«يسوع المسيح ملك الملوك والكاهن الأعظم»
كتاب إيمّا غريّب
جان توما
في زمن ملوك المنوّعات تبحث »إيما غريّب« عن ملك الملوك، كما في العهد القديم، عن الإله الحقيقيّ وسط الآلهة المتعدّدة، وفي زمن الكهنة العظماء تخرج »إيمّا غريّب« حاملة مصباحها تبحث عن وجه إلهها بين وجوه آلهة اليوم.
إله اليوم خطر، الكلّ موصول به ليل نهار، والويل إن طار »النت« ملك الملوك اليوم والكاهن الأعظم الآن فإلى أين جنحت يا إيمّا؟! تحملين همًّا قد لا يقدر على حمله كثيرون لأنّه التزام صعب، في زمن صعب، وفي جيلٍ الدخول إلى تلافيف دماغه، صعب، وفي زمن خفتت فيه الرسوليّة لصالح العمل الوظيفيّ المتزمّت.
الجميل في كتاب »إيمّا« أنّه يزاوج بين النصّ والأيقونة، في محاولة لتلوين مرمى البصر بين الرسم بالريشة والرسم بالكلمات. دائمًا تعتمد »إيمّا« على بابين للدخول إلى المعنى، إمّا عبر الحرف أو عبر الصورة. أليست القصّة كلّها لعبة عين كي تستحي فتلج أغوار المعاني؟ وإلاّ فلماذا الألوان في أيقونة يجب أن تكون بسيطة التراكيب كسيّدها؟ أو فلماذا الأساليب البيانيّة والبديعيّة في النصّ المكتوب؟
فإذا كان التصوير لعبة ضوء والطيران لعبة هواء، فإنّ »إيمّا« استطاعت أن تتقن لعبة التناصّ ما بين النصّ والأيقونة، تستحضر المضامين المصوّرة وتترجمها معتمدة على الآيات المطلوبة للتفسير والتوضيح. لعلّ »إيمّا« المتشرّبة النصوص الإنجيليّة والمتبصّرة في الكلام المقول من آباء الكنيسة الأحياء، والمتبحّرة في مرامي فنّ الأيقونة استطاعت أن تضع توليفة ناجحة بين هذه العناصر الثلاثة لتأطير مساحةٍ من المعرفة اللاهوتيّة المرتجاة بلغة العصر الذي نعيش، وإن كانت قد اعتمدت على مروحةٍ واسعة من الآيات الإنجيليّة لتمتين سياق العرض وللاحتجاج بالشواهد المطلوبة.
إنّ عنوان الكتاب، وإن كان مستلاًّ من النصّ الإنجيليّ، إلاّ أنّه متنوّع في تراكيبه: ملك الملوك والكاهن الأعظم (الغلاف)، ملك الكلّ والكاهن الأعظم في شرح الأيقونة، في الصفحة الأولى، ويسوع الناصريّ ملك الملوك والكاهن الأعظم في التوطئة، ملك الملوك وربّ الأرباب والكاهن الأعظم في الصفحة 19.
هل اختلاف تركيب العنوان، مع وضوح المعنى وتوافقه، يشي بأمر ما؟ طبعًا هذا التنوّع يفيد التقميش الواسع الذي قامت به المؤلّفة، منصرفة إلى الكشف عن أيّ مفردة تفيد العنوان ليكون أوضح وأفصح وأعمّ، في زمن كثرت فيه المختصرات، واكتفى فيه الباحثون بقراءة مطالعات عن الكتاب، أو بمطبوعٍ يعرّف الكتاب على صفحة الغلاف الخارجيّ.
تعب الناس من المطالعة وبخاصّة في القضايا الدينيّة اللاهوتيّة لأنّها لا تقدّم لهم شيئًا جديدًا يواكب العصر، ويجيب عن التحدّيات القائمة في مجتمع متغيّر في كلّ لحظة ومتبدّل على مدار الثانية. فماذا يقدّم جديدًا كتاب »إيمّا«؟
طبعًا لا جديد في المضمون لأنّ العقائد لا تتبدّل بتبدّل الزمن، إنّما الجديد بكيفيّة معالجة تقديم مضامين العقائد الدينيّة والأسلوب السرديّ الذي اعتمدته لمخاطبة الشباب وتظهير ما فهمته الكاتبة للقارىء، وإن كان لي بعض من التساؤلات التي يطرحها الشباب، ولكنّه على ما يبدو عفا عن تجديد طرحها لعدم مواكبة السلطات الكنسيّة الرسميّة لهواجسه وتساؤلاته.
فمثلاً تتناول الكاتبة جملة من الآيات التي تبرز السيّد المسيح ملكًا، وهذه ملوكيّة مقدّسة ذهبت إليها الكاتبة لتؤكّد »أنّ يسوع تحفّظ على لقب ملكٍ وإن قبله في إطاره الماسيّانيّ، ولكنّه كان دائمًا يجرّده من مفهومه السياسيّ« (الصفحة 12). وربطت الكاتبة بوضوح بين الملوكيّة والخدمة الكهنوتيّة. لا ملكيّة في الكنيسة إلاّ سلطة الخدمة، ولا سلطة في الكنيسة إلاّ سلطة المحبّة، أين هما الآن؟ قد يكون من المفيد أن نخرج، كما خرجت الكاتبة، لتبحث عن ملكها بين الملوك، لنبحث عن البداءة في الهرميّة الكهنوتيّة التي يصبح فيها الأوّلون آخرين والآخرون أوّلين، ولكن بالخدمة والمحبّة.
