الحوار الكاثوليكي-الأرثوذكسيّ:
هل من سبيل؟
أسعد قطّان
استلّ اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ قلمًا خشبيًّا، وخرطش بضع كلمات على ورقة صفراء كانت موضوعةً أمامه، وقال: »»كنت أتوقّع مثل هذا السؤال«. ثمّ أردف: »المسألة الأصعب في الحوار بين الكنيستين الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة، اليوم، هي قضيّة الأوّليّة البابويّة. في الماضي كان كثر يروّجون للفكرة القائلة بأنّ الحلّ يكمن في الرجوع إلى خبرة الألف الميلاديّ الأوّل، لا الأرثوذكس فحسب، بل عدد من اللاهوتيّين الكاثوليك أيضًا، وعلى رأسهم الكاردينال يوسف راتسينغر، الذي أصبح، في ما بعد، البابا بنديكتوس السادس عشر. ولكنّنا ندرك، اليوم، أنّ المسألة ليست بهذه البساطة. أوّلاً، لا يمكننا أن نتجاهل أنّ الكنيستين تغيّرتا كثيرًا من القرن الحادي عشر إلى اليوم. الكنيسة الكاثوليكيّة صارت مركزيّةً أكثر، ورفعت القول بأوّليّة أسقف روما وعصمته إلى مصافّ العقيدة. وفي الكنيسة الأرثوذكسيّة ظهرت كنائس ذات طابع قوميّ تفتقد إلى المحور، الذي كان يجسّده قديمًا قيصر الروم. وهي، في معظم الأحيان، غير قادرة على التكلّم بصوت واحد. والقول بأنّ بطريرك القسطنطينيّة هو أوّل بين متساوين لا يشفي غليلاً. فهذا البطريرك، في غالبيّة الأحيان، غير قادر على الاضطلاع بالدور التنسيقيّ والتوفيقيّ الذي نتطلّع إليه كأرثوذكس. وثانيًا، لا يمكن معالجة خلاف لاهوتيّ عبر العودة إلى الماضي. طبعًا، المطلوب بلورة نموذج للأوّليّة الرومانيّة يكون منسجمًا مع اللاهوت المشترك، ومقبولاً من الجميع. ولكن على هذا النموذج أن يلبّي أيضًا تطلّعات الكنائس جميعها إلى مواجهة تحدّيات العالم المعاصر الحاضرة والمستقبليّة في كلّ ما تنطوي عليه من افتراق عن الماضي. لكن، عدم قدرتنا على الارتداد إلى الماضي لا يعني أنّنا نستطيع أن نكبت التاريخ ونهمّشه. نحن في حاجة إلى كلام مشترك على خبرة الألف الأوّل، حتّى لو لم نكن متّفقين على التقويم الذي نعطيه للأحداث. فمن الواضح أنّ بعضنا يميل إلى المغالاة في القيمة التي يسبغها على بعض الوقائع التاريخيّة، وعلى ما خطّه عدد من الآباء، فيما يجنح بعضنا الآخر إلى التقليل من شأن الوقائع ذاتها والكلام الآبائيّ عينه. نحن مقيمون، إذًا، في المعضلة التي يعرفها المؤرّخون جميعهم: ربّما نتّفق على سير الأحداث. ولكنّ تقويمنا هذه الأحداث يبقى مطبوعًا لا بتعدّد شخصيّاتنا الفرديّة فحسب، بل باختلاف معطياتنا الكنسيّة أيضًا، أي فهمنا الكنيسة وآليّات عملها. من اللافت أنّ هذه الهوّة التفسيريّة ليست ظاهرةً جديدة. فنحن نستطيع أن نثبت وجودها في الألف الأوّل أيضًا. بكلّ بساطة، لم يكن هناك، آنذاك، تفسير واحد للأوّليّة البابويّة. ولكنّ الملاحظ أنّه كان ثمّة ضرب من التوازن بين تشديد الغرب على الدور الفريد الذي يمارسه أسقف روما وتشديد الشرق على المجمعيّة. ويبدو أنّ هذا التوازن، الذي حفظ وحدة الكنيسة طيلة قرون رغم تعدّد النبرات، اضمحلّ في الألف الثاني بفعل اعتبارات بعضها لاهوتيّ، ولا ريب، ولكنّ معظمها ثقافيّ وسياسيّ. خلاصة القول إنّنا نحتاج إلى كلام نستطيع قوله معًا على خبرة الألف الأوّل، حتّى لو اختلفنا على تفاصيل قراءتنا الأحداث، وذلك قبل المضيّ في تذليل عقبة اختلافنا على مضمون الأوّليّة«.
