أنشودة الخلق:
تأمّل في مزمور الغروب
الأب سمعان أبو حيدر
»لأنّه هكذا أحبّ اللَّه العالم (الكون) حتّى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة«
(يوحنا ٣: ١٦)
تبدأ الكنيسة، في مطلع صلواتها اليوميّة، بصلاة الغروب »وكان مساء وكان صباح يومٌ واحد« (تكوين ١: ٥)، بدء اليوم الليتورجيّ، ويأتي »مزمور الغروب« في أساس سرد قصّة الخلق. في صلاة الغروب ننشد أقدم ترتيلة معروفة: »يا نورًا بهيًّا« تيمّنًا بأولى منطوقات كلمة اللَّه »ليكن نور« - نور معرفة الكلمة »السماويّ القدّوس، يسوع المسيح« السابق لخلق شمس الطبيعية. تعود بنا الكنيسة، في بدء يومنا الليتورجيّ، إلى »البدء« لتسرد لنا قصّة الخلق على ضوء تلاوة مزمور الغروب ١٠٣ (١٠٤).
كتب موسى ناقلاً رضى الخالق على عمل يديه: »ورأى اللَّه كلّ ما عمله فإذا هو حسن جدًّا« (تكوين ١: ٣١). أمّا داود، فيترنّم هنا، ويسبّح اللَّه على خليقته التي أبدعها وكانت حسنة جدًّا »باركي يا نفسي للربّ« (مزمور ١٠٣: ١).
يسير داود على نهج سرد سفر التكوين فيقف بذهول أمام الخالق »عظمت جدًّا« - اللَّه يستعلن لأنقياء القلوب. هو يقف متأمّلاً من »في البدء خلق السماوات والأرض«، فيراه »اللابس النور مثل الثوب. الباسط السماء كالخيمة«(٢). »ساكن في نورٍ لا يدنى منه« (١تيموثاوس ٦: ١٦). لذلك أولى أيّام خلق اللَّه هو النّور »اللَّه نور« (يوحنّا ١: ١٩).
ولأنّ »إلهنا نار حارقة« و»لا يراني إنسان ويحيا«، لذلك كان السحاب (الغمام) مرافقًا لحضور اللَّه وملازمًا له، لحماية الإنسان من نار الألوهة: »الجاعل السحاب مركبته«. هو الذي أعدّ البيئة المناسبة لإطلاق الحياة على الأرض التي كانت مغمورة بالمياه »المسقّف بالمياه علاليه«(٣) »هو من جعل الجلد فاصلاً بين مياه ومياه« وقال اللَّه: »ليكن جلد في وسط المياه. وليكن فاصلاً بين مياهٍ ومياهٍ«. فعمل اللَّه الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد. وكان كذلك. ودعا اللَّه الجلد سماءً. وكان مساء وكان صباح يوم ثانٍ. وقال اللَّه: »لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكانٍ واحدٍ، ولتظهر اليابسة« وكان كذلك« (تكوين ١: ٦- ٩).
»الصانع ملائكته أرياحًا وخدّامه لهيب نار«(٤) إشارة إلى خلق عالم الملائكة (النطاق غير الهيوليّ)، نقرأ، في بدء الوحي الإلهيّ، »في البدء خلق الله السماوات والأرض« (تكوين ١: ١) السماوات هنا بصيغة الجمع تشير إلى نطاق العالم غير الهيوليّ، بينما تشير الأرض إلى نطاق الإنسان والعالم المادّيّ الملموس خلق العالم الروحيّ غير الهيوليّ سابق لخلق الأرض. الخدّام (الملائكة) تشتعل بنار سيادة المحبّة الإلهيّة، لذلك تأتي خدمتها لا مجرّد واجب، بل شغوفة (لهيب نار)، لأنّ إلهها »نار آكلة«.
هكذا يتأمّل كاتب المزمور »أيّام« الخلق المتعدّدة، بدءًا بالسماوات الشاسعة المترامية ومن ثمّ بخدمة الملائكة، وصولاً إلى الأرض وظواهرها التي لا تحصى النباتات المتعدّدة والحيوانات المتشكّلة: من الهيرودي والأرانب إلى الآيلة والأسود، من غير أن نستثني الإنسان مع التشديد الدائم على كرم الحكمة الإلهيّة لحاجات الكلّ »كلّها إيّاك تترجّى لتعطيها طعامها في حينه، وإذا أنت أعطيتها جمعت. تفتح يدك فيمتلئ الكلّ خيرًا« (٢٧- ٢٨).
يدمج المزمور ١٠٣ بين حيثيّات النظام الطبيعيّ وتجارة الإنسان مقترحًا »تعاونًا« بين عمل اللَّه وعمل الإنسان. يصحّ هذا المنظور بالنسبة إلى كلّ من الأرض (»ينبت العشب للبهائم والخضرة لخدمة البشر. ليخرج خبزًا من الأرض والخمر تفرح قلب الإنسان. ليبتهج الوجه بالزيت والخبز يشدّد قلب الإنسان« (١٤-١٥))، والمياه (»هذا البحر الكبير الواسع. هناك دبّابات ليس لها عدد. حيوانات صغار مع كبار. هناك تسلك السفن. هذا التنين الذي خلقته ليلعب فيه« (٢٥-٢٦)). يوازي عمل الإنسان أيضًا عمل المخلوقات الأخرى، كصيد الأسود وبناء العصافير لأعشاشها مثلاً.
ويتكلّم المزمور على عمل الروح القدس في العالم: »ترسل روحك فتخلق، وتجدّد وجه الأرض« (٣٠) كما شبّه الشاعر عمل الروح، بخروج الشمس فوق الأفق كصدر الأمّ المرضعة التي ترضع الخليقة لاستفاقة آهات حياة جديدة! الروح الذي منذ »البدء« كان يد اللَّه »روح اللَّه يرفّ على وجه المياه« (تكوين ١: ٣)، مؤازرًا وحاضنًا، كما يحضن الطير البيض في العشّ (القدّيس باسيليوس الكبير).
يشدو المزمور 103 بأنشودة الخلق، كما أرادها اللَّه جميلة، ومتناغمة، ومسالمة. هل »يخرج الإنسان إلى عمله إلى صنعته حتّى المساء؟« (23). أو هو يحيد عن دوره كرأس الخليقة وأيقونة اللَّه فيها؟
هل يساهم الإنسان بعمل اللَّه في الخليقة أو هو يشدّ بها إلى الهلاك معه؟
الخليقة، البيئة الطبيعيّة، النبات والحيوان كلّها تئنّ وتتألّم بانتظار الخلاص: »لأنّ انتظار الخليقة يتوقّع استعلان أبناء اللَّه. إذ أخضعت الخليقة للبطل ليس طوعًا، بل من أجل الذي أخضعها على الرجاء. لأنّ الخليقة نفسها أيضًا ستعتق من عبوديّة الفساد إلى حرّيّة مجد أولاد اللَّه. فإنّنا نعلم أنّ كلّ الخليقـة تئنّ وتتمخّض معًا إلى الآن« (رومية ٨: ١٩- ٢٢).l