2015

11. دعوة خير - د. جان يازجي – العدد الأول سنة 2015

 

 

دعوة خير

د. جان يازجي

 

 

عند مقاربة تاريخ الكنيسة، تلفت نظرنا الغيرة الشديدة التي تعاملت معها الكنيسة الأرثوذكسيّة مع العقائد والإيمان الصحيح، ونجد لنا مستندًا مهمًّا يوضح ذلك في تعبير المطران جورج (خضر)ّ، شارحًا الأرثوذكسيّة على أنّها تتضمّن التمجيد المستقيم، بالإضافة إلى معنى استقامة الرأي، وهذا يضعنا في صميم معنى عيش الإيمان.

فالإيمان في نظر الكنيسة عبر العصور، ليس اعتناق رأي ما وحسب، بل هو ما يعيشه المؤمنون في يوميّاتهم، فليست الكنيسة مجرّد جماعة مؤمنين، بل هي جماعة المؤمنين حول يسوع الحاضر بينهم، هذه هي الكنيسة لذلك سعت هذه الجماعة دائمًا، إلى تقديس دقائق حياة المؤمنين في كلّ تفاصيلها، في طعامهم، وشرابهم، وأعمالهم، ومناسباتهم، وقد أقول في لهوهم أيضًا، فكلّ حياة المؤمن تتّجه إلى اللَّه.

المسألة التي سأعرضها تتعلّق بمقدار اتّجاهنا إلى اللَّه، أو بصوغ أدقّ كيفيّة اتّجاهنا إلى اللَّه مقدّسنا، ومحطّ رجائنا، وسبب خلاصنا ومنجزه.

هل نعيش »مؤمنين« في تفاصيل حياتنا، في صخب القرن الحادي والعشرين، في فورة التكنولوجيا والأفكار والنزاعات؟ هل تعكس حياتنا بيئةً يصحّ أن نسمّيها بيئة كنسيّة؟

قد تبدو أفكاري متطرّفة للبعض، الذين أرجو صبرهم وتفهّمهم، وقد تلوح لآخرين مجرّد محاولة هزيلة على طريق تحتاج إلى مزيد من الحزم والضبط، فأرجو عفوهم وغفرانهم، ومن الجميع أطلب سعة صدرهم وحسن ظنّهم.

نحن نعيش في زمن تحوّلات كبرى، تبدو نذرها شديدة الوطأة في شرقنا المتألّم، وأمدُّ الظنّ بالتحوّل إلى الغرب السادر في بهجة الابتكارات والمقدرات، والمرتبك ببوادر لم يحسب لها حسابًا تتمثّل في تطرّفات في مجالات عدّة، تنتشر وتزداد إلى جانب مشاكل اقتصاديّة تتحدّى اطمئنانه المعرفيّ والأخلاقيّ.

نفسّر اليوم، كمسيحيّين، بعضَ مشاكل شرقنا على أنّها اضطهاد آخر يستهدف الكنيسة، وليس هذا تفسيرًا خاطئًا، لكن، للأمر وجوه أخرى حريّ بنا كشفها والحديث عنها.

بهذا المعنى يمكن لنا الحديث عن تهديد للبيئة المسيحيّة، وغالبًا نشعر أن هذا هو ما نخاف عليه، من دون الخوض في مسألة التصفية الجسديّة، أي أنّنا نخشى تدمير ما نعدّه »مسيحيًّا« من تفاصيل حياتنا وأسلوب عيشنا، ابتداء بالكنائس والمناسبات المسيحيّة، وصولًا إلى »طريقة« لبسنا وأكلنا وشربنا ولهونا وسهرنا...

وفي غمرة أحزاننا، لا أجادل في »مسيحيّة« كنائسنا وطقوسنا، لكن هل كلّ ما يفعله المسيحيّون هو »مسيحيّ«؟ هل نحن نعيش وفق »الطريقة« المسيحيّة؟ وأتساءل هل ما نعيشه نحن الأرثوذكس يتوافق مع »الطريق« الأرثوذكسيّ؟ هل دقائق حياتنا تسعى معًا »لتقديس« هذه الحياة؟

أعتقد أنّنا، واعين أو عن غير وعي، نعيش حياتنا بنوع من الانقسام على طريقة ساعة لك وساعة لربّك، وفي كثير من الأمور يكون ربّنا شاهدًا على سيطرة أهوائنا وغلبتها، حتّى عند من يعيش »في الكنيسة«.

كم مرّة صادفنا تعبير: »لا أتناول من يد فلان«؟ وكم مرّة سمعنا إدانة واستهانة بتوبة فلان أو عمله الحسن؟ وكم مرّة أغلقنا جيوبنا بحجّة أنّه »كذّاب« أو أنّه »أغنى منّي« أو »أنا محتاج أكثر منه«. وهل نحن نعيش فعلًا حالة مصالحة أخينا قبل تقديم قرابيننا؟ هل نفتقد قريبنا الذي لا يعجبنا، أم نتمترس وراء أعذارنا المحقّة أو غير الحقيقيّة؟

أين نحن من واقع »ارعوا رعيّة اللَّه التي بينكم نُظّارًا لا عن اضطرار بل بالاختيار ولا لربح قبيح بل بنشاط ولا كمن يسود على الأنصبة بل صائرين أمثلة للرعيّة« (1بطرس 5: 2- 3). وهذا ينطبق على الإكليروس والشعب معًا.

هل نطلب الخروف الضالّ من دون شروط؟ هل ما يزال الآخر هو محطّ اهتمامنا وبيان رجائنا؟ هل نسعى إلى بيئة كنسيّة قادرة على تأمين كلّ ذلك؟

واقع الاستهلاك دخل بيئة الكنيسة، وهذا يعني أنّ المستهلِك هم المؤمنون، وأنّ المستهلَك هم المؤمنون. وخطر الاستهلاك يتركّز في محوريّة الأنا وكلّ ما يصبّ في إشباعاتها المختلفة، وهذا كما لا يخفى يعاكس الدعوة المسيحيّة.

