من هو الإنسان
د. جورج معلولي
إذا كان السؤال المركزيّ للاهوت الأرثوذكسيّ في القرن العشرين هو طبيعة الكنيسة (الإكليزيولوجيا) أو »ما هي الكنيسة؟«، فالإشكاليّة التي يتوقّع المطران كاليستوس (وير) أن تحرّك القرن الحادي والعشرين في البحث اللاهوتيّ هي الأنتروبولوجيا أي »من هو الإنسان؟« أو »ما هو الشخص؟«. بتعبير آخر ماذا يعني أن يكون الإنسان شخصًا علائقيًّا، على صورة اللَّه الثالوث؟ طبعًا العلاقة وثيقة بين الإشكاليّتين لأنّ الكنيسة هي البيئة التي فيها يحقّق الشخص نفسه.
تفسّر ظروف متعدّدة هذا التوجّه. يعاني الشخص، في هويّته وكيانه الخاصّ، خطر الذوبان في المدن الكبرى والمجتمعات الكثيرة التعقيد والتمدّد الديمغرافيّ للرعايا. إعادة التأكيد على فرادة كلّ شخص وقيمته غير المحدودة واجب أساس على الجماعة المؤمنة التي يستقطبها قول كتاب الرؤيا: »من له أذن، فليسمع ما يقوله الروح للكنائس. من ينتصر، أعطيه من المنّ المخفيّ، وأعطيه حصاةً بيضاء مكتوب عليها اسم جديد لا يعرفه إلاّ من يأخذ الحصاة« (رؤيا 2 : 17). في كلّ شخص كنز مخفيّ غير معطى لأحد آخر. وهذه الفرادة كأساس للتنوّع مستمرّة في الملكوت الآتي. لذلك لا تهمّنا التجمّعات التي لا شكل لها أو التي يمّحي فيها الشخص، بل من يهمّنا هو كلّ شخص في تميّزه المعطى له من اللَّه وعلاقته المحبّة مع الجماعة. في زمن تسيطر عليه الآلات، نحن مدعوّون إلى إعادة لقاء الوجوه إلى النور. فحين أواجه الآخرين وتلتقي العيون، ندخل في حوار وأكتشف نفسي شخصًا حقًّا. بالإضافة إلى تعقيد المجتمعات المدنيّة وسيطرة الآلات، فرضت التكنولوجيّات الوراثيّة والطبّيّة الحديثة تساؤلات جديدة لم تكن مطروحة حول الحبّ والجنس والزواج وطبيعة الإنسان. لن نستطيع مواجهة هذه التحدّيات إلاّ إذا أعدنا اكتشاف سرّ الشخص في تراثنا بطريقة شجاعة وخلاّقة. أزمة الإنسان أزمة قلبه وهويّته وعلاقته بالإنسان الآخر وبالأرض التي صار متغرّبًا عنها فاقدًا الجذور التي تربطه بالخليقة الحسنة التي خلقه اللَّه فيها كاهنًا وملكًا.
من أنا؟ الجواب ليس بدهيًّا أبدًا. كلّ شخص سرّ بالنسبة إلى نفسه وإلى الآخرين. ليست حدود الشخص جامدة بل هي ممتدّة في الزمان والمكان نحو الأبديّة. لا نعرف على وجه الدقّة الإمكانات الكامنة للشخص البشريّ ولا حدود آفاقه. وراء كلّ تعريف أو تحديد، يبقى الشخص سرًّا لا يختزل، متنوّعًا بشكل غير محدود وغير متوقّع. الشخص واقع لا تنفكّ تظهر فيه بداءات جديدة بطريقة خلاّقة، واقع مفتوح يدلّ دائمًا على ما يتجاوز الحالة الحاضرة: »أيّها الأحبّاء، نحن الآن أولاد اللَّه. ولا نعلم حتّى الآن ماذا سنكون« (1يوحنّا 3: 2). يكشف التراث الأرثوذكسيّ أنّ سبب عدم قابليّة الشخص للاختزال هو أنّه مخلوق على صورة اللَّه غير المدرك. و»الصورة ليست صورة إلاّ إذا حملت صفات نموذجها. فإذا كانت إحدى صفات الألوهة هي أن تكون في جوهرها متجاوزة لفهمنا، فصورتها أيضًا ينبغي أن تطابق هذه الصفة« (القدّيس غريغوريوس النيصصيّ). يقودنا اللاهوت التنزيهيّ هنا لا محالة إلى أنتروبولوجيا تنزيهيّة. فالإنسان أيقونة حيّة للإله الحيّ، صورة مخلوقة للخالق غير المحصور. لذلك هو خلاّق وحرّ. وبسبب هذه الصورة فالبشريّة متّجهة في أصالة طبيعتها نحو اللَّه. ومن دون هذه العلاقة يوجد الإنسان في حالة مخالفة لطبيعته بشكل جذريّ. وإذا أعيقت قدرته الخلاّقة وحرّيّته فهو أيضًا يجد نفسه غريبًا عن اللَّه وعن نفسه، مخنوقًا، صارخًا في عمقه ضدّ كلّ الأصنام المكبّلة التي تشوّه صورة اللَّه وطبيعة الإنسان.
