2015

5. دراسة كتابيّة: أضواء على الصوم - د. نقولا أبو مراد – العدد الأول سنة 2015

 

أضواء على الصوم

د. نقولا ابو مراد

 

 

ليس في الكتاب المقدّس نصوص تنظّم الصوم بقواعد ثابتة. وذلك، في رأيي، لأنّه يتّخذ فيه معنى خاصًّا جدًّا، بعيدًا عن مجرّد الطقوسيّة أو الممارسة الفرديّة أو الجماعيّة في حال من الأحوال أو وضع من الأوضاع، كالموت، أو الحرب، أو الضيق، لرفع شدّة ما، أو تعبيرًا عن حزنٍ أو ما إليه، أو مرافقة للصلاة، وعلامةً على التوبة، وطلبًا لغفران الخطايا.

أمّا المعنى الخاصّ الذي يتّخذه الصوم في الكتاب المقدّس، فلا يأتي في سياق نصوص تشريعيّة، بل في سياق رواياتٍ، يمكننا أن نستشفّ منها، خصوصيّة البعد المعنويّ الفريد للصوم، والذي يشكّل، في رأيي، القاعدة الأساسيّة لهذه الممارسة في الكتاب المقدّس، وتاليًا، في التقليد المسيحيّ. في هذا السياق، يتخّذ »منعُ الأكل« في رواية آدم في عدنٍ وطبيعتُه، وعلاقةُ بني إسرائيل بالطعام والشراب، وصومُ موسى في روايات الخروج مكانةً مركزيّة. سأعالج موضوع الصوم انطلاقًا من تحليلي رواية آدم وحوّاء في (تكوين ٢: ٣). فإنّ الصوم، في هذه الرواية، متّصل اتّصالاً وثيقًا بحفظ كلمة اللَّه.

آدم والأكل

»وأوصى الربّ الإله آدم قائلاً، من جميع شجر الجنّة أكلاً تأكل، وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها، لأنّك يوم تأكلُ منها موتًا تموت« (تكوين ٢: ١٦- ١٧). تأتي الوصيّة الأولى والوحيدة التي يوصي اللَّه بها آدم هنا، بشكل سماح مطلق للأكل »من جميع شجر الجنّة« من جهة، يتأكّد في المفعول المطلق »أكلاً تأكل«، ومنعٍ مطلق للأكل »من شجرة معرفة الخير والشرّ« يعبّر عنه أيضًا مفعول مطلق آخر هو »موتًا تموت«. في حالتي »السماح« و»المنع« هاتين، الانسانُ مدعوٌّ إلى حفظ هذه الوصيّة، ففي أكله من جميع الشرّ، وفي امتناعه عن الأكل من »شجرة معرفة الخير والشرّ«، يكون آدمُ كما أراده الربّ أن يكون، ويبقى في المكانة التي فيها ولها خلقه. غير أنّ الرواية التالية في (تكوين ٣: ١- ٧) تتحدّث عن مخالفة هذه الوصيّة، وعن »أكلِ« آدم ما أوصاه اللَّه بألاّ يأكله. هذا المستوى الروائيّ البسيط عن منع الأكل ومخالفة الوصيّة بالأكل، يبلغ معناه في الحديث الذي يدور بين المرأة والحيّة عن الدافع إلى الوصيّة، إلى لماذا أوصى اللَّه بهذا. تبدأ الحيّة بنقل مشوّه لوصيّة الربّ الإله بصيغة سؤال، »أحقًّا قال اللَّه لا تأكلا من كلّ شجر الجنّة؟« (3: 1). الحيّة هنا، تحاول أن تنقل صورة عن إله ظالم، قاسٍ، وتقوم هي بدور المنبّه للإنسان على ظلم إلهه له، وحقّه في أن يفعل ما يشاء. عن هذا تجيب المرأة بتكرار الوصيّة، »من ثمر شجر الجنّة نأكل، وأمّا الشجرة التي في وسط الجنّة فقال اللَّه لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلاّ تموتا« (3: 3). تنقل المرأة كلام اللَّه لا بحرفه بل بما يعني، مؤكّدة على المنع بإضافة »ولا تمسّاه« إلى الوصيّة. على هذا، تنتقل الحيّة إلى المستوى التالي من الحديث، وهو تصوير اللَّه بكونه يريد بوصيّة »المنع عن الأكل« الشرّ للإنسان، »لن تموتا« (3: 4). تترك الحيّة الجزء الأوّل من الوصيّة، »من كلّ شجر الجنّة تأكل«، وتعطي تفسيرها للجزء الثاني، »اللَّه عالم أنّه يومَ تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كاللَّه عارفين الخير والشرّ« (3: 5). تعرف الحيّة أنّ الأكل من جميع شجر الجنّة قد لا يتعدّى المستوى المادّيّ للأكل والعيش. إلاّ أنّنا لسنا على هذا المستوى في »منع الأكل«. فشجرة معرفة الخير والشرّ ليست كسائر الشجر. الأكل منها مربوط بما هو أعلى من الحياة والموت الجسديّين، أي بأن »يكون الإنسان كاللَّه عارفًا الخير والشرّ«. لن »تموتا« جسديًّا! الحيّة لم تخطئ بهذا. آدم وامرأته لم يموتا بعد الأكل منها. ولكن، لماذا سبق اللَّه وقال لآدم، »لأنّك يوم تأكل منها موتًا تموت«؟ (2: 17). هنا يصير معنى »الشجرة« التي في وسط الجنّة، ومدلول الأكل منها ضروريّين، لإدراك الغاية من الرواية. 

