2015

11. من الأسبوع العظيم إلى الفرح الكامل - مهى عفيش – العدد الثالث سنة 2015

 

من الأسبوع العظيم إلى الفرح الكامل

مهى عفيش

 

 

قمَّة الليتورجيا والأسبوع الأكثر غنًى وجاذبية واستقطابًا للمؤمنين، أسبوع الآلام، أو بشكل أدقّ وأجمل: الأسبوع العظيم. أسبوع التناقضات والصراعات والتطرّفات: الخير الأقصى والشرّ الأقصى، الحبّ الأقصى والبغض الأقصى، الألوهة والإذلال الأقصى...

في أحد الشعانين شاهدنا دخول الربّ المجيد إلى أورشليم. وهرعنا نستقبله كالأطفال حاملين الشموع والأغصان وهاتفين له من القلب: »مبارك الآتي باسم الربّ، مخلّصنا«. ولكنّنا حبسْنا الأنفاس لعلْمنا بأنّه يتحضّر ليوم مجده، يوم عرسه. وفي المساء أوقدنا مصابيحنا وسهرنا منتظرين قدومه: هو الختن المشوق إليه، ختن البيعة الحبيب.

وبكّرنا جدًّا يوم الخميس فجلسنا معه إلى مائدته وشاركْنا في عشائه السرّيّ. أخذْنا من يده القدّوس الأسرار الرهيبة الخلاصيّة، وكاللصّ توسّّلنا إليه أن: »اذكرني يا ربّ متى أتيت في ملكوتك«. وفي المساء شهدنا خيانة تلميذه له وتسليمه لليهود. وقرأنا كلّ تفاصيل توقيفه ومحاكمته والاستهزاء به وجَلده ومسيرته إلى الجلجلة وصلبه وإسلامه الروح. وتركناه، نحن أيضًا تركناه، عريانًا، مرذولاً، وحيدًا، مُعلَّقًا على خشبة.

ولكنّنا عدنا مساء الجمعة، نحمل في نفسنا الألم والأمل. فاستقبلتنا الكنيسة بخدمة ليتورجيّة مُدهِشة في عمق فهمها هذا الحدث، والتأمّل فيه، والانحناء أمام عظمته. وبعد مراثي التفجّع أنشدنا للحال تراتيل القيامة. وكأنّ الخدمة بالحقيقة عرس في باطنه ولكنّه مغلّف، آنيًّا، بطبقة من الحزن والشوق والانتظار.

غريب جدًّا هذا الشعور الذي ينتابنا يوم الجمعة مساءً ونحن نغادر الكنيسة تاركين الربّ فيها مُسجَّى في النعش ومحاطًا بالزهور. نعود إلى منازلنا وقد دفنّا للتوّ ربّنا وإلهنا وعنصر حياتنا: كمن يرى روحه ممدّدة أمام عينيه، ويرثيها. ثمّ يتساءل: كيف يبقى حيًّا وقد فارقته الروح؟

يوم السبت »يسبت« الربّ في القبر بعد أن تمّم كلّ شيء. ولكنّ الكنيسة تتسربل بالأبيض وتقيم خدمة الأحد القياميّة. ويخرج الكهنة من الهيكل ينثرون الغار على المؤمنين. غار النصر. غار الفصح الذي يلوح.

ماذا حلّ بالحزن القاتم، بالألم العميق؟ والأعجب أنّنا نرتّل للربّ الراقد، الفاقد النسمة: »قم يا اللَّه واحكم في الأرض«! ونكاد لا نستطيع الصبر لمعاينة انتصار إلهنا، ونتأجّج في ترقّبنا بزوغ الفجر. وكم تطول هذه الليلة!

يوم الأحد صباحًا يتفجّر الفرح شلاّلات مع بشائر الصباح الأولى، حين نرى السيّد قائمًا، محطِّمًا أبواب الموت الدهريّة الموصدة. وحين نسمع أوّل تراتيل الكنيسة تنشد: »المسيح قام« يعود الفرح لا يكفي لوصف شعورنا. ولا تكفي التراتيل المفعمة بالتهليل لغبطتنا. هذا ليس فرحًا، إنّه بزوغ الحياة الجديدة. لقد تحوّل القبر إلى رحم ظفر وينبوع قيامة. صار كلّ منّا »أورشليم الجديدة« التي تستنير »لأنّ مجدَ الربّ قد أشرق عليها«، وكأولاد للفرح الإلهيّ، نتراكض »بأقدام متهلِّلة عاقدين فصحًا أبديًّا«. كلّ منّا يعرف بأنّ هذا الفرح الذي فيه يشهد على أنّ القيامة حقيقيّة. هذا الفرح لا يمكن أن يكون إلاّ إلهيًّا.

يترك انقضاء الأسبوع العظيم في النفس كلّ مرّة فرحًا ومرارة في آن، وشعورًا مُبهمًا كشعور مَن يعود من زمن آخر يعبق بالحنين إلى الأبديّة.

فالمجد والسجود لهذا الإله العظيم العجيب العزيز الذي يصحبنا سنويًّا - في رحلة طاعته للآب وتواضعه وصلبه وموته من أجلنا، ثمّ انتصاره على الموت - إلى عتبة ملكوته المضيئة، مانحًا إيّانا الصفح والفداء والحياة الأبديّة لكي، كما وعدَنا، يكون فرحنا به كاملاً (يوحنّا 16: 24)، آمين.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search