2014

8. الرهبنة: نظرة أرثوذكسيّة - خريستو المرّ – العدد الثاني سنة 2014

 

الرهبنة : نظرة أرثوذكسيّة

خريستو المرّ

 

خلفيّة تاريخيّة

المسيحيّة هي طريق للاتّحاد بالثالوث بواسطة يسوع المسيح وفي الروح القدس، عبر الكنيسة جسد المسيح الذي يُنشئُه الروح القدس في المعموديّة وسرّ الشكر (القدّاس الإلهيّ) وفي غير سرّ آخر. هذه الطريق هي حياة في المسيح نفسه الذي قال »أنا هو الطريق«، ولهذا فهي ليست حكرًا على نخبة ما، بل مفتوحة أمام كلّ إنسان.

الحركة الرهبانيّة، في التاريخ المسيحيّ، هي حركة علمانيّة نشأت فعلاً كردّ فعل على تراخي المسيحيّين. فبعد أن مرّت الكنيسة باضطهادات شديدة دفع بها المسيحيّون شهادة الدم من أجل الإخلاص للمسيح، حلّ التراخي لا سيّما بعد تنصّر الأمبراطور قسطنطين، إذ استتبّ الوضع للمسيحيّين بعد أن تمّ الاعتراف بالديانة الجديدة. فكانت الحركة الرهبانيّة لتشهد الشهادةَ ذاتها التي شهدها شهداء الدم في القرون الثلاثة الأولى، ألا وهي أنّ الحاجة هي إلى واحد: يسوع المسيح. فحمل رهبان وراهبات، عن شهداء الدم، شعلة الشهادة لربّ الحياة، شعلة الأولويّة الكيانيّة للحياة في المسيح على كلّ أمر آخر. وبينما شهد شهداء القرون الأولى لأولويّة ربّ الحياة من طريق مواجهة الموت في حلبات الرومان، اختار الرهبان الشهادة ذاتها لأولويّة ربّ الحياة من طريق مواجهة الموت عن الخطيئة. إنّها الشهادة ذاتها للشهداء وللرهبان، ولكنّها أيضًا الشهادة عينها التي يعطيها الروح القدس لكلّ مسيحيّ تعمّد على اسم الآب والابن والروح القدس، والذي يواجه خطاياه في كنف حياةٍ في الروح القدس، ممارسًًا الأسرار في الكنيسة جسد المسيح.

ملاحظة حول الرهبنة والزواج

عبر التاريخ نشأت بعض الحركات أو التيّارات التي وقفت موقفًا معاديًا للكنيسة كحاضنة للجميع، معاديًا للكنيسة جسد يسوع المسيح التي تضمّ الكلّ. فأتت البدعة الماسيليانيّة التي كانت ترى في الرهبان منزلة أعلى من غيرهم في قلب المسيحيّة. وأتت الحركات الغنوصيّة التي نظرت باحتقار إلى الجسد، كما اعتبرت أنّ معرفة اللَّه هي حكر على نخبة وليست متاحة للجميع. وأحيانًا نجد آثارًا لهذه المواقف في بعض من تصرّفاتنا الحاليّة إذ ينزلق البعض إلى النظر إلى الرهبان (وإلى الكهنة والمطارنة أيضًا) على أنّهم أرفع منزلة من »العلمانيّين« وأقرب إلى اللَّه، وإلى النظر بارتياب إلى الجسد والجنس والزواج معتبرين أنّ الرهبنة أفضل من الزواج، وإلى النظر إلى المسيحيّة على أنّها »طوباويّة« وليست للجميع، بل لبعض القدّيسين فقط. لكن هذه النظرات المنحرفة ليست هي الأصل في النظرة الكنسيّة إلى القداسة والتألّه وعمل المسيح الخلاصيّ الذي يشمل كلّ إنسان، أكان في الرهبنة أو العزوبة أو الزواج.

