًا، أن يأكل حسب حاجته، أن يقيم في مكان آمن، أن ينام بدون خوف، أن يتغلّب على أعدائه وأن يتناسل. ويحصل على كلّ ذلك، اقتناعًا منه »بأنّ اللَّه معه«، ومع قومه، فيصرخ »اللَّه معنا«. ويعني أنّه ليس مع الآخرين. يدّعون أنّ اللَّه معهم، لكن لا يسيرون في سبله، فيرجون السلام ثمرًا لما يعتبرونه برّهم الشخصيّ لا البرّ الإلهيّ. هذا كان مضمون التوق إلى السلام في البدء. ثمّ أتى الأنبياء الذين غيّروا جذريًّا المفهوم القديم، فأخذوا يحلمون بمجيء »رئيس السلام« الذي يكون سلامه »بلا انقضاء« (أشعياء 9: ٦- ٧)، فيتعايش في عهده الذئاب والحملان. لكنّ الشعب غالبًا ما تجاهل صرخات الأنبياء، معتبرًا إيّاها غير واقعيّة، وأقنع ذاته بأنّه لا يمكن تحقيقها إلاّ في آخر الأزمنة.
ثمّ أتى يسوع الناصريّ في الأيّام الأخيرة، وأطلق ثورة حقيقيّة قلبت المفاهيم القديمة كلّيًّا. فأبهر المسيحيّون الأوائل العالم الوثنيّ بعيشهم قيامة الربّ، زاهدين بالمغريات الأرضيّة، متعلّقين بروح المجّانيّة وفرح العطاء والحنان على كلّ مخلوق، ومصمّمين على مشاركة الإخوة في كلّ شيء. وبالمحبّة التي أبدوها بعضهم لبعض وبخدمتهم الإنسان اقتحموا العالم وجعلوا المسيح يتغلّب عليه. كانوا يعيشون في العالم، ويخضعون لأنظمته، ويساهمون في تطوّره، مع اقتناعهم بأنّهم غرباء فيه، إذ موطنهم الحقيقيّ في مكان آخر. ثمّ انتصرت المسيحيّة، وغالبًا ما تمأسست الجماعات المسيحيّة واندمجت في العالم وجعلته يطغى عليها هنا وهناك. فخفت صوتها النبويّ، ما عدا لدى قلّة عزيزة كانت تظهر من وقت لآخر، مذكّرة بالمحبّة الأولى، وساعية وراء السلام الحقيقيّ، بينما بقيت الأكثريّة مرتاحة إلى أوضاعها، منغمسة بروح العالم. إلى أن وصلنا إلى ما نعيشه اليوم.
فالغريب الغريب أنّ مفهوم سلام العهد القديم لا يزال يسود في عالم اليوم، ألفي سنة بعد مجيء مَن دعا إلى تغييره. يشدّد عالمنا أكثر من أيّ وقت مضى على دهريّةٍ قتلت اللَّه، أو بالأحرى غيّبته أمام ازدياد قدرة الإنسان، سيّد الكون الحقيقيّ، الذي يبحث قبل كلّ شيء عن عزّته وراحته وتكاثر ممتلكاته، ويعتقد أنّه بذلك يجد سلامه. مع أنّه يفتح مجالات كبيرة لتطوّر الإنسان والبشريّة، يبقى عالم اليوم عالم الفرديّة والتقوقّع على الذات بامتياز. لا يريد فقط أن »يقتل اللَّه«، بل يريد بخاصّة قتل اللَّه المحبّة، وتاليًا قتل الإنسان المحبّ والمتواصل مع الآخرين، الذي هو على صورة اللَّه. غالبًا ما يريد الإنسان المعاصر إبدال مبدأ المعرفة »مع« اللَّه بمعرفة »مثل« اللَّه، أي منفصلة عنه. فيصبح فيه الإنسان محور كلّ شيء، وتمسي تلبية حاجاته الهدف الأسمى للوجود، حتّى إن وجب تحقيق ذلك التعدّي على الآخرين. تريد كلّ أنظمة العالم سعادة الأفراد، وإطلاق العنان لحرّيّتهم، معظّمة حقوقهم تجاه الآخرين وأحيانًا ضدّهم. كثيرًا ما نشعر في حياتنا اليوميّة أنّنا مهدّدون من جرّاء مجرّد وجود الآخر. فيصبح همّنا الكبير أن نظهر ونتفوّق ونحقّق جميع شهواتنا. هذا ما بقي عليه سلام العالم.
فأين سلام يسوع من كلّ ذلك؟
بالنسبة إلى مَن يريد حقًّا أن يكون مسيحيًّا، وحده وجه يسوع هو المبتغى. لكن غالبًا ما يُفتقد هذا الوجه في الأوساط المسيحيّة، فكيف يمكن للعالم إذًا أن يكتشفه؟ تنافس أحيانًا الممارسات الكنسيّة ممارسات العالم. دُعينا إلى أن نكون مرآة لوجه يسوع، وها إنّ النزاعات والخلافات ونوعيّة العلاقات في ما بيننا تعكس سواه. فيغدو سلام كنيسة يسوع يشبه بشكل مريب سلام العالم. أنعي مدى إخفائنا وجه يسوع الدامي والمنير في آن؟ أنعي أنّنا غالبًا ما نكتفي بالشعارات، ونصنع من الكنيسة متحفًا لعصور مضت، لا تخاطب مشاكل عصرنا وإنسانه، الذي يبتعد عنّا، إذ لا يجد عندنا ما يفتّش عنه من معنى للحياة؟ ولا شيء يستحقّ أن يفتّش عنه الناس سوى وجه يسوع مشرقًا على وجوهنا.
