2014

4. شؤون كنسيّة: رأي رعائيّ في ضوء انعقاد المؤتمرالأنطاكيّ - رينه أنطون - العدد الخامس سنة 2014

 

رأي رعائيّ في ضوء انعقاد

المؤتمر الأنطاكيّ

رينه أنطون

 

 

كلّ ما يجمع الوجوه، بعضها إلى بعض، في كنيسة المسيح مبارك ويُفرح الربّ. وكلّ ما يجنّد طاقات الأبناء في خدمة الكلمة والوحدة يعكس إرادة اللَّه في كنيسته. من هذا المنطلق لا بدّ من التأكيد أنّ انعقاد المؤتمر الأنطاكيّ الأخير، بدعوة من غبطة البطريرك يوحنّا العاشر، إنّما يصبّ في ما يفرح، خصوصًا وقد لفتت فيه مواكبة صاحب الغبطة اليوميّة ومشاركة معظم مطارنة الكرسيّ الأنطاكيّ في لجان العمل والمشاركة المكتملة للأبرشيّات. وإن تأمّلنا في مضامين أعمال المؤتمر وما برز فيه من طروحات وآراء، نرى أنّ العناوين الرعائيّة الكبرى التي شغلت الوسط الرعائيّ منذ عقود وإلى اليوم، والتي حملها فكر حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة وأدبها يومًا بعد يوم، كانت الهمّ الأساس الذي تمحورت حوله أعمال المؤتمر. المشاركة، التواصل والتعاضد بين الأبرشيّات، العمل الاجتماعيّ والحضور المجتمعيّ، شهادة الكنيسة، إعلامها، مواضيع شغلت الوفود في سعي جدّيّ، ولا شكّ، لمزيد من الإضاءة عليها وإيجاد الحلول لما يعتري العمل على تجسيدها من صعوبات. وقبل الانتقال إلى التأمّل في ما يُرتجى، انطلاقًا من التساؤل عمّا بعد المؤتمر، لا بدّ من ملاحظة ثغرتين أساسيّتين واكبت الدعوة إلى أعمال المؤتمر. فمع التقدير الكبير لمبادرة غبطة البطريرك إلى توجيه بعض الدعوات الشخصيّة على هذا الصعيد، لوحظ عدم دعوة الهيئات والمؤسّّسات الأنطاكيّة الكبرى للمشاركة بخبراتها وهمومها، وكذلك استئثار الرعاة، منفردين، في اختيار أعضاء الوفود نتيجة غياب النظم والهيئات الرعائيّة الداخليّة، في معظم الأبرشيّات، التي تسمح بمشاركة الراعي في هذا الاختيار. وهذه الثغرة الأخيرة، تحديدًا، لم تسمح بأن تكون مواضيع المؤتمر موضوع تفاعل بين شرائح المؤمنين في الرعايا، قبيل انعقاده وبعده، وساهمت في غربة هذه الشرائح عن هذا الحدث وهمومه وفي ترسيخ نظرة بعضهم إليه كحالة نخبويّة لا تعني الكلّ.

فماذا بعد؟ أنطلق مستذكرًا مرحلة نشوئي، والعديد من الأخوة، في الحسّ الرعائيّ، إذا جاز التعبير. يومَ أقرّ المجمع المقدّس قانون مجالس الرعايا والأبرشيّات وكنّا شبابًا يافعًا بعد، أطلقت الحركة في رعيّتي سهرات رعائيّة، شاءتها في منازل بسطاء القوم، هدفت إلى شرح هذا القانون للشعب المؤمن وتوعيته حول أهمّيّته ومحوريّته في حياة الكنيسة. يومَها علّمنا معلّمُنا في المسيح كوستي بندلي، الذي قاد و»الأب« بولس (بندلي) آنذاك هذه السهرات، أنّ الكنيسة هي عائلة اللَّه، عائلتنا الكبرى. وبقدر ما نتشارك ونُسأل، كأعضاء راشدين، عن مسؤوليّات عائلتنا الصغرى وهمومها بقيادة أبي العائلة، نحن مدعوّون إلى أن نتشارك ونُسأل عن مسؤوليّات عائلة اللَّه وهمومها بقيادة الأب، حيث من هذه المشاركة المحلّيّة تولد الآفاق التواصليّة، التي لحظها القانون، وتنطلق بين رعيّة وأخرى عبر مجلس الأبرشيّة، وبين أبرشيّة وأخرى عبر المجلس الأرثوذكسيّ العامّ.

