2015

6. الجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور - الأب سمعان (أبو حيدر) – العدد الرابع سنة 2015

 

الجالسون في كورة الموت وظلاله

أشرق عليهم نور

الأب سمعان أبو حيدر

 

يربط متّى الإنجيليّ بين بدء عمل الربّ يسوع ودعوة التلاميذ، (بعد الظهور الإلهيّ في الأردنّ وصومه في البرّيّة)، باستقراره في كفرنحوم وانطلاقة بشارته التي يرى فيها تحقيقًا لنبوءة إشعياء: »وترك الناصرة وأتى فسكن في كفرناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتاليم، لكي يتمّ ما قيل بإشعياء النبيّ القائل: »أرض زبولون وأرض نفتاليم، طريق البحر، عبر الأردنّ، جليل الأمم. الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور«. من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول: »توبوا لأنّه قد اقترب ملكوت السماوات« (متّى ٤: ١٣- ١٧).

تأتي نبوءة إشعياء، التي نجدها في الإصحاح التاسع من كتابه، في سياق إعادة قراءة أحداث تاريخيّة من سفر القضاة (قصّة جدعون)، وتتحوّل إلى نبوءة للمستقبل يرى متّى الإنجيليّ أنّها تتحقّق مع دخول الربّ يسوع منطقة الجليل الساحليّة (أرض زبولون وأرض نفتاليم) والضفّة الغربيّة لنهر الأردنّ (عبر الأردنّ) والمدن العشر (ذيكابوليس) حول بحر الجليل (طبريّة): »ولكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق. كما أهان الزمان الأوّل أرض زبولون وأرض نفتاليم، يكرّم الأخير طريق البحر، عبر الأردنّ، جليل الأمم. الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور« (إشعياء ٩: ١- ٢).

كان الشعب بعد تقاسمه الأرض بين الأسباط، في زمن القضاة، قد تراخى وابتعد عن عبادة اللَّه: »وعمل بنو إسرائيل الشرّ في عيني الربّ، فدفعهم الربّ ليد مديان سبع سنين« (قضاة ٦: ١)، وكان المديانيّون: »يصعدون بمواشيهم وخيامهم ويجيئون كالجراد في الكثرة وليس لهم ولجمالهم عدد، ودخلوا الأرض لكي يخرّبوها. فذلّ إسرائيل جدًّا من قبل المديانيّين. وصرخ بنو إسرائيل إلى الربّ« (٥-٦). فزار ملاك الربّ جدعون (ابن يوآش الأبيعزريّ) وهو مختبئ في المعصرة يدرس حنطته خفيةً خوفًا من سطوة المديانيّين، وبادره: »الربّ معك يا جبّار البأس« (١٢). لم يقدر جدعون على أن يصدّق أنّ اللَّه اختاره: فقال له: »أسألك يا سيّدي، بماذا أخلّص إسرائيل؟ ها عشيرتي هي الذلّى في منسّى، وأنا الأصغر في بيت أبي« (١٦)، لم يفهم جدعون أنّ »قوّتي في الضعف تكمل« (٢كورنثوس ١٢: ٩)،  و»حيث يشاء الإله يغلب نظام الطبيعة« (كاتسما باللحن الرابع من صلاة سحر الميلاد)، لذلك طالب جدعون ملاك الربّ ببراهين (جزّة الصوف في ٣٧- ٤٠). وبعد أن تطهّر الشعب من عبادة البعل، وأزيلت السارية في إسرائيل على يد جدعون، جمع جيشًا وكان عدده كبيرًا فرفضه الربّ قائلاً: »إنّ الشعب الذي معك كثير عليّ لأدفع المديانيّين بيدهم، لئلاّ يفتخر عليّ إسرائيل قائلاً: يدي خلّصتني«! (٧: ٢). لذلك سرّح جدعون أغلب عديد جيشه بأمر من اللَّه، وبقي له ثلاث مئة جنديّ! »وقسم الثلاث مئة الرجل إلى ثلاث فرق، وجعل أبواقًا في أيديهم كلّهم، وجرارًا فارغةً ومصابيح في وسط الجرار« (١٦). وطوّق جدعون ورجاله معسكر المديانيّين (وكان عددهم كالجراد بكثرته) وكانوا مطمئنّين وغافلين يسكرون بالخمر لاعتقادهم بعدم جدوى قوّة جيش جدعون. »فضربت الفرق الثلاث بالأبواق وكسّروا الجرار، وأمسكوا المصابيح بأيديهم اليسرى والأبواق بأيديهم اليمنى ليضربوا بها، وصرخوا: سيف للربّ ولجدعون« (٢٠)، فاستفاق جيش المديانيّين مذعورًا »وضرب الثلاث المئين بالأبواق، وجعل الربّ سيف كلّ واحدٍ بصاحبه وبكلّ الجيش« (٢٢)، فهرب جيش المديانيّين وأباد بعضهم البعض وقضي على من بقي منهم وعلى أميريهما. من المهمّ ذكره أيضًا أنّ جدعون صار لقبه »يربعل« (٧: ١) أي ما معناه »فليدافع بعل عن نفسه!« - سخريةً وتحقيرًا لعبادة الأوثان.

لذلك، في قراءة النبيّ إشعياء للتاريخ، يرى رمزيّة عمل جدعون كصورة مسبقة عن نور المسيح »ويكون نور القمر كنور الشمس ونور الشمس يكون سبعة أضعافٍ كنور سبعة أيّامٍ في يومٍ يجبر الربّ كسر شعبه ويشفي رضّ ضربه« (٣٠: ٢٦). أو كما لدى ملاخي »ولكم أيّها المتّقون اسمي تشرق شمس البرّ« (٤: ٢).

يؤكّد متّى الإنجيليّ إذًا، أنّ صورة جدعون كما قرأها إشعياء، تشير بشكل نبويّ إلى حضور الربّ بالجسد وبدء عمله البشاريّ - يبثّ »النور« للجالسين في بقعة الموت وظلاله.

لا بدّ من أن نتعلّم، ونحن في زمن تكثر فيه الظلمات من غير نوع أن نسمع كلامه (البوق الإلهيّ)، فنكسر الجرار (رموز العبوديّة فينا)، ونجعل نوره (المصابيح) يقودنا إلى الحرّيّة: »النور معكم زمانًا قليلاً بعد فسيروا ما دام لكم النور لئلاّ يدرككم الظلام« (يوحنّا ١٢: ٣٥).l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search