نحو رؤية متوازنة

  خطيئة آدم هي خطيئة انفصال الإنسان عن اللَّه وعن الإنسان الآخر وعن الطبيعة وعن ذاته، هي طلب التألّه بدون اللَّه. هذه الخطيئة لا تكمن، إذًا، في الزواج أو عدمه، بل في الكبرياء، إنّها تكمن في العمل بحسب الرغبة في الحلول مكان اللَّه، رغبة التألّه بالانعزال عن اللَّه. لكنّ ابن اللَّه تجسّدَ، وصار إنسانًا، وبتجسّده وموته وقيامته وإرساله الروح القدس في العنصرة حقّق تجديدَ الخليقة، وفتح المجال أمام الإنسان كي يتّحد باللَّه في الكنيسة، وهذه الوحدة تعني في النهاية تألّه الإنسان.

إذًا، أن تحارب الخطيئة، هذا، كنسيًّا أمر ممكن في الرهبنة وخارج الرهبنة. ولنا عبرة في حياة القدّيس أنطونيوس، مؤسّّس الرهبنة، الذي وجد إنسانًا غير راهبٍ بلغ درجة من التقدّم الروحيّ مثله هو. وهذا حريّ بأن ينبّهنا كلّنا، غير رهبان كنّا أم رهبانًا، إلى مخاطر تمجيد طريقة حياة مسيحيّة على حساب طريقة أُخرى. التقدّم في القداسة ليس حكرًا على أحد، أو على طريقة عيش مع اللَّه محدّدة، بل هي عطيّة الروح القدس الذي يسكن في المُحِبّين، كلّ الذي صاروا مصلوبين وقائمين بالمحبّة المسيحيّة، كلّ الذين صاروا بالمحبّة على مثال اللَّه، فالتمع في حياتهم المجد الإلهيّ.

ترتبط القداسة بنعمة الروح القدس في الكنيسة جسد المسيح. لقد دانت الكنيسة قديمًا البدعة الماسيليانيّة بسبب من نظرتها إلى الراهب على أنّه »سوبر مسيحيّ«، ومن هنا، يقول إفدوكيموف إنّ »القدّيس باسيليوس كان يتردّد في استعمال كلمة »راهب« بسبب الادّعاءات الماسيليانيّة. ويشدّد في كتابه »القواعد« على أنّ الراهب هو ببساطة كلّ مؤمن يريد أن يكون مسيحيًّا بكلّ عمق وللنهاية«.

يعتبر القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد أنّ الحياة الفضلى لكلّ إنسان هي ما دُعي إليه هذا الإنسان أن يعيشه شخصيًّا، على أن تكون هذه الحياة حياةً في اللَّه، فيقول »يعتبر كثر الحياة النسكيّة أنّها الحياة الأكثر بركةً، والبعض الآخر يعتبر حياة الجماعة الرهبانيّة هي كذلك، أو أيضًا الحُكم والتعليم والتربية والإدارة الكنسيّة... أمّا من جهتي، فلا أضع أيًّا من هذه المهامّ فوق الأخرى، كما أنّي لا أمدح أيّ شكل من أشكال العيش لأبخّس آخر. في كلّ وضع وكلّ نشاط، إنّ الحياة المباركة هي الحياة من أجل اللَّه وفي اللَّه«.

أمّا القدّيس نيقولا كاباسيلاس، وهو »علمانيّ« لم يكن راهبًا، فكان يقول بأنّ »كلّ واحد يجب أن يُبقي على مهنته. يجب أن يبقى الجنرال يقود جيشه، والمزارع يفلح الأرض، والحرفيّ يمارس مهنته. وسأقول لكم لماذا. ليس من الضروريّ أن ينسحب الإنسان إلى الصحراء، أن يهدّد صحّته أو أن يقوم بأمر غير حكيم، لأنّه من الممكن تمامًا أن نبقى في بيوتنا من دون أن نترك ممتلكاتنا، ورغم ذلك نمارس التأمّل المستمرّ«، بحيث إنّه في النهاية يحيا الإنسان في الروح القدس.

»حيث يكون الروح القدس يكون الإنسان الحيّ والحقيقي«، كما يشير إيريناوس، إذ »كيف يمكنك أن تحيا حقيقةً من دون أن تتّحد بالحياة الحقيقيّة التي هي الروح القدس«، بتعبير القدّيس سمعان اللاهوتيّ الحديث. لبّ الخطيئة، لبّ السقوط هو أنّ الإنسان، المعدّ كي يرغب في اللَّه ويتوجّه نحوه، فضّل »أن يرغب في ذاته« (أثناسيوس)، ومن هنا ينشأ الموت الروحيّ وتنشأ الحياة المزوّرة. الخطيئة تعني إخطاء الهدف، والتوبة تعني تغيير الذهن، من هنا فحياة كلّ مسيحيّ هي محاولة انفتاح على روح اللَّه، كي يتغيّر ذهنه بالروح القدس، ويقوّم حياته ليوجّهها نحو الهدف المفتوح للجميع، التألّه في الثالوث.