ثمّ تعرض الكاتبة لأيقونة السيّد مرتديًا حلّة الملوك البيزنطيّين التي أصبحت في ما بعد حلّة البطاركة في الصفحة 13، ولكن راحت بيزنطية وبقيت ألبستها الفاخرة، فيما يجب أن نتطلّع إلى بيزنطية السماويّة بألبستها المتواضعة الموافقة لكنيسة الفقراء ووجع إخوة يسوع. من حقّ الشباب أن يسألوا، ومن واجب الكنيسة أن تجيب لأنّ للابن دالّة، وللأب المحبّة التي تتأنّى وترفق.
تطرح الكاتبة جملة من المواقف اللاهوتيّة فيما نتلقّف الموقف لنبني عليه ترجمةً معاصرة. فاسم يسوع أطلقه اللَّه تعالى في لوقا 1: 31 »ستحبلين وتلدين ابنًا تسمّينه يسوع«. الاسم يحمل الشخص. والشخص يختصره اسم مشحون بطاقات حضوره ومعرفته، وها التربية الحديثة تسألنا أن ننادي الطالب باسمه الأوّل، لا باسم عائلته ولا برقمه التسلسليّ، فالعائلة كمٌّ والرقم بلا هويّة. أمّا الاسم، فهو المعنى الكامل. ألم يقع الحرس اليهوديّ أرضًا عندما أجابهم يسوع: أنا هو، أي يهوه، أي الكائن. الاسم مخيف، مرعب إذا كان معبّرًا عن هويّة المرء، لأنّه يواجهك بالحقّ. ومتى عرفت الحقّ، فهو يحرّرك كيلا تسعد بعبوديّتك.
كتاب »إيمّا« يبحث في يسوع وحده، وهو الأساس. كلّ ما تبقى إشارات عبور وتنظيم سير أفكار. »إيمّا« اختارت النصيب الصالح وتدعو القارئ إلى أن يحذو حذوها بعد أن يقرأ ويعاين ويشهد. قارئ الفهرس سيلاحظ أنّ العناوين تشير إليه بوضوح وليس بخفر. تؤكّد حضوره في العالم وما قبل إنشاء هذا العالم. تحكي سيرة عرفتها الكتب ولكن لتعاش لا لتكون حكيًا محكيًّا. ولعلّ العنوان الأوّل تستكمله بالعنوان الأخير، فالأوّل هو: في البدء كان الكلمة، وفي الأخير: استنيري استنيري يا أورشليم الجديدة. هذا الرابط بين البداءة والبداءة، وليس النهاية، هو خلاصة الكتاب الذي يتناول بداءة الكلمة، التي لا بدء لها، وقيام أورشليم الجديدة، القائمة قبل أن تقوم. إشكاليّة تحاول »إيمّا« أن يجيب عنها الكتاب المقدّس في لغة واضحة، غير ملتبسة، متّكئةٍ على الآيات الإنجيليّة بترجمة معاصرة للالتزام بقضيّة اللَّه تعالى على الأرض.
ويبقى أنّ دعوة »إيمّا« إلى الحوار مع شخص يسوع تستحوذ على مضمون الكتاب كلّه. فمن لا يكتشف يسوع، فكيف يقيم معه حوارًا؟ إذا ألغيت الآخر، فكيف تواجهه؟ إذا كان الحوار موجعًا، فعدم مواجهتك الآخر أوجع. يقول نيتشه: »ما أصعب الوحدة بين اثنين«. كيف تصير الآخر إن لم تخرج من نفسك، فكيف إذا خرجت إلى يسوع لتصيره؟ من هنا يدور الكتاب كلّه حول شخص يسوع. يرشدنا إلى وجهه، وعبر النصوص الإنجيليّة والأيقونة، والتأمّلات المرتبطة بها، يرسم لوحة متكاملة له، يمدّ يديه نحونا، منتظرًا أن نسمع صوته ونقبل إليه« (من الغلاف الأخير).
اعتمدت الكاتبة مجموعة كبيرة من الفهارس التي كنت أتمنّى لو أشير إليها في مواضعها المناسبة من النصّ، وتاليًا هذه تقنيّة منهجيّة خاصّة، يجب أن تسري على كلّ كتب تعاونيّة النور في عالم أصبحت فيه صناعة الكتب وانتشارها تقوم على النصّ الملتزم منهجًا علميًّا ثابتًا، له قواعده وأسسه، سواء من حيث التعريف بالأعلام مثلاً التي ترد في سياق النصّ، أو في إعادة الاستشهاد إلى مصدره أو مرجعه، أمانة للبحث العلميّ أو التأمّليّ.
هذا كتاب يقودك إلى الرضا، فلا تعود مع »إيمّا غريّب«، »أيمّا غريّب« بل أليف لسيّدها ونسيب.l