2015

12. ٣ شباط - الأب إيليّا (متري) – العدد الأول سنة 2015

 

 

٣ شباط

الأب إيليّا متري

 

 

لكلٍّ منّا يومُ ميلاده. أمّا دعوتنا، فأن نرتقي جميعنا إلى أنّ الربّ يلدنا في كلّ يوم. هذا أساس حياتنا أنّ روح اللَّه يحتضننا منذ لحظة تكويننا في بطون أمّهاتنا، ويتابع خروجنا بإيلادنا يومًا فيومًا!

مَن أدركوا فكر كنيستنا، لا يفوتهم أنّه لم يتسرّب إلى معتقدنا أنّ ثمّة يومًا محدّدًا يتدخّل اللَّه فيه في حياتنا، يفعل ما يفعله، أي ينادينا فيه إلى حياة جديدة، ويخلّفنا إلى غير رجعة. فهذا التدخّل من الواضح أنّنا نعتقد أنّه يفعله، في غير آن، بعد أن هدانا، بموته وقيامته، خلاصًا مجّانيًّا. إذًا، كيف نفهم، مثلاً، أنّ سرّ المعموديّة، أي سرّ ميلادنا الجديد، يُجرى لنا في يوم محدّد؟ أيُّ سرٍّ من أسرارنا الكنسيّة، وإن أجريناه في الزمان، إلاّ أنّنا فيه نتجاوز الزمان من دون أن نلغيه. نحن، في ليتورجيا كنيستنا، أحرار من كثافة الزمان (والمكان). هذا، مثلاً، يبيّنه أنّنا نبدأ الخدمة الإلهيّة بإعلان دخولنا في »مملكة الآب والابن والروح القدس«.

هذه السطور لم يحرّكني إلى وضعها أن أشجّع أحدًا على أن يحمل دفترًا وقلمًا، ليسجّل ما يفعله اللَّه معه، يومًا فيومًا، من خير لا نستحقّه (إن فعل من نفسه، فسأفرح له!). لكنّني أقترح أن يراقب كلٌّ منّا نفسه، ليرى عدد المرّات التي يتأفّف فيها، يوميًّا، من أمور، تزعجه، يجزم أنّ اللَّه وراءها. لا يوجد ميزان للكلام. وحسبي أنّنا لا نحتاج إلى أيّ ما يؤكّد لنا أنّنا قوم كدنا ننسى أنّ اللَّه حاضر معنا »الآن هنا«، وأنّه يحبّ كلاًّ منّا (أي يحبّ كلّ إنسان في الأرض) شخصيًّا. في مطلع التزامي، قرأت كتابًا (استعرته من مكتبة رعيّتنا) اعتنى واضعه فيه أن يبيّن، فقط، الفرق بين معرفة اللَّه وإرادته. إن كنّا جميعنا نعتقد أنّ اللَّه »يعرف كلّ شيء«، لا أناجي بسرّ إن قلت إنّنا لا نعتقد جميعنا أنّه لا يريد لنا سوى خلاصنا. قليلون بيننا هم الذين يبيّنون اعتقادًا أنّ اللَّه، أمًّا وأبًا، يلدنا روحه الحيّ في كلّ يوم، بل في كلّ ساعة، كلّ لحظة!

تُرى، هل حرّكتني إلى هذه السطور، الضجّةُ التي نثيرها في احتفالنا بعيد ميلادنا الجسديّ؟

بصدق، إنّني لا أنتقد التعييد لخروجنا إلى هذا العالم. ذكرى هذا الخروج لا تهمّني إطلاقًا. كلّ ما أفعله أنّني أدعو نفسي والراغبين من قرّاء هذه السطور إلى أن نفتح قلوبنا على أمر أراه غايةً في الضرورة، أمر أنّ اللَّه لا يتنازل عن رعايته إيّانا، يوميًّا. وهذا، في عالم يعظم فيه الشرّ أكثر فأكثر، سرّ نجاتنا. فنحن، إن لم نعظّم اقتناعنا بأنّ الربّ راعينا في عالمنا عينه، سنُغرق أنفسنا في بحر من آلام لا تطاق. هذا، وإن بقيت الشرور بعيدةً منّا، قليلاً أو كثيرًا. ألا نخاف من المرض، من الموت؟ هذا الخوف لا يأتي من أنّنا ورثنا طبيعةً عطبتها الخطيئة فقط، بل، أيضًا، من قبولنا أن تكون علاقتنا باللَّه متأرجحة، بل من ضعف إيماننا بأنّه أمّنا وأبونا، بأنّه راعينا الذي لا يتخلّى عنّا، بأنّه يُدفق علينا هداياه في كلّ لحظة.