اليوم، وإن اختلفت أسباب عدم تنفيذ هذا القانون وتعدّدت، وإن اتّسم بعضها بالجدّيّة وبعضها بالرغبة في التفرّد وعدم التنفيذ، يبقى القول إنّ أوّل ما تحتاج إليه حياتنا الكنسيّة اليوم هو أن تنسج هذا الإطار العائليّ الذي فيه يتشارك الكلّ ويُسأل، وأنّ افتقادنا إلى هذا الإطار، أكان قانون المجالس أم غيره من القوانين، لا يسمح بأن تتحقّق أبعاد المبادرات التي تسعى إلى تحريك الوضع الكنسيّ، وإخراجه من حال الأزمات والجمود. إذ بغير هذا الإطار التشاركيّ التواصليّ المحلّيّ تفقد هذه المبادرات ما به تغتذي ومنه تنطلق. فالتعاضد والتواصل الكنسيّ منبعه، أولاً، التعاضد بين مؤمن وآخر في الرعيّة وبين رعيّة وأخرى في الأبرشيّة، وبين أبرشيّة وأخرى في كرسيّنا الأنطاكيّ. والهموم الرعائيّة والاجتماعيّة الحقّ هي هموم المؤمنين والفقراء والبسطاء القائمة فعلاً في كلّ رعيّة، تلك التي تنعجن بها وتحملها، إلى سائر الأخوة، الهيئات الرعائيّة بقيادة الكاهن. وما تشاء الكنيسة قوله، على الصعيد العامّ، والشهادة له في حضورها المجتمعيّ والإعلاميّ وجب أن يكون ما حضر في تربية أبنائها عليه، محلّيًّا، من فكر إنجيليّ شاهد تعكسه إطلالاتهم الاجتماعيّة والإعلاميّة. فبالانطلاق من هذه الخصوصيّة المحلّيّة لكلّ رعيّة وخبرتها في الحياة في المسيح، وتفاعل الرعايا في الأبرشيّة الواحدة، بعضها مع بعض تغتني المبادرات الجامعة وتتحصّن، ومن دونها تتعرّض لخطر السقوط في محظور النخبويّة الغريبة عن طبيعة كنيستنا وواقعها، ما يُفقد سمتها الوحدويّة أبعادها العموديّة التي هي أساس متانتها وامتدادها في حياة الأبناء. لذلك، فإنّ أولى الخطوات المرجوّة، اليوم، لملاقاة الهواجس التي دفعت بصاحب الغبطة إلى الدعوة إلى انعقاد المؤتمر، والتعامل بأبوّة مع تعب الأبناء ومقرّرات المؤتمر، هي أن يبادر المجمع المقدّس إلى تقويم قانون المجالس الرعائيّة وتعديله بما يجعله أكثر انسجامًا مع التطلّعات الشاخصة إلى مدّ الحياة الكنسيّة بالطاقات والحيويّة التشاركيّة ووضع روزنامة عمل محدّدة لجعله موضع التنفيذ، أو أن ينكبّ على تشريع ما يصلح من بدائل على هذا الصعيد. أمّا إبقاء الأمور على ما هي، أيّ تجاهل رأي الأبناء والاستمرار في رهن الحياة الكنسيّة للجمود وحصر المبادرات الرعائيّة فيها بالعفويّة والأمزجة الشخصيّة للأساقفة والكهنة، فسيؤدّي، لا محال، إلى تشريد مقرّرات المؤتمر وترسيخ عجز المؤسّسة الكنسيّة عن تلبية احتياجات أقسى الظروف التي تحوط بكنيستنا اليوم وبأبنائها. الظروف التي تقتضي أكبر قدر من التعاضد والتنظيم والطاقات والخبرات ووضوح الرؤى لمواجهتها.

هذا ليس معناه الدعوة إلى تجميد المحاولات والمبادرات التي تلبّي بعض الحاجات اليوم بانتظار أن تنتظم الحياة الرعائيّة بأطرها المؤسّّساتيّة. فالمؤمنون يطلبون إلى كنيستهم، وسط هذه الظروف، الكثير الذي منه ما تُسأل عنه الكنيسة بحقّ ومنه ما لا تُسأل عنه. فمثالاً، وبالتأكيد قد لا تنتظر الحاجة إلى تفعيل العمل الإغاثيّ هذا الانتظام، وكذلك الحاجة إلى البحث عن سبل معالجة هجرة المسيحيّين الكثيفة من المنطقة، وإلى صوت كنسيّ أكثر دويًّا في صحراء العنف والظلم، وإلى ما سبق وبدأت الدوائر البطريركيّة المستحدثة إنجازه من خطوات إعلاميّة وغيرها. لكنّه تذكير بسيط، وسط الضجيج، بالأساس الذي عليه تُبنى الحياة الرعائيّة وبه تثبت وتنجح، وهو انتظام الأطر التي فيها تتكامل الخبرات المحلّيّة بعضها مع بعض وتغتني وتتعاضد. وهو رجاء، بالمناسبة، بأن تلاقي المبادرات البطريركيّة العامّة هذا الأساس بالتطبّع بمزيد من الهويّة المجمعيّة، عبر تأسيس ما يُشرك الرعايا والأبرشيّات فيها وفي العمل على إنجاحها وتحقيق أهدافها.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search