فما هو الجديد في ثورة يسوع الذي لا نلتزم به كي يظهر سلامه
أعلن يسوع أنّ اللَّه ليس شخصًا وحيدًا لا يحبّ سوى ذاته، بل هو محبّة متبادلة. وبما أنّ اللَّه محبّة، و بما أنّ الإنسان خُلق على صورة اللَّه، عليه أن يعزّز المحبّة فيه وتجاه الآخرين، إذا أراد أن يحقّق المثال الإلهيّ. يسوع هو الإنسان الحقيقيّ في ملء شركة الثالوث، غير المنفصل عن أيّ إنسان. وبما أنّنا مدعوّون إلى أن نتمثّل به، علينا أن نسعى لكي نصير كيانًا شخصيًّا مشابهًا له، أي فريدًا وغير منفصل في آن عن اللَّه والبشر. حرّرنا يسوع من تجربة إيجاد أعداء نلقي عليهم قلقنا، وطلـب مـنّا أن نحـبّ أعداءنا. ورفض كلّ ملكيّة بحسب العـالـم، كمـا طلـب من أتبـاعـه أن يحوّلوا كلّ سلطة إلى خدمة. وأعطانا مثل السامريّين، أي »الهراطقة« آنذاك، للاهتداء به... جعلنا نشعر بأنّ الآخر موجود، ويجب احترامه، ومنعنا من إدانته. وشدّد على أنّ التزام هذا النمط الحياتيّ، الواعي دومًا أنّه في حضرة اللَّه، هو الذي يجعل »على الأرض سلام«. هذا السلام الذي يقول الرسول بولس إنّ يسوع »حقّقه بدم صليبه« (كولوسّّي 1: 20)، ويريدنا أن نفعل كما فعل.
كيف نحصل على هذا السلام وننقله؟
ليس سهلاً أن ننطلق من سلام العالم إلى سلام يسوع. قال يسوع إنّ »ملكوت السموات يُغتصب والغاصبون يختطفونه« (متّى 11: 12). بالنسبة إليه، نصنع سلامًا عندما نعيش مع ابن اللَّه كما يعيش هو مع أبيه. فعلينا أن نلبس المسيح. إذ ذاك تصير جماعتنا، أي الكنيسة، المطرح حيث »ليس يهوديّ ولا يونانيّ، وليس عبد ولا حرّ، وليس ذكر ولا أنثى، لأنّنا جميعنا واحد في المسيح يسوع« (غلاطية 3: 28). إذ ذاك تقوم الكنيسة »بخدمة المصالحة« (2 كورنثوس 5: 18)، ونساهم جميعًا في عمل المسيح »المصالح العالم« (5: 19). لا نفعل ذلك بلعن العالم وكلّ ما فيه، كما يفعل كثيرون، بل »بالتشمير« عن زنودنا والعمل في خضمّ العالم، والسير فيه كما سار يسوع، محافظين دومًا على لطف الأخلاق والمحبّة، رافضين إدانة أحد، فاضحين كلّ تسلّط، متجاوزين العادات التي ترهن بدلاً من أن تحرّر، ومتحمّلين الانتقاد والاضطهاد كما فعل يسوع، إذ بتحمّله العنف تغلّب عليه، ومستعدّين لاتّخـاذ القـرار الأصـعب، ألا وهو محبّة أعدائنا وعدم مقابلتهم الشرّ. وحدها المحبّة تصالح العنيف ومَن يعنِّف به. رغـم تحفّظنا تجاهـها واستغـرابــنا لــهـا، تبـقى دعوة ربّنا إعطاء الخدّ الأيسر لمَن يضرب الأيمن المسلك الأفضل لمَن يريـد أن يصيـر مسيحــيًّا، لأنّ »الودعاء يرثون الأرض« (متّى 5: 5).