بعد أن أخذت المرأة من الثمر وأكلت وأعطت زوجها فأكل، نقرأ ما يأتي، »فانفتحت أعينهما وعرفا أنّهما عريانان« (3: 7). بالعودة إلى حديث الحيّة إلى المرأة في 3: 5 »بل اللَّه عالم أنّه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كاللَّه عارفين الخير والشرّ«، وفي ربط مع ما سيقوله اللَّه في 3: 22، »هوذا الإنسان قد صار كواحد منّا، عارفًا الخير والشرّ«، واضح أنّ الأكل من ثمر شجرة معرفة الخير والشرّ يشير إلى امتلاك المقدرة على التمييز بين ما هو خير وما هو شرّ. غير أنّ المفارقة الأساسيّة هنا أنّ تحديد ما هو خير وما هو شرّ، إنّما هو للَّه وحده، وتاليًا، ليس من الضروريّ أن تكون معرفة الانسان للخير والشرّ، بعد الأكل من الشجرة، مطابقة لتحديد اللَّه لما هو خير ولما هو شرّ. وتأكيد هذا يأتي، في قناعتي، في الطريقة التي نظر فيها آدم وحواء إلى عريهما قبل الأكل وبعده. فقبل الأكل، »كانا كلاهما عريانين، آدم وامرأته، وهما لا يخجلان« (2: 25)، أمّا بعد أن أكلا من ثمر الشجرة، »انفتحت أعينهما، وعرفا أنّهما عريانان، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر« (3: 7). هنا اختلفت النظرات إلى كونهما عريانين. كان اللَّه خلقهما كذلك، وما كانا يعتبران هذا سببًا للخجل، أي أمرًا مشينًا قبل الأكل من الشجرة، غير أنّهما بعد أن صار لهما التمييز بين »الخير والشرّ«، نظرا إلى عريهما على أنّه خزي، عار، وتاليًا شرّ. وإذا كان اللَّه خلقَ الانسانَ في عريه، فإنّ خجل آدم وحواء من عريهما، إنّما يمتدّ أيضًا إلى عمل اللَّه نفسه، وخلقه.

أن يكون موضوع العري والخجل منه بعد الأكل من الشجرة هو مركزيًّا في هذه الرواية، يتأكّد في المشهد التالي. عندما سمع آدم صوت الربّ الإله يتمشّى في وسط الجنّة اختبأ وامرأته. فقال اللَّه له، »مَن عرّفك أنّك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألاّ تأكل منها« (3: 11). وهنا يأتي عقاب اللَّه للحيّة ولحوّاء ولآدم. ويأتي العقاب أيضًا بلغة الأكل، فالحيّة عقابها أن »تأكل التراب«، وآدم عقابه »أن يأكل خبزه بعرق جبينه«. أمّا حوّاء، فعقابها أن تخضع لمَن »يأكل خبزه بالتعب«. أمّا العقاب الأقصى، فهو السقوط من الحياة الأبديّة، وتاليًا الموت، وهذا ما كان اللَّه أعلنه في وصيّته له (٣: ٢٢- ٣٢).

يسقط الإنسان من الحياة الأبديّة، ويتحوّل الأكل الذي أجازه لنفسه من مصدر للتحوّل إلى الألوهة، إلى مسألة تتطلّب التعب والشقاء لينتهي الأمر بالإنسان، في نهاية المطاف، إلى العودة إلى التراب الذي منه أُخِذ، »لأنّك تراب، وإلى التراب تعود« (3: 19). كان، بالأكل، خالف وصيّة الربّ الذي خلقه، وجعله في معيّته، وأعطاه كرامة لا مثيل لها في الخلق دافعًا إليه كلّ الأشياء ليسمّيها. ترك كلّ هذا سعيًا إلى ألوهة يتخيّلها، يتوهّمها، وإلى سيادة له ليس فقط على ما دفعه اللَّه إلى يده، ولكن أيضًا على كلمة اللَّه نفسه ووصيّته باعتبارها غير أهل لأن تسمع ويُعمَل بها. ولعلّ الإنسان عبّر عن هذه المخالفة في تاريخه بالكبرياء والتسلّط والظلم واضطهاد المسكين والبائس والحروب والعداوة والكراهية والفحش والتعالي عمّن يظنّ أنّهم أدنى، وما إلى ذلك ممّا يخيّل له أنّه يجعله مهمًّا في الدنيا. خجل من عريه، فأضاف إلى ذاته العارية الأملاك، والقصور، والغنى، والسلاح، وربّما السلطان والمال، ولعلّه أضاف إلى ذاته العارية إلهًا نحته على هواه ودينًا يبرّره، ظانًّا أنّ كلّ هذا يحول دون أن يفضحه أحد.