يذكّر الأب جورج (فلوروفسكي) المتخصّص بالآباء بـ»أنّ معنى الرهبنة يكمن في الصلاة وليس في التقشّف«، والصلاة مفتوحة للجميع. النظر إلى حياة الرهبنة على أنّها الحياة المسيحيّة (مع أل التعريف) منزلق خطر، إذ هو إمّا يجعلنا نتعامل تعاملاً صنميًّا مع الرهبنة مزدرين نمط الحياة في المجتمع، ساعين إلى تقليد نمط الحياة الرهبانيّة بشكل خارجيّ، ومتّخذين من ذلك ذريعة للتهرّب من التزام شؤون العالم، منزلقين إلى نفي التجسّد الذي افتدى هذا العالم بالذات؛ أو هو يجعلنا نرمي على الراهبات والرهبان مسؤوليّتنا الإيمانيّة الشخصيّة بأن نكون مسيحيّين، فنعتبر أنّنا غير معنيّين بالإيمان المسيحيّ مثل الراهبات والرهبان، فنكون عندها في انزلاق إلى نفي المسيح والروح القدس من حياتنا الشخصيّة، في انزلاق إلى التراخي الروحيّ.

إنّنا لا ننتبه إلى أنّنا كبشر يمكننا أن نحوّل كلّ شيء إلى صنم. يحذّرنا بعض القدّيسين من هذا المنزلق. فمن جهة الحزن على الخطايا، وهو أمر ليس بحكر على الرهبان وإن كان معروفًا بشكل مميّز في الرهبنة تحت اسم سرّ عطيّة الدموع، يوصي بعض القدّيسين بعدم المبالغة بالحزن على الخطايا والـ»بكاء« عليها حتّى لا يصير الدواء ضدّ الأهواء هوًى بحدّ ذاته، حتّى لا تصبح الدموع عينها هدفًا عوضًا من أن تكون وسيلة، وصنمًا ينغلق الإنسان فيه على ذاته، متعبّدًا لما يراه أنّه توبته هو؛ »فكثير من هؤلاء الذين بينما كانوا يبكون خطاياهم، نسوا هدف الدموع، وأضاعوا عقلهم وتحكّمهم في نفسهم«، كما ينبّه القدّيس نيلوس السينائيّ.

أمّا التقشّف، وهو أسلوب رهبانيّ أساس، فهو ليس هدفًا لا في الرهبنة ولا في الحياة المسيحيّة بعامّة، بل وسيلة؛ ومن هنا كان إيفاغريوس يوصي بأن »لا تحوّل ]التقشّف[ المضادّ للأهواء إلى هوًى«. وبالنسبة إلى مظهر اللباس الأسود فهو ليس هدفًا كذلك، ويجب ألاّ ننظر إليه بطريقة فولكلوريّة أو بمشاعريّة سطحيّة، فأمام سؤال أحد الرهبان للقدّيس غريغوريوس بالاماس عن الملابس والإشارات الخارجيّة للرتب الرهبانيّة، نصحه بالاماس بأن يهتمّ »بتحسين طريقة حياته وليس بتغيير طريقة ملابسه«. أمّا القدّيس تيخون من زادونسك، فكتب: »لا تستعجلوا بإكثار الملابس السود ]أي الرهبان[، فاللباس الأسود لا يخلّص أبدًا. إنّ ذلك الذي يلبس ملابس بيضاء ]أي العلمانيّ[ والذي يتمتّع بروح الطاعة والتواضع والنقاء، هذا هو راهب حقيقيّ في الرهبنة الداخليّة ]المُدَخلَنَة[«؛ ونقل الأنبا موسى عن القدّيس كاسيانوس أنّه كان حكيمًا بتذكيره بأنّ »الشيطان لا يأكل، لا يشرب، ولا يتزوّج، وهذا المتنسّك الكبير شكليًّا، ليس بأقلّ من شيطان... لهذا فلنربط دائمًا الأكسسوار، الصوم، الانتباه، النسك، بالهدف الأساس: طهارة القلب، التي هي المحبّة«.