معظمنا يحبّ الهدايا التي تأتينا في مناسبة وغير مناسبة. ثمّة هدايا تفوق عظمتها كلّ هديّة مادّيّة أتتنا، أو نتمنّى أن تأتينا. بلى، كلّ هديّة تعبّر عن ودّ مقدّمها، وعن تعبه في البحث عنها واختيارها ودفعه ثمنها. ولكنّ هذا، الذي يحدث لنا مرّةً في السنة مثلاً (إن اعتمدنا عيد ميلادنا الجسديّ)، يحدثه اللَّه لنا، في كلّ يوم، مرّةً ومرارًا. اللَّه، الذي يلدنا في كلّ يوم، يختار لنا، في كلّ يوم، هدايا تدعم خلاصنا.

هذه الهدايا الخلاصيّة، لا يعبّر عنها، حصرًا، أنّ اللَّه ينقذنا من هذه المصيبة أو تلك، أو من هذا الموت الذي ينتظرنا على الباب. بلى، كلّ هديّة، يقدّمها اللَّه لنا، هي عمل إحياء. اللَّه لا يعمل شيئًا لا يُحيي. لكنّ هداياه تأتينا بألف طريقة وطريقة. تأتينا في مواقع ثابتة: في الصلاة جماعيّةً أو فرديّة، في قراءة كلمته، وفي وجوه الإخوة والناس جميعًا... ولكنّها تأتينا، أيضًا، في ما يمكن أن نعتبره نحن مصادفاتٍ يكون اللَّه فيها محتضننا في يوميّاتنا، في أيّ أمر، نعمله في هذه الحياة، من أجل أن نكون، ونكون أفضل.

أعرف إخوةً يقاربون البكاء كلّما ذكروا أنّ الربّ يسوع، بعد قيامته المجيدة، أعدّ طعامًا لتلاميذه (يوحنّا 21: 9). إلى المطلاّت الإفخارستيّة في الحدث، يعتقدون أنّه أراد أن يدلّ على نفسه بيننا، طبيعيًّا، فيما نأكل ونشرب، بل أن يدلّ على أنّه رفيقنا الذي يخدمنا في حياتنا اليوميّة، يخدمنا لنحيا، لنبقى أحياء، لنزداد علمًا أنّه أمّنا وأبونا (أو لنعلم إن كنّا نسينا أو لم يعلّمنا أحد). هذا أذكره دعمًا لما قادني إلى هذه السطور. فنحن، في علاقتنا باللَّه، عدنا، تقريبًا، لا نفكّر في سوى إمّا أنّه يرحم أو أنّه يدين. ومن دون أن أنزع عن اللَّه أنّه يدين ويرحم، أو أدّعي أنّني، بما أقوله، أزيد على وجوهه الخلاصيّة وجهًا كان خفيًّا، يعنيني أن أذكر أنّ اللَّه، الذي لا ينفكّ يلدنا في »مصادفات« يختارها، هو إله يكاد يغيب عن نمط تفكير الكثيرين بيننا. ولا أنسب إلى الحقّ ما ليس منه إن قلت إنّ اللَّه، إله الأحداث الخلاصيّة، يعنيه، كثيرًا، أن يعرف كلّ منّا أنّه ما زال يريد لنا، معنا، أن يحوّل كلّ ما نحسبه مصادفةً إلى حدث! ألا نعتقد، في كنيستنا، أنّ الربّ ولد من البتول اليوم، وأنّه حضرَ في مجاري الأردنّ اليوم، وأنّه عُلِّقَ على خشبة اليوم، وأنّ اليومَ هو يومُ القيامة، وأنّ نعمة الروح القدس جَمَعَتْنا اليوم...؟ ما قيمة هذا »اليوم« إن لم يكن تعبيرًا حيًّا عن إيماننا بأنّ اللَّه قادر على أن يدخلنا في سرّ حبّه لنا، اليوم؟ اليوم، أي في كلّ يوم، يومك ويومي.

اخترت عنوانًا لهذه المساهمة 3 شباط. ربّما يعني لي هذا التاريخ، وربّما اخترته مصادفةً. ولكنّه يبقى تاريخًا، مثله مثل أيّ يوم آخر، لا بدّ من أنّ اللَّه كانت له فيه مع كلّ منّا تدخّلاتٌ محيية.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search