السامريّة
شوقي ساسين
علَّقْتُ نومي فوق مشكاتي
وسرَّحْتُ الدُّروبْ.
ولَطِيتُ تحتَ ظهيرةٍ عجلى
تسوطُ دمي كحوذيٍّ،
يسوقُ الآوناتِ إلى شحوبْ،
لكأنَّ رائعةَ الهواجرِ
خُفيةٌ يكتنُّ فيها الخطوُ عن همْسِ الرقيبْ.
وتجوزُني خمسٌ من الحَيَواتِ
- هذا العمرُ سادسُهنَّ -
لا أدري إذا ما كنَّ عيشًا أو مماتًا،
والمدى حولي مرايا من خطايا
كلّما كفكفتُها طفِقَت إلى جسدي تتوبْ.
ولديَّ ميراثُ المياهِ
وما ترقرق من ندى حرْمونَ
في عطشِ الجنوبْ.
وقبائلُ شتَّ المقامُ بها
وكان الأنبياءُ الطالعون إلى رضاها
يسكبون الغيظَ غَيْماتٍ من اللعناتِ،
كان أبي هنا،
أجداديَ الأعلَونَ،
كلُّ أرومةِ النسبِ المريبْ،
ومطارحُ قدسيَّةٌ
سجدَتْ على حَصْبائِها رُكَبُ القلوبْ،
فعلامَ تطلبُ أن أناولَكَ المياهَ؟
وكيف تحفَظُ بئرُنا فحوى نقاوتها
إذا من جرَّتي شَرِبَ الغريبْ؟
أنا أعرفُ الكتبَ التي يبسَتْ على صفحاتها
أبصارُ آبائي،
وهم يتناوبون الخوفَ من حَرْفٍ غضوبْ.
وأرى العداوةَ
بين ذاكرتين لا تتخالطان
ولا هما تتباعدانِ،
وفيهما يتصبَّبُ التاريخُ نسيانًا
وتُحتَفَرُ الندوبْ:
(- نحنُ البنونَ وأنتمُ الأغيارُ من أممٍ
جِبِلَّتُها الذّنوبْ.
- هذا هو الجبلُ المقدَّسُ
ههنا مهدُ الصباحِ وكلُّ دنياكم غروبْ.)
وطني
كأنَّ ثُغاءَ ماشيةٍ يرنُّ على الصخورِ،
كأنَّ راعيةً تنادي الليلَ:
قمْ هَبَطَ المساءُ على السفوحِ
فصلِّ واسهَرْ
وانتظرْ قربَ الضُّحى أحلامَنا
حتى تؤوبْ،
وطني
كأنَّ الأرضَ تهتفُ:
لا مكانَ سواهُ كي تتعمَّدَ الأعمارُ بالفوضى
وتغسلَ هدأةَ الزمنِ الرتيبْ،
وطني
كأنَّ السَّيفَ سيَّجَ ساحتَيْهِ بالحروبْ،
يا سيِّدي
وطني المقدَّسُ
لا سؤالُكَ
فابتعِدْ عنّي ودعني
والمياهَ
وما تكوَّمَ حولَ وقتي من هروبْ.
»لو تعلمينَ لكنتِ أنتِ طلبتِ«
قالَ،
وكيفَ يسقيني
وليس بكفِّه حبلٌ ولا دلوٌ؟
وما لي لا أجيبْ؟
أَبِبَعْضِ ألفاظٍ
كأنْ عُرِكَتْ بطيبْ
أغضي على تهتانِها عُريانةَ الذِّكرى؟
فيكسو لفتتي خجلٌ قشيبْ.
- لو تعلمين هناك لي جبلٌ
سأبني فيه مملكةَ الصليبْ،
الجرحُ سيِّدُ عرشِها
جسرُ الترابِ إلى السماءِ
أريكةُ الكونِ الرَّحيبْ.
ما الأمسُ؟ ما الآتي؟
وهل في الأرضِ أقدسُ من جراحٍ
نازفٍ من نَغْرِها فرَحٌ سكيبْ؟
لا، ليس من وطنٍ سوايَ،
أنا الزمانُ
أنا المكانُ
أنا الوجودُ
أنا الغيوبْ،
والأرضُ نَسْيُ مواعد رثَّت
كما هيلَ النهارُ على كثيبْ.
»وتهونُ إلاّ موضِعًا« في القلبِ
فيَّحَهَ اللّهيبْ،
»ويهونُ فيها العمرُ إلا ساعةً«
يُفدى العدوُّ بها كما يُفدى الحبيبْ.
وأنا الذي كسَّرْتُ من قبلُ الزمانَ
بعرسِ قانا
أهزمُ الآنَ المكانَ
فإنَّ للأطيارِ أوكارًا
وللحيوانِ أَوْجِرَةً
ولكنَّ ابنَ آدمَ ما له من موضعٍ في الأرض
يسندُ رأسَه إليه
سوى جرحي الخضيبْ.
يا سامريَّةُ
إنّما بالحقِّ يُسجَدُ حيثُ شاءَ الروحُ
لا في الهيكلِ النائي
ولا الجبلِ القريبْ.
- ها جرَّتي امتلأت
كما امتلأت أجاجينُ النبيذ
بذلكَ السُّكرِ العجيبْ،
هي ذي مياهُكَ فاسقِني منها
وخذْ واشربْ
فبَعدَكَ
كلُّ أرضٍ لي صلاةٌ
كلُّ إنسانٍ نسيبْ.l