المهمّ، إذًا، ليس نمط العيش (نجّار، حدّاد، راهب، كاهن، معلّمة، ربّة منزل، متطوّع، مرشدة، خيّاطة...)، أو نوع العمل الذي يتّخذه إنسان، بل أن يحيا الإنسان في المسيح، في قلب الكنيسة، برعاية الروح القدس الذي أفاضه اللَّه في القلوب.

لم تضع الرهبنة نصب عينها أهدافًا جديدة في المسيحيّة، بل أخذت الأهداف ذاتها التي لكلّ مسيحيّ وشاءت أن تعيشها وأن تؤكّد، بشهادة وجودها عينه، بلحم ودم الإنسان المترهّب بأصالة، بأنّ الحاجة هي إلى واحد: اللَّه-الثالوث؛ وهي الشهادة ذاتها التي عاشها المسيحيّون خلال الاضطهادات. هذا لا ينفي ولا يقلّل من أهمّيّة الرهبنة في الحياة الكنسيّة، بل يضعها في سياقها. وسائل الفقر والعفّة والطاعة والشهادة موجودة ومُتاحة أمام كلّ مسيحيّ منذ الكنيسة الأولى، وإن كان يتعاطاها كلّ إنسان بأسلوب آخر وبكثافة أخرى، تبعًا لنمط حياته الذي قد يقتضي توزيعًا مختلفًا لوقته، في شهادةٍ للَّه مع الناس الذين حوله، عبر نشاطات واهتمامات مختلفة.

المسيحيّ، مطلق أيّ مسيحيّ، وليس ذاك الذي ترهّب فقط، مدعوّ إلى أن يعيش بأسلوب الفقر والعفّة والطاعة؛ وهدفه يبقى واحدًا ألا وهو الاتّحاد باللَّه والآخرين في المحبّة، أي محبّة اللَّه والآخر بحرّيّة، في وحدة تحترم التمايز، في قلب الكنيسة. الوصيّة الإنجيليّة واحدة للجميع، و»الراهب والعلمانيّ مدعوّان كلاهما إلى بلوغ العلوّ الروحيّ ذاته«، كما يذكّر الذهبيّ الفم الذي يقول أيضًا »إنّكم تخطئون إذ تعتقدون أنّ هناك أمورًا مطلوبة من العلمانيّين وأُخرى مطلوبة من الرهبان«. من هنا يمكننا أن نفهم الدعوة الجميلة، التي نسمعها أحيانًا، إلى أن يكون الجميع رهبانًا في العالم، ولكن يجب في الوقت عينه وبالحدّة ذاتها، دعوة الرهبان أيضًا إلى أن يكونوا محبّين وعشّاقًا كالمتزوّجين الحقيقيّين، فيسعون لحبّ الآخر في وحدة تحترم التمايز، والاهتمام بالعالم وبتجلّيه، والتزام هذا العالم. وهذا ليس بالأمر الجديد، فإنّ الراهب »هو ذاك المنقطع عن الجميع والمتّحد بالجميع« عبر اتّصاله باللَّه، كما يقول إيفاغريوس. والأدب النسكيّ حافل بالإشارة إلى أنّ علاقة الراهب مع المسيح هي علاقة حبّ وعشق. وتاريخ الرهبنة حافل بانفتاح الرهبان على العالم. مَنْ لم يكن قادرًا على حبّ إنسان لا يمكنه أن يكون قادرًا على حبّ اللَّه. إنّ هدف التألّه، وهو ذاته للجميع، لا يُبلَغُ إلاّ في الوحدة مع اللَّه-المحبّة، وهذا لا يمكنه أن يتمّ من دون مسيرة محبّة وحبّ. الحبّ هو محرّك المتزوّجين، وكذلك فإنّ »القوّة المحرّكة للنسك هي الحبّ« كما يقول المتخصّص في الآباء الأب (فلوروفسكي). والناس الذين لم يتزوّجوا ولم يترهّبوا، هم أيضًا مدعوّون ككلّ إنسان إلى التألّه بمحبّة اللَّه والقريب، ويمكنهم أن يكونوا شهداء للمسيح إذا ما اتّخذوا وجهي الشهادة: القبول والتعاضد؛ فإن قَبِلوا بوضعهم كعازبين عندها »ما يبدو كأنّه حرمانٌ، يصير إنجازًا. والعزلة الظاهرة للإنسان العازب يمكنها أن تتحوّل إلى فرصة مشاركة«، بحيث يستعمل الإنسان العازب وقته المتوفّر لمشاركة الآخرين ومحبّتهم، للتعاضد معهم؛ وهذا لا يمكنه بالطبع أن يتمّ من دون ألم، لكن هل من قيامة ممكنة من دون محبّة وهل من محبّة ممكنة من دون ألم، ألم الجهاد أقلّه؟

