2014

7. تحقيق: نافذتي إلى السماء - تحقيق لولو صيبعة – العدد الثاني سنة 2014

 

نافذتي إلى السماء

لولو صيبعة

 

أحتفظ بها في غرفتي، تحت وسادتي، أخبّئها في كتبي، بين أوراقي، أعلّقها على جدراني، أستنجد بها في يوم الضيق، أمرّغ بها وجهي، أقبّلها، أتبارك بها وأفاخر بامتلاكها. إنّها صديقتي الصادقة، أمامها أشكو وأبكي وأضحك، تقاسمني همومي، أفراحي وأحزاني، تحفظني من كلّ شرّ، وأحفظها من كلّ مهانة. هي رفيقتي في حلّي وترحالي تتشفّع فيّ، تحسّ بآلامي وتحفظ أسراري. ألوانها الزاهية تبعث الدفء والفرح إلى قلبي، أطمئنّ إلى وجودها بقربي، ولا أدعها تفارقني ليل نهار. بألوانها أكحّل عينيّ، منها تفوح رائحة القداسة فتعطّر أنفاسي، وبذكرها تلهج شفتاي، ومنها تصدح ألحان شجيّة تشنّف أدنيّ، وبلثمها أتذوّق طعم السعادة الحقيقيّة، وأشعر بأنّها دائمًا بقربي.

هي المطلّ على الأبديّة، نافذتي إلى السماء، بابي إلى الفردوس، هي الأيقونة، هذه الصورة التي تأخذ بيدي وتهديني إلى سواء السبيل، إلى اللَّه، إلى الباري تعالى. من اخترعها؟ من أين جاءت؟ من كان أوّل كاتب لها؟ ما هي أنماطها ومدارسها؟ ما هي معاييرها؟ ما هي عقيدتها؟ من تمثّل؟

إنّها نافذة تسمح للناظر إليها بأن يؤدّي الإكرام إلى صاحبها. من هنا غدا الرسم البيزنطيّ فنًّا روحيًّا، له تقنيّاته الخاصّة وجماليّته، معاييره وقيمه.

رسم الأيقونة ليس حديث العهد ولا ينحصر ببلد دون آخر. ولكلّ مدرسة أسلوبها الخاصّ ضمن إطار لاهوت الكنيسة الأرثوذكسيّة، إذ إنّ الأيقونة جزء لا يتجزّأ من هذا اللاهوت. إنّها لغة لاهوتيّة لا بالحروف بل بالألوان والخطوط. إنّها فنّ ليس كسائر الفنون يستند إلى شخصيّة الفنّان، بل تتركز على تقليد كنسيّ له قواعده وتقنيّاته وألوانه، مستمدّ من الكتاب المقدّس والليتورجيا والعقيدة.

أوّل رسّّام أو كاتب أيقونة كان التلميذ والرسول والقدّيس لوقا كاتب الإنجيل الذي رسم أيقونة والدة الإله. ثمّ انتشر هذا الفنّ في القرن الرابع، وما يزال إلى اليوم منتشرًا في كلّ الكنائس الأرثوذكسيّة.

من يرسم الأيقونة؟ لراسم الأيقونة قواعده، إذ ينبغي له قبل البدء بعمله أن يتبع صومًا خاصًