المجمع الأرثوذكسيّ الكبير-٤
الانتشار الأرثوذكسيّ
جورج عندور
أمام هذا الواقع، حاول البطريرك المسكونيّ ملاتيوس الرابع (متكساكيس)، دفع القمّة الأرثوذكسيّة المنعقدة في العام ١٩٢٣ إلى اتّخاذ قرار يتعلّق بتنظيم الانتشار ولا سيّما في أميركا التي زارها حيث يوجد بناءً لمشاهدته »عدد كبير من المطارنة الأرثوذكسـيّين من جنسيّات مختلفة، لا تقوم بينهم أيّة علاقة تعاون وتنسيق ولا يربطهم أيّ رابط غير انتمائهم إلى الأرثوذكسيّة«. وإذ رأى البطريرك أنّ هذا الواقع »يعيق الشهادة ويُضعف الحضور الأرثوذكسيّ ويُفقده فعاليّته بسبب النزاعات بين الكنائس القوميّة« اقترح تنظيمًا للمهاجر (الانتشار) يرتكز على المبادئ التالية:
اعتبار المهاجر أبرشيّات تابعة للبطريركيّة المسكونيّة بحسب القانون 28 من مجمع خلقيدونية الذي تتبع بموجبه أرض البرابرة لهذه الأخيرة؛
مراعاة المشاعر القوميّة للشعوب الموجودة في المهاجر من خلال ترك الحرّيّة بإنشاء رعايا للمجموعات القوميّة المختلفة، يقوم برعايتها والإشراف عليها ذاتيًّا مطارنة ينتمون إليها؛
يُعيَّن هؤلاء المطارنة، الذين يتمتّعون باستقلال وإدارة ذاتيّة في إدارة رعاياهم، من قبل كنائسهم التي تقترح أسماءهم على البطريركيّة المسكونيّة التي تعطي بركتها لهم بالسفر إلى أميركا؛
يجتمع هؤلاء برئاسة ممثّل البطريركيّة المسكونيّة للتداول في شؤون كنيسةٍ محلّيّة؛
بحسب هذا الاقتراح، تكون البطريركيّة المسكونيّة الرباط، ولو الضعيف، بين الكنائس القوميّة المختلفة في أميركا، ويتمّ تجاوز الوضع غير القانونيّ في المهاجر.
لم يلق هذا الاقتراح أيّ تجاوب من المجتمعين، فسحبه البطريرك ملاتيوس من التداول ليظلّ الوجود الأرثوذكسيّ في بلدان الانتشار على حاله ممّا دفع اللجنة الأرثوذكسيّة التمهيديّة المنعقدة في دير الفاتوبيذي في العام ١٩٣٠ الطلب من المجمع التمهيديّ في قرارها الرابع »أن يقوم بدرس وضع الكنيسة الأرثوذكسيّة في أميركا وأن يعمل على إيجاد الوسائل المناسبة لتحسينه وتصحيحه«.
وفي المرحلة الممتدّة منذ مطلع الثلاثينيّات وحتّى مطلع الستّينيّات، ازداد وضع الانتشار الأرثوذكسيّ تعقيدًا مع تفاقم الهجرة من الدول الأرثوذكسيّة إلى قارّات جديدة، ما دفع المؤتمر الأرثوذكسيّ الأوّل المنعقد في جزيرة رودوس في العام ١٩٦١ إلى إدراج موضوع »الأرثوذكسيّة وبلدان الانتشار (الشتات): الحالة الحاضرة والوضعيّة القانونيّة للأرثوذكسيّين في بلاد الانتشار« ضمن لائحة مواضيع المجمع الأرثوذكسيّ الكبير. لم تشهد المرحلة الفاصلة بين مؤتمر رودوس الأوّل والمؤتمر الأرثوذكسيّ التمهيديّ الأوّل المنعقد في العام ١٩٧٦ أيّ تطوّر بشأن معالجة مسألة الانتشار الأرثوذكسيّ فاحتلّت هذه المسألة المرتبة الأولى في لائحة المواضيع العشرة التي سوف تشكّل جدول أعمال المجمع الكبير. وقد كلّف المؤتمر التمهيديّ كنائس القسطنطينيّة وأنطاكية وموسكو ورومانيا واليونان إعداد أوراق عمل حول هذه المسألة.
كلّف المجمع الأنطاكيّ المقدس مطران اللاذقيّة إغناطيوس (هزيم) إعدادَ الورقة الأنطاكيّة التي اعتبرت »أنّ الانتشار الأرثوذكسيّ قد بلغ مرحلة من النضوج تطلب النظر في وضعه من زاوية مختلفة وبطريقة فعّالة. فهذا الانتشار مدعوّ ليس إلى أن يبقى فقط على قيد الحياة، كما كان الأمر في الماضي، بل أن يتحوّل إلى عنصر ديناميكيّ وخلاّق في المكان الذي يوجد فيه. إنّ وحدة الأرثوذكسيّة في مناطق الانتشار الأرثوذكسيّ المختلفة قد أصبحت أمرًا ضروريًّا من أجل الحفاظ على نقاوة الكنيسة وشهادة الكنيسة الأرثوذكسية«.