لكنّ المحبّة صعبة، وتحتاج إلى نموّ. من هذا المنظار، العفّة والفقر والطاعة هي بالحقيقة طرائق لنموّ المحبّة، وهي طرائق مفتوحة لكلّ عضو في الكهنوت الملوكيّ.

فمن جهة الفقر، الدعوة هي ألاّ يتعلّق قلب الإنسان المسيحيّ بالممتلكات، بحيث إنّه يتنبّه دائمًا إلى أنّه »حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك«، تاليًا ينتبه إلى أنّ صنم الملكيّة لا ينفع شيئًا وهو وهمٌ يقتل، وأنّ الكآبة لا تكون في عدم امتلاك ما يُوحي لي به، زورًا، تجّارُ السوق على أنّه ضروريّ لحياتي، لأنّ »ثمّة كآبة واحدة، ألاً يكون الإنسان قدّيسًا«، كما يقول ألكسندر (شميمان). في مجتمع الاستهلاك الذي نحن فيه، عدم الاستهلاك المفرط هو تفعيل لفضيلة الفقر، وتأكيد ملموس على أنّ الحاجة إلى واحد. عدم الانجراف إلى عبادة الاستهلاك هو شهادةٌ مسيحيّة بكلّ معنى الكلمة. الفقر المطلوب هو الفقر إلى اللَّه، ولكن لا يمكننا أن نكون متأكّدين أنّ قلوبنا ليست في ما نملك بل هي في اللَّه، إلاّ إذ شاركنا المُعوَزين ما نملك، إلاّ إذا شاركنا مالنا مع مَنْ هم بحاجة إليه، فالمحبّة للَّه تتجسّد في مشاركة الآخرين. وفترة الصوم هي مفصليّة لتأكيدها الجسديّ-النفسيّ على هذا المبدأ عبر ممارسة صوم مشاركة. التقشّف والاستغناء عن الطعام وعن الامتلاك وعن المال هي تعابير عن أنّ اللَّه أهمّ من الطعام والامتلاك والمال، ولا تعني سوى اهتمامًا متزايدًا بحاجات الآخرين المادّيّة الضروريّة للحياة لكرامة إنسانيّة لأنّه »إذا كان خبزي أنا شأنًا مادّيًّا، فخبز الآخر هو، بالنسبة إليّ، شأن روحيّ«، كما قال بردياييف، فالمؤمن، شأنه شأن الكاتب فرنسوا مورياك، يتدخّل بشؤون الأرض لأسباب تتعلّق بالسماء. المحبّة هي الموجّه الأساس لكلّ أسلوب التقشّف والفقر إلى اللَّه.

أمّا من جهة الطاعة، فهي »باب الحبّ« كما يقول القدّيس ديادوك (القرن الخامس)، فخبرة الحبّ هي الأساس في الطاعة كما في الفقر كما في العفّة. الطاعة الواجبة لدى المؤمنين، مهما كان نمط الحياة التي يتّبعونها، هي الطاعة للَّه، فالنصيحة الدائمة حتّى في الرهبنة هي أن ينتبه الإنسان كيلا يكون في خضوع عبوديّ لآخر، في تعامل صنميّ مع إنسان آخر، حتّى ولو كان الآخر قدّيسًا. وبين الزوجين الطاعة هي طاعة الزوجين للَّه، فمَنْ هو محبّ أكثر بين الزوجين وأقرب إلى الحقّ، في ظرف معيّن، يُطاع فيه الروح القدس، وقبول الحقّ وطاعته هو عيشٌ للتواضع وقبولٌ للروح. وهذا يكون أيضًا في الكنيسة كلّها كما أشرنا سابقًا، فالرأس الواحد في الكنيسة هو المسيح. الطاعة هي للحقّ والحقّ يحرّر، إذ »تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم«؛ ومن تحرّر بطاعة اللَّه، كان قادرًا على الحبّ.