قد أرمي بعض اللوم في وجه حضارة طاغية، سمتها الاستهلاك، أنتجت علـومًا وحـلولاً غـير مسبـوقـة، كمـا أنتجت دمارًا غير مسبوق في كلّ المجالات، ولكن في خضمّ هذه الحضارة مطلوب منّا أن نرفع الصليب. فهل نحن فاعلون؟

لا أقصد أبدًا استخدام الصليب صنمًا في وجه من يعادي الصليب، وهذا ما ينزع إليه البعض، مدركًا أو غير مدرك. مرادي هو تحقيق مشيئة السيّد له المجد: أن تكون الكنيسة مكان فداء، ومصدر نور وعزاء، وهذا لا يتمّ بشريًّا إلاّ بوسيلة هي بيئة كنسيّة يحرّكها الروح القدس حسب مشيئة رأس الكنيسة يسوع المسيح.

تطغى اليوم علينا فكرة »أحارسٌ أنا لأخي؟« (تكوين 4: 9)، وننسى أنّ أخانا هو كلّ إنسان، وأنّ مشيئة الربّ أن أكون حارسًًا له وفاديًا إن تطلّب الأمر.

نتلهّى كثيرًا بإطلاق الأحكام، وإصدار الفتاوى، والأسوأ هو استسهال تعليق العناوين البرّاقة على أفعال قد تحمل البريق ذاته، خصوصًا في موجة النشر والإعلام السائدة هذه الأيّام، حين تُغرقنا الشبكة العنكبوتيّة بأفعال وأقوال هنا وهناك لأعضاء في الكنيسة، وكلّها مباركة، لكن علينا ألاّ ننسى أنّ المطلوبين للربّ لهم حاجات تتعدّى ما يحدث.

هل نسأل عن أولويّاتنا؟ هل نستقرئ مصروفنا، أين يذهب وعلام يُصرف؟

هل يُختصر عيش الكنيسة في إتمام الصلوات وإتمام شروط محدّدة؟ ألا يجب أن نتدارس مشاكلنا في واقعها، من دون تهويل أو تهوين، للخروج بحلول تتوافق مع »الطريق« الأرثوذكسيّ، الذي يجعل كلَّ من هو أرثوذكسيّ »ممجّدًا للَّه«.

كلّنا يجادل أن ليس كلّ مسجّلٍ مسيحيّ »مؤمنًا« بالضرورة، فما الذي نفعله لدعوة الكلّ؟ وهل نجتهد أصلاً لندعو الجميع؟ وماذا عمّن لا يؤمنون؟ من هم مسيحيّون أو غير مسيحيّين؟ ألا يوجد لهم في ضمير »البيئة الكنسيّة« حساب؟ أليسوا ضمن من مات المسيح عنهم؟ وماذا عن مسؤوليّتنا أن تبقى دعوتنا صالحة أمامهم؟ هل نحن »أمثلة« لهم؟

هل نفحص الأفكار والعادات الجديدة على ضوء »تمجيد مستقيم« للَّه؟

أيُّها أكثر توتّرًا صمتنا عن الأسئلة الملحّة أم محاولة الإجابة؟

ليس في قولي أيّ دعوة للتفتيش، على طريقة العصور المظلمة، فليس لها من المسيحيّة إلا العناوين والمبرّرات. وطرحي هذه المسائل لا يعني أنّ عندي إجابات أو حلولاً، وقد تكون شكواي ناتجة من إحساسي بأنّي أوّل المقصّرين. لكن مع ذلك أدعو إلى أن نقف جميعًا موقف المسؤول عن أخينا الضعيف، الضعيف في موارده، والضعيف في صحّته، والضعيف في ذكائه، والضعيف في أفكاره، وفي إيمانه، وفي سلوكه، وفي جهله، وفي صمته...

في ظلّ أحداث مهدّدة لشهادة الكنيسة في هذه الأرض، أدعو إلى تكاتفنا جميعًا في سبيل بيئة كنسيّة تمجّد الله تمجيدًا مستقيمًا، في كلّ تفاصيل الحياة الفرديّة كما في حياة الجماعة المسيحيّة، أرثوذكسيّة أو غير أرثوذكسيّة، فليس لنا مناص من أن نسعى لنكون »أمثلة لرعيّة الربّ«.

لننهض معًا وليتحدّث المختلفون رأيًا فالآراء وإن اختلفت قد تتكامل...

لننهض معًا وليتلاقَ المتوافقون فالتلاقي يعزّز القدرات...

ولا ننسى أنّ كلّ عطيّة صالحة هي من لدن أبي الأنوار، فلا يدفنّنّ أحدٌ عطيّة الربّ... مجّانًا أخذنا والعطيّة دين علينا.

ليست »البيئة الكنسيّة الأرثوذكسيّة« بإعلان ولاءات وطاعات، بل بافتقاد الكلّ للكلّ، وهي المجال والطريق لاكتشاف المواهب وتحفيزها وتثميرها، هي »روح وفاق« ليست مكان خصومات، وهي واقع يُبنى وليست واقعًا »يُرتجى« على طريقة التأجيل والحلم، وهي من صُنع الجميع، كلّ بحسب قدرته ومواهبه وموقعه، لا يستثنى منها إلاّ من استثنى نفسه.

ما سبق هو دعوة خير، ورأيٌ يحتمل الخطأ والصواب، أضعه أمام أحبّتي آباء وأخوة، وحسبي أن يثير نقاشًا لأنّ الربّ من وراء القصد. l                                                                                        

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search