يكمن الحلّ في الكنيسة
لو تصرّفنا هكذا، لو صار يسوع حبيبنا الأوحد وصديقنا الحميم، لتصالحنا مع اللَّه، لتصالحنا مع الإنسان. لا يمكننا أن ننجح في مسيرة تغيير ذواتنا هذه سوى في الكنيسة، التي هي في آن الكنيسة المقدّسة وكنيسة الخاطئين. إنّها مكان العنصرة، حيث ينزل الروح على كلّ واحد، على حدة، وعلى الجميع. إنّها الجماعة الإفخارستيّة التي تشمل في صلاتها الكون، والبشر جميعًا، من دون تمييز، وترفعهم الى الآب. إنّها المطرح حيث يجب أن نتذوّق فيه الملكوت، حيث يتعايش الخراف والذئاب، وحيث يدخل الجميع في شركة تختلف تمامًا عن نمط المجتمعات البشريّة المتآكلة. على الكنيسة أن تكون النموذج الحقيقيّ للشركة، وتاليًا لسلام المسيح، في عالمنا الساقط. من هنا، المسؤوليّة الهائلة الملقاة على عاتق أبناء الكنيسة جميعًا، رعاة ومؤمنين، ليساهموا، بتصرّفاتهم وحسن علاقاتهم، في إبراز الشركة الكنسيّة على حقيقتها، لكي يؤمن العالم. أمّا خطايانا الكثيرة، وتجاهلنا بعضنا البعض، وكلّ مكسور يقرع أبواب قلوبنا ورعايانا، فتمنع بروز هذه الشركة للعالم، وتحرمه من معرفة طريق الخلاص، وتذوّق سلام يسوع. هذا يتطلّب ليس فقط أن نحبّ، بل أن نصير محبّة، كما إلهنا. وحدها سلطة المحبّة تتفوّق على محبّة السلطة. علينا أن نطلب إلى اللَّه أن يُسكن روحه فينا لكي نسكن حيث يسكن يسوع. وهو يسكن في الكنيسة، في الكتاب العزيز، في سرّ الشكر، في الصلاة، في وجه الإخوة وفي كلّ إنسان يحتاج إلى مؤاساتنا. لا سلام حقيقيّ للعالم إلاّ بسلام المسيح. ولا يظهر سلام المسيح في العالم ويترسّّخ فيه إلاّ بواسطتنا، نحن إخوته، إن كانت لنا علاقة شخصيّة معه، ولبسناه حقًّا. كثيرًا ما ننسى المسيح في كنيسته ونتلهّى بالطقوس والكلام، فنُكثر من الكلام والثرثرة، مع أنّه نهانا عنها، وطلب منّا ألاّ نبغي سوى الشيء الضروريّ الوحيد الذي هو الحياة فيه ومعه. غالبًا ما نسمع الوعظ يدعونا إلى استقامة الحياة والمسلك، ونجهل أنّ لا مسلك قويم لنا إلاّ إن تحرّك يسوع فينا وتصرّف. إن وعينا كلّ ذلك، نصبح »الأمّة المسالمة« التي تكلّم عليها إقليمنضس الإسكندريّ، التي يستعمل المسيح أعضاءها »جنودًا من أجل السلم والسلام«، عارفين أنّ الجهاد من أجل السلام هو أيضًا جهاد من أجل العدالـة ونبذ العنــف، في حين غالبًا ما تقتصر محــاربتنا العنف على كلام الشجب والصلوات. لا مجال للتقليل من أهمّيّة الصلاة، لكن يطلب منّا ربّنا أن نكون قدوة في عالم يسير بخطى أكيدة نحو خطر انتحار الإنسانيّة وتدمير الحياة على الأرض من جرّاء الخطر النوويّ، وتلوّث البيئة والتلاعب الجينيّ والإرهاب الوحشيّ. علينا أيضًا أن نشهد لقدسيّة الحياة، واحترام كلّ إنسان وعلى تجميل الأرض وروحنتها. على كلّ عضو في »الأمّة المسالمة« أن يتعوّد رؤية المسيح في كلّ وجه، أيًّا كان معتقده. المسيح الذي يسكن فينا، إن أردنا، ليس ملكنا بتاتًا. فهو لا يزال ينحدر إلى جحيم هذا العالم، ويتفقّد البشر. ولا يزال ينزف من أجل الجميع بمن فيهم الذين يرفضـونه، أو يجهـلون وجـوده، لأنّنا لـم نشـهد لـه حـقًّا. على مَن يريد أن يكون صانع السلام أن يحصل على السلام في داخله.
ربّما قال أحدهم إنّ هذا الكلام صعب وغير واقعيّ. لكن لا يوجد سواه كي نساهم في إحلال سلام يسوع فينا، في ما بيننا وفي العالم. الحلّ الوسط قليل من سلام يسوع وكثير من سلام العالم لا ينفع.
العالم ليس بحاجة إلى عقائديّين، وأسياد ومعلّمي المسكونــة، بل إلى أناس يقتدون بالمسيح، فيبرهنون بمسلكهم الحياتيّ أنّ الحياة ليست عبثيّة، بل هي »تقدمة وخدمـة ومشـاركــة، وهـي ورشة للملكوت« (كما قال كوستـي بندلــي) الآتـي. لا اقتحام ولا غلبة على الوثنيّة الحديثة المعاصرة إلاّ بأناس يعيشون على مثال المسيحيّين الأوائل.
لن نقبل بأن يقزَّم الإنجيل، بل فلنتمسّك بالموعظة على الجبل. لم نقبل بأن يقزِّم أحد كنيستنا بحصرها بشخصه أو جماعته. لن نقزّم المسيح في حياتنا، بل سنجاهد باستمرار للوصول الى ملء قامته. فلنعطه قلبنا فيرفعنا إليه. l