أمّا العفّة، فهي مطلوبة عند العلمانيّ تمامًا كما عند الراهب، على أن نفهم العفّة أنّها عفّة القلب، »فمن لم يكن روحيًّا حتّى في جسده، كان جسدانيًّا حتّى في روحه«، و»عذريّة الجسد هي لمجموعة صغيرة من البشر. أمّا عذريّة القلب، فيجب أن تكون للجميع« كما يقول أوغسطين؛ وذلك يعني حتّى إنّ المتزوّجين هم مدعوّون إلى العفّة، إلى عذريّة القلب، وذلك بالمحافظة على الحبّ لأنّ العفّة في الحبّ الزوجيّ هي »محافظة على المعنى الأصيل للحياة الجنسيّة، إنّها إخضاع الحياة الجنسيّة لهذا الحبّ«، كما يقول كوستي بندلي. لبّ العفّة هي »عفّة النفس« بتعبير أوريجنّس، وهو ما يدعوه الآباء »تطهير القلب«. يقول بردياييف بعمق بأنّ »الحبّ مدعوّ إلى أن يغلب الجسد القديم، وأن يكتشف فيه جسدًا جديدًا يكون فيه اتّحاد الاثنين ليس خسارة للعذريّة بل اكتمال لها... فقط في هذه النقطة المتوهّجة يمكن أن يولد تجلّي العالم«. فالمطلوب في عفّة المتزوّج هو ذاته عند الراهب، أن نتجاوز اللحم، أي الجسم بانفصاله عن الشخص، ليولد الجسد الحقّ كميدان تواصل إنسانيّ ولقاء حقيقيّ بالآخرين، وحتّى النسك الرهبانيّ ليس هو ضدّ الجسد ولكن من أجل الجسد، ذلك بأنّ المطلوب فيه، كما نوّه الأب سيرج (بولغاكوف)، »قتل اللحم لنتّخذ جسدًا«.

لكنّ العيش الحقّ للفقر والطاعة والعفّة، لا يعني الكآبة والحزن. فالمسيحيّون مدعوّون إلى الفرح. إنّ »أفظع اتّهام يوجّه إلى المسيحيّين هو ذاك الذي صدر عن نيتشه حين قال إنّ المسيحيّين لا يعرفون الفرح«، كما يقول ألكسندر (شميمين). إنّ »الفرح أُعطي للكنيسة من أجل العالم، لتكون شاهدة له، لتغيّر هيئة العالم بالفرح. هذه هي »وظيفة« الأعياد المسيحيّة وهذا هو معنى انتمائها إلى الزمن«، كما يقول شميمن أيضًا. ويعبّر السلّميّ بروعة مخبرًا عن فرحه باللَّه: »لقد جرَحْتَ روحي، وقلبي عاد لا يحتمل نارَك. ها أنا أمشي وأُنشِدُك«، والسلّمي نفسه يؤكّد أنّ اللَّه لا يريد لنا الحزن والنوح بل خلقنا للفرح، للفرح معًا ومع اللَّه »شاعر السماء والأرض«، كما يقول دستور الإيمان إذا ما ترجمناه من اليونانيّة حرفيًّا.

يذكّر الأب (فلوروفسكي) بأنّنا »عادة ما ننسى الطابع المؤقّت للرهبنة. القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم يعترف بأنّ الأديار ضروريّة لأنّ العالم ليس مسيحيًّا. وإن نحن هديناه ]إلى المسيح[ تنتفي الحاجة إلى الانفصال الرهبانيّ ]عن المجتمع[«، وبالفعل فقد كتب الذهبيّ الفم قائلاً »كثيرًا ما صلّيتُ لكي تختفي الحاجة إلى الأديار، وكي تصبح تصرّفات الناس في المدن جيّدة لدرجة لا يعود أبدًا من حاجة كي يهرب الإنسان إلى الصحراء«. لكنّ التاريخ بيّن أنّ »تفاؤل القدّيس يوحنّا لم يكن مبرَّرًا. الرهبنة ستحتفظ بقيمتها الدائمة، ستحتفظ بالتأكيد بشهادتها الفريدة إلى نهاية العالم«، كما يشير إفدوكيموف.