يتّضح هذا بشكل قويّ في مثل الوزنات: »يشبه ملكوت السماوات رجلاً أراد السفر، فدعا خدمه وسلّم إليهم أمواله، كلّ واحد على قدر طاقته، وسافر. وبعد زمان كثير رجع سيّد هؤلاء الخدم وحاسبهم« (متّى 25: 14- 19). يذكّرنا هذا المثل بالجهد الخلاّق الذي ينتظره اللَّه من الإنسان والذي من دونه لن يخلص بشر. إذ بغير هذه القوّة والإقدام يصبح الإنسان ميتًا. العبد الكسول الذي دفن الوزنة هو عبد خائف تشلّه صورة ممسوخة عن اللَّه لا تختلف كثيرًا عن الصورة التى همستها الأفعى في أذن الإنسان الأوّل: »عرفتك رجلاً قاسيًا فخفت. فذهبت ودفنت مالك في الأرض، وها هو مالك«. رغم غياب السيّد زمنا طويلاً والذي يبدو انسحابًا مقصودًا يمنح فيه السيّد مساحة حرّيّة واسعة للخدّام، لا ينجح الخادم الكسول في استدخال الوزنة عطيّة شخصيّة بل يربطها حصريًّا بالسيّد: »دفنت مالك، ها هو مالك« فيستقيل؛ على عكس الخادمين الآخرين اللذين، وإن أقرّا أنّ الوزنات قد سلّمت إليهما تسليمًا، يفهمان العطيّة إطلاقًا للمبادرة الشخصيّة ودعوة إلى تآزر مبدع. ما هي هذه الثقة التي تجعل الخادمين جسورين كما يصفهما أوريجنّس؟ لا بدّ من أنّها تتقاطع مع دالّة البنوّة التي نطلبها في القدّاس الإلهيّ حتّى ندعو اللَّه »أبانا«. فـ»الروح نفسه يشهد لأرواحنا أنّنا أولاد اللَّه. فإن كنّا أولادًا فإنّنا أيضًا ورثة اللَّه ووارثون مع المسيح« (رومية 8: 16)، روح التبنّي يلغي روح العبوديّة والخوف (رومية 8: 15 ). وهذا هو الدخول إلى نعيم السيّد (متّى 25: 21). تتحكّم إذا علاقة الفعلة بسيّدهم في تعاطيهم مع المواهب. فبين الأمانة الظاهريّة التي يبديها الخادم الكسول في تقديس سحريّ مشوّه للعطيّة والأمانة الحقّ التي يبديها الخادمان النشيطان، تقع الهوّة العميقة التي تفصل بين علاقة العبوديّة اللاغية للفعل البشريّ وعلاقة البنوّة المحرّرة لقوى الحياة في الإنسان الموقظة للهب النعمة فيه. وهذا ينعكس على العلاقات الإنسانيّة أيضًا. »فعلاقة الرقّ للَّه« تمنع التبادل في العلاقات الإنسانيّة كما يشرح المطران جورج (خضر): »فالحرّ وحده يعطي والحرّ الآخر يأخذ«. »في لاهوت الهيمنة ليس من كلمة« في حين أنّ »شرعيّة الكلام« مصدرها »أنّ اللَّه ارتضاك خالقًا بالمعنى الصحيح، أي ارتضى أن يحدّ نفسه ولا يبقى عليك مهيمنًا« لذلك »أن تكون على صورته هو أن تكون قادرًا على الكلام«، كما يقول أيضًا المطران جورج (خضر) في موضع آخر. معيار التواضع الحقّ كما يبدو في مثل الوزنات هو نموّ الشخص ومواهبه، في حين أنّ التواضع الكاذب يجهض ولادة الشخص في علاقته مع اللَّه والبشر.
تأكيد الإنسانيّة وكرامة الشخص هو تأكيد لمجد اللَّه؛ أمّا نفي اللَّه ونكرانه فهو نكران لكرامة الإنسان. اللَّه هو المركز العميق الذي تتمحور حوله طبيعتنا ومن دونه ليس الإنسان إنسانًا. لذلك لمـّا سئل الأب صفروني »قل لي: من هو اللَّه؟«، أجاب بإيجاز: »هل تستطيع أوّلاً أن تقول لي من هو الإنسان؟«. قلب الإنسان هو المرآة التي يتجلّى فيها اللَّه. واللَّه هو النموذج الذي تتطلّع إليه طبيعتنا بشوق ولهب سرّيّين. يرى القدّيس غريغوريوس النزينزيّ أنّ خلاص الإنسان هو التألّه. فالإنسان كما يقول كائن حيّ تلقّى دعوة إلى أن يصير إلهـًا أي متّحدًا بالإله. لا يتغافل القدّيس غريغوريوس عن واقع الخطيئة والضعف، فهو يدرك معطوبيّة الإنسان والمأساة التي يشعر بها الشخص كلّما أخفق في تحقيق دعوته. غير أنّ المسيح آدم الجديد المحقّق في نفسه هذه الوحدة المبتغاة، هو الوسيط بين اللَّه والبشر وفيه ينال كلّ شخص ملء قامته باكتشافه أنّه محبوب، وتاليًا أنّه قادر على المحبة المجّانيّة. إذا لم أكن محبوبًا، أصبح غريبًا عن نفسي كما يقول الأب ديميتري (ستانيلواي) لأنّ الحدث الأعظم بين اللَّه والبشر، وبين كلّ شخص وشخص، هو المحبّة والمحبوبيّة كما يقول بول إفدوكيموف. إذا استطعنا أن نجعل المحبّة ألف وياء تأمّلنا في سرّ الشخص، يمكن لشهادتنا المسيحيّة في هذا القرن أن تكون خلاّقة ومحيية. l
المراجع :
المطران جورج (خضر). إبداع اللَّه وإبداعنا النهار 2007.
المطران جورج (خضر). هل من شرعيّة للكلام؟ النهار 1999
Kallistos Ware. La théologie orthodoxe au vingt-et-unième siècle. Irenikon 2004, vol. 77, no2-3, pp. 219-238