وقد اقترحت الورقة الحلول التالية لمسألة الانتشار:
١- من المفضّل أن يعترف المجمع بجميع كنائس الانتشار في حال لم يحُل مانع جوهريّ دون ذلك؛
٢- من المستحسن أن يتمّ إنشاء مجامع محلّيّة، يكون أعضاؤها مطارنة الكنائس الأرثوذكسيّة المختلفة. يمكن أن يتمّ هذا بشكل خاصّ في أوروبّا وأميركا وأستراليا وحيثما يمكن في المستقبل؛
٣- يجب منح الاستقلال الذاتيّ لجميع كنائس المناطق المذكورة أعلاه. تكلّف المجامع المحلّيّة بتنفيذ هذه العمليّة وتحديد مراحلها؛
٤- تتبع القوانين الرسوليّة وقوانين المجامع المسكونيّة بشكل دقيق، بحيث يكون أسقف واحد في المدينة الواحدة، ومتروبوليت واحد في المقاطعة الواحدة؛
٥- تبقى علاقات الكنائس الأمّ وكنائس الانتشار علاقات ذات طابع أخويّ، بحيث تُعبّر عن الروحيّة الأرثوذكسيّة حيث يكون الواحد للكلّ والكلّ في خدمة الواحد؛
٦- يمكن المحافظة، على مستوى الرعايا، في حال الضرورة، على العناصر القوميّة واللغويّة وغيرها طالما أنّ هذه العناصر لا تضرّ بوحدة الكنيسة المحلّيّة ووحدانيّة الجسم الأسقفيّ فيها؛
٧- أثناء تنفيذ الاستقلال الذاتيّ، يفضّل احترام الكنائس المسيحيّة الأخرى.
قامت المؤتمرات التمهيديّة الثلاثة التي انعقدت ما بين العامين ١٩٧٦ و١٩٨٦ بدراسة المواضيع المدرجة على جدول أعمال المجمع الكبير والتي لا تندرج ضمن »المشكلات القانونيّة الحاليّة التي تواجه الكنائس الأرثوذكسية«، واستبقت المواضيع التنظيميّة ومن بينها مسألة الانتشار للمؤتمر التمهيديّ الرابع بعد أن تمّ إقرار آليّة علميّة تسهّل دراستها ضمن اللجان التحضيريّة وترتكز على تصنيف اقتراحات الكنائس من قبل أمانة السرّ بطريقة تبيّن وجوه التلاقي والاختلاف بين هذه المواقف. استمرّت مرحلة إعداد المواضيع من قبل أمانة سرّ المجمع حتّى العام ١٩٨٩ وبدأ العمل التحضيريّ في العام ١٩٩٠ واستمرّ بوتيرة متسارعة لغاية العام ١٩٩٩ تاريخ توقّفه بسبب الأزمة التي نشبت إثر منح كنيسة إستونيا الإدارة الذاتيّة من قبل البطريركية المسكونيّة.
بعد انقطاع دام عشر سنوات، اتّفق رؤساء الكنائس على إعادة إطلاق العمل التحضيريّ للمجمع الكبير، فانعقد المؤتمر التمهيديّ الرابع في حزيران ٢٠٠٩ وقرّر ما يلي في ما يتعلّق بمسألة الانتشار:
١) أ) تبيّن أنّ جميع الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة متّفقة العزم على حلّ موضوع الانتشار الأرثوذكسيّ بأسرع وقت ممكن، بحيث يتمّ تنظيم هذا الانتشار وفقًا لمبادئ الإكليزيولوجيا الأرثوذكسيّة والتقليد والممارسة القانونيّة للكنيسة الأرثوذكسيّة.
ب) تبيَّن أيضًا، أنّه يتعذّر في المرحلة الحاليّة، لأسباب تاريخيّة ورعائيّة، الانتقال فورًا إلى التنظيم القانونيّ الكنسيّ الدقيق لهذه المسألة، بحيث يوجد أسقف واحد في المكان الواحد. ولهذا السبب توصَّل المؤتمر إلى نتيجة تقضي باقتراح مرحلة انتقاليّة تهيّئ الأرضيّة من أجل حلّ قانونيّ سليم لمسألة الانتشار، على ألاّ تتعدّى مرحلة تهيئة الأرضيّة تاريخ انعقاد المجمع الأرثوذكسيّ الكبير، بحيث يقوم هذا الأخير بإيجاد حلّ قانونيّ لمسألة الانتشار.
2) أ) يقترح المؤتمر الحاليّ أن يتمّ إنشاء »جمعيّات أسقفيّة« في المناطق المذكورة أدناه خلال المرحلة الانتقاليّة المخصّصة لإيجاد حلّ لمسألة الانتشار، على أن تضُمّ هذه الجمعيّات جميع الأساقفة القانونيّين الموجودين في كلّ من هذه المناطق والذين يبقون خاضعين لكنائسهم القانونيّة.