ستبقى الرهبنة شاهدة دائمة »للحاجة إلى واحد« حتّى لا يتراخى المسيحيّون في هذا العالم ويصيروا منه، والحياة في المجتمع ستبقى شاهدة دائمة على أنّ المسيحيّة ليست للنخبة، أكانت النخبة رهبانيّة أم فكريّة أم ماليّة أم وظيفيّة أم عُمْرِيّة، بل هي للجميع في الكنيسة جسد المسيح الذي يصير فيه الكلّ واحدًا (غلاطية 3: 28)، وستبقى شاهدة على أنّ المسيحيّة ليست متناقضة مع العالم وبل محوّلة له ليكون تمتمة للملكوت. المسيحيّ الراهب والمتزوّج والعازب كلّ منهم لا ينفي هذا العالم وبل يؤكّده بعمق، يكشف المعنى الكامن في هذا العالم، معنى المحبّة الإلهيّة التي نحن مدعوّون إلى المشاركة فيها بمحبّتنا للَّه ولبعضنا البعض؛ كلّ منهم يكشف، أو يستطيع أن يكشف، أنّ الكلمة الأولى في الكون هي للمحبّة؛ كلّ منهم يمكنه أن يساهم مع الثالوث، بنعمة ربّنا يسوع المسيح، ومحبّة اللَّه الآب، وشركة الروح القدس، التي نستدعيها جميعًا في القدّاس الإلهيّ، بتجلّي هذا العالم بالذات بما فيه من مادّة، فهذا العالم مُفتدى كلّه بالحبّ الإلهيّ، والراهب نفسه لا يهرب ولا يكره مادّة هذا العالم، فـ»الراهب الهدوئيّ أكثر من الإنسان الشهوانيّ والمادّيّ، يستطيع أن يقدّر قيمة كلّ شيء لأنّه يرى كلّ شيء في اللَّه، واللَّه في كلّ شيء... وليس من قبيل المصادفة أنّ القدّيس غريغوريوس ]بالاماس[ ومؤيّديه ]الرهبان[ الهدوئيّين كانوا مهتمّين بالضبط بالدفاع عن الإمكانيّة الروحيّة للخليقة المادّيّة، وبالأخصّ الجسد المادّيّ للإنسان«.

الثالوث-المحبّة هو الألف والياء، ولهذا فالمحبّة هي البدء والمنتهى لكلّ حياة حقّ، أكنّا عازبين أم متزوّجين أم رهبانًا. المحبّة هي الوجود ذاته، بدونها نحن في تزوير الوجود أكنّا عازبين أم متزوّجين أم رهبانًا. لهذا يقول القدّيس سارافيم ساروفسكي في مقابلته الشهيرة مع نيقولا موتولوف »أمّا واقع كونكم علمانيّين وكوني راهبًا، فلا ضرورة للتفكير فيه... الربّ يبحث عن القلوب المليئة بالمحبّة للَّه وللقريب. تلك القلوب هي العرش الذي يحبّ اللَّه أن يجلس عليه، هي العرش الذي يظهر عليه في ملء مجده السماويّ. »يا بنيّ أعطني قلبك وكلّ الباقي أعطيك إيّاه« لأنّه في قلب الإنسان يكمن ملكوت اللَّه«.

للروح القدس طرائق للخلاص متنوّعة، لا يمكننا حصرها في شكل واحد من أشكال خبرة المحبّة المسيحيّة، من أشكال الحياة في المسيح، وإلاّ نكون نطفئ الروح، ونتوهّم أنّنا نستولي عليه في شكل محدّد، واقعين من حيث لا ندري في الكبرياء، أي في »أمّ الخطايا«. نحن جميعًا واحد في المسيح، لأنّ الكنيسة هي كنيسة الخطأة الذين يتوبون، كنيسة المحبّين الذين يتوبون عن قلّة حبّهم.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search