أخذ أحد الأساقفة الكاثوليك الكلام، وقال:»أليس جزء من المشكلة، في رأيكم، طابعه منهجيّ«؟
»بالتأكيد«، أجاب اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ. »في الحوار الرسميّ بين كنيستينا، نحن غالبًا ما نتكلّم لغةً مختلفة. مثلاً، حين نشير نحن الأرثوذكس إلى الإكليزيولوجيا الإفخارستيّة، أي قيام الكنيسة على سرّ الشكر، بوصفها القاعدة التي يجب أن تتوكّأ عليها فكرة الأوّليّة، لا توجد ضمانة أنّ الإخوة الكاثوليك يفهمون هذه العبارة بالطريقة ذاتها. والأكيد أنّ الكاثوليك يستخدمون، هنا وهناك، مفاهيم من الحقّ الكنسيّ لا نحوط بها نحن الأرثوذكس إحاطةً تامّة. من جهة أخرى، يبدو أنّ كثرًا من الأرثوذكس المشاركين في الحوار الرسميّ ينقصهم إلمام بآليّات المنهج التاريخيّ وطرائقه. هذا لا يعني أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة لا تملك اختصاصيّين. ولكن، ويا للأسف، إنّ أفضل مفسّري الكتاب المقدّس لدينا، وألمع المؤرّخين الكنسيّين، لم تتسنَّ لهم بعد فرصة المشاركة في الحوار الرسميّ. ثمّة سياسة كنسيّة يبدو أنّها أقوى من الاعتبارات العلميّة والمنهجيّة. وثمّة، فضلاً عن ذلك، خوف من الآخر ورثناه من الذاكرة التاريخيّة الجماعيّة يجعلنا قليلي الحركة والمبادرة، ميّالين إلى ترك الأمور على ما هي عليه من مراوحة تصل أحيانًا إلى حدّ الجمود«.
»أنتم الأرثوذكس تنادون بالمجمعيّة« بادر أحدهم، »ولكنّ هذا يبقى نظريًّا، إذ إنّكم، في الممارسة، غير قادرين على إعطاء نموذج فعليّ لكيفيّة سير عمل هذه المجمعيّة. بكلّ بساطة، مجمعيّتكم لا تقنعنا نحن الكاثوليك«.
»ولا نموذج الأوّليّة الرومانيّة، كما هي تمارَس اليوم، يقنعنا نحن الأرثوذكس«، أجاب اللاهوتيّ. »ولا أحسبني مخطئًا إذا أضفت أنّها لا تقنع الكثيرين من الكاثوليك أيضًا. عندي زملاء وأصدقاء كاثوليك يرفضونها كلّيًّا، ولو لم يصرّحوا بذلك. نظريًّا، البابا يستطيع، متى شاء، التدخّل في شؤون مجامع الأساقفة المحلّيّين، وله أيضًا أن يعيّن أساقفة، وأن يعزل آخرين. لا شكّ في أنّ النموذج المجمعيّ له نواقص. ولكنّ النموذج المركزيّ ليس بأفضل. علينا أن نلتقي في مكان ما في الوسط على نموذج يكون مقبولاً من الطرفين، وأن نضعه تحت الاختبار، ونعدّله متى اقتضت الظروف. كلّ المؤسّّسات البشريّة تتعلّم من أخطائها. طبعًا، الكنيسة ليست مؤسّّسةً بشريّة. ولكنّه حريّ بالبشر أعضائها أن يتعلّموا من أخطائهم أيضًا. ديناميّة التعلّم هذه يجب أن يصاحبها تفكير معمّق في معضلة المجمع الفاتيكانيّ الأوّل. مشكلة هذا المجمع أنّه أعلن عصمة البابا وأوّليّته على الكنيسة جمعاء عقيدةً من العقائد. طبعًا، المجمع واضح في أنّ هذه العصمة لا تنبع من شخص البابا، بل ترتبط بكهنوته، وتتأصّل في عصمة الكنيسة ككلّ. كما تؤكّد نصوص المجمع أنّ هذه العصمة ليست مطلقة، بل خاضعة للكتاب المقدّس وما أجمع عليه التراث. غير أنّنا نحن الأرثوذكس نجد في ربط العصمة بكهنوت بابا روما تحديدًا سابقًا لحرّيّة الروح القدس في أن يضع الحقّ في فم أيّ عضو من أعضاء الكنيسة، وذلك بصرف النظر عمّا إذا كان إكليريكيًّا أم لا. لا بدّ، إذًا، في رأينا، من إعادة نظر في تحديدات المجمع الفاتيكانيّ الأوّل، ولا سيّما في القيمة المعطاة إليها بالنسبة إلى الكنيسة جمعاء. ربّما يكون الحلّ نوعًا من الاتّفاق على أنّ ما قالته كنيسة الغرب في الألف الثاني لا يتمتّع بالصفة الإلزاميّة التي تتمتّع بها العقائد التي صغناها معًا في الألف الأوّل، أي عقيدة الثالوث والكلام على طبائع المسيح. بهذا المعنى، تصبح العصمة البابويّة ضربًا من ضروب الرأي اللاهوتيّ، وذلك بصرف النظر عن الإجماع الذي تتمتّع به في كنيسة الغرب. المهمّ هو الانطلاق ممّا نُجمع عليه، وأن يكون هذا الإجماع هو ما يحرّك الحياة الكنسيّة المشتركة في الألف الثالث«.
]هذا الحوار خياليّ كلّيًّا، وأيّ تشابه بينه وبين أيّ حدث واقعيّ هو محض مصادفة. ولقد وُضع من وحي مؤتمر انعقد هذه السنة، في ألمانيا، لمناسبة مرور خمسين من السنين على صدور وثيقة المجمع الفاتيكانيّ الثاني التي تحضّ الكاثوليك على الانخراط في الحركة المسكونيّة، هذه الحركة الهادفة إلى إعادة الوحدة واللحمة بين كنائس المسيح[.l