ب) تتألّف هذه الجمعيّات الأسقفيّة من جميع أساقفة هذه المناطق الذين هم في شركة قانونيّة مع جميع الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة. يرأس هذه الجمعيّات المتقدّم بين مطارنة بطريركيّة القسطنطينيّة، وفي حال عدم وجوده يتمّ اتّباع التسلسل بحسب الذبتيخا. يكون لكلّ جمعيّة أسقفيّة لجنة تنفيذيّة تتألّف من المطارنة المتقدّمين التابعين لمختلف الكنائس الموجودة في المنطقة.
ج) من مهامّ هذه الجمعيّات الأسقفيّة ومسؤوليّاتها السهر على إظهار وحدة الأرثوذكسيّة، وتطوير عمل مشترك بين الأرثوذكس الموجودين في كلّ منطقة من أجل معالجة الاحتياجات الرعائيّة للأرثوذكس المقيمين في هذه المنطقة، والتمثيل المشترك للأرثوذكس لدى الطوائف الأخرى والمجتمع المحلّيّ، وتنمية العلوم اللاهوتيّة والتربية الكنسيّة، وغيرها من الأمور... تؤخذ القرارات في ما يتعلّق بهذه المواضيع بإجماع الكنائس الممثّلة في الجمعيّة الأسقفيّة للمنطقة.
3) كمرحلة أولى، تنشأ جمعيّات أسقفيّة في المناطق المحدّدة التالية:
أميركا الشماليّة وأميركا الوسطى؛
أميركا الجنوبيّة؛
أستراليا ونيوزيلاندا وأوقيانيا؛
المملكة المتّحدة وإيرلندا؛
فرنسا؛
بلجيكا وهولندا واللوكسمبورغ؛
النمسا؛
إيطاليا ومالطا؛
سويسرا وليخنشتنيان؛
ألمانيا؛
الدول الإسكاندينافيّة (ما عدا فنلندا)؛
إسبانيا والبرتغال؛
إنّ الأساقفة المقيمين في بلدان الانتشار والذين لهم رعايا في مناطق متعدّدة يكونون أعضاء في الجمعيّات الأسقفيّة التابعة لهذه المناطق.
4) إنّ الجمعيّات التي تتشكّل بناء على قرار هذا المؤتمر تكلَّف إنجاز تفاصيل أنظمة عملها التي أَقرَّها المؤتمر وتطبيق هذه الأنظمة في أسرع وقت ممكن، وذلك قبل تاريخ انعقاد المجمع الأرثوذكسيّ الكبير.
5) لا تَحرم جمعيّات الأساقفة أعضاءها من صلاحيّاتهم ذات الطابع الإداريّ والقانونيّ، كما أنّها لا تحدّ من حقوقهم في بلاد الانتشار. وتهدف جمعيّات الأساقفة إلى إعطاء موقف أرثوذكسيّ موحَّد من المسائل المختلفة المطروحة. هذا لا يمنع الأساقفة الأعضاء فيها، والذين يبقون مسؤولين أمام كنائسهم، من التعبير عن مواقف كنائسهم أمام العالم الخارجيّ.
6) يدعو رؤساء الجمعيّات الأسقفيّة هذه الجمعيات إلى الانعقاد، ويرأسون جميع الاجتماعات المشتركة لأساقفة منطقتهم (الليتورجيّة والرعائيّة والإداريّة وغيرها). أمّا في ما يتعلّق بالمواضيع ذات المصلحة المشتركة والتي ترى الجمعيّة الأسقفيّة أنّها تطلب نقاشًا على المستوى الأرثوذكسيّ العامّ، فإنّ رئيس الجمعيّة يُحيلها إلى البطريرك المسكونيّ لإجراء المقتضى وفقا للممارسة الأرثوذكسّية المتّبعة.
7) تلتزم الكنائس الأرثوذكسيّة بأن لا تقوم بأيّ عمل يُعيق المسار المذكور أعلاه والذي يهدف إلى معالجة مسألة الانتشار بطريقة قانونيّة، ويتعهّدون بأن يقوموا بكلّ ما في وسعهم لتسهيل عمل هذه الجمعيّات الأسقفيّة وبالعودة إلى الممارسة القانونيّة السليمة في بلدان الانتشار«.
أقرّ المؤتمر نفسه »نظام عمل الجمعيّات الأسقفيّة في الانتشار الأرثوذكسيّ«، لتبدأ مرحلة انتقاليّة جديدة قوامها التعاون بين الكنائس الأرثوذكسية في بلدان الانتشار من أجل شهادة أرثوذكسيّة واحدة، بانتظار حلّ نهائي لهذه المسألة ينتظر أن يأتي به المجمع الأرثوذكسيّ الكبير، ويرجى أن ينقل كنائس الانتشار لتصبح »عنصرًا ديناميكيًّا وخلاّقًا« ضمن عائلة الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة.l