مقابل تصرّف آدم وامرأته في هذه الرواية يضع الكتاب أمام أعيننا مثال يسوع المسيح، آدم الجديد، كمَن يستعيد الفردوس وذلك في سياقين متّصلين بالأكل بالأقلّ. فمن جهة، يقاوم إبليس في البرّيّة في التجربة الثلاثيّة، بعد أن امتنع عن الأكل أربعين يومًا وأربعين ليلة في مستهلّ بشارته، مظهرًا نفسه آدمَ جديدًا، »لا يحيا بالخبز وحده، بل بكلّ كلمة تخرج من فم اللَّه« (متّى 4: 4). يمثّل إبليس هنا الحيّة، والتجربة الثلاثية تمثّل الأبعاد الثلاثة لغواية الحيّة في تكوين 3: 6: الأكل، والسلطان/أن يصير آدم كاللَّه، وعدم تصديق اللَّه. في جنّة عدن يُعطى الإنسان معرفة الخير والشرّ مقابل الموت بالأكل. أمّا في البرّيّة، فيرفض يسوع المسيح أن يأكل مظهرًا التصاقه بالكلام الإلهيّ، المصدر الحقيقيّ للحياة، رافضًا دعوة إبليس له ليكون له السلطان، ليصير خادمًا حتّى الموت.

أمّا السياق الثاني، فهو عشاء يسوع الأخير مع تلاميذه حيث تذكّرنا أفعال يسوع بحوّاء حين أخذت من ثمر الشجر وأكلت ثمّ أعطت رجلها فأكل. يلفتنا التقارب الشديد بين 3: 6، ووصف ما يقوم به يسوع في العشاء الأخير، عندما »يأخذ« الخبز والكأس و»يعطي« تلاميذه، ويطلب منهم أن »يأخذوا« و»يأكلوا«. كلّ روايات العهد الجديد عن العشاء الأخير تستعمل العبارات اليونانيّة ذاتها الواردة في كلام تكوين 3: 6 في الترجمة السبعينيّة، عمّا فعلته حوّاء. في هذه الروايات يظهر يسوع بكونه يقدّم نفسه لتلاميذه مأكلاً لهم للحياة الأبديّة. في (١بطرس ١: ٢١- ٢٥) تذكر »شجرة« صليب المسيح في سياق يظهر المسيح البريء من الخطيئة بديلاً منه آدم الذي سقط في الخطيئة، وذلك في اتّصال مع إشعياء 53، وصورة العبد المتألّم الذي سينظر إليه اللَّه ويرضى.

بهذا تكتمل الصورة ما بين رواية آدم وحواء في (تكوين ٢: ٣) وروايات العشاء الأخير مع يسوع المسيح. إذا كان آدم أغري بالسلطان والكبرياء والمعرفة الشاملة والاستقلال عن اللَّه والصيرورة إلهًا وبهذا مات، فإنّ آدم الجديد برفضه الأكل ومقاومته التجارب ذاتها، وصيرورته عبدًا متألّما، مرذولاً، أصغر من جميع الناس، تحوّل إلى نبع للحياة الأبديّة للعالم أجمع.

خاصّيّة الصوم ومعناه في الكتاب، وتاليًا في التقليد المسيحيّ، متّصلة ضرورةً بهذا. أن نصوم يعني أن نواجه آدم القديم الذي فينا، والذي يتآكلنا. يعني أن نعي ترابيّتنا وأننّا لسنا بشيء. هذا الوعي مقدّمة ضروريّة لنكون على مثال السيّد فنموتَ كموته على رجاء القيامة به إلى حياة تجعل منّا خدّامًا لكلّ من دفعه اللَّه أمام عينينا، لا متسلّطين. بهذا يتحوّل صومنا من مجرّد انقطاع عن الأكل إلى خدمة للفقير وإطعام للمسكين وكسر الخبز للجائع وكساء العريان، على ما يقول إشعياء في إصحاح 58. فقط بهذا لنا رجاء أن نجلس إلى مائدة اللَّه الأخيرة في أورشليم السماويّة حيث شجرة الحياة، وحيث لا لعنة، بل شفاء لنا جميعًا ولكلّ الأمم (رؤيا 22: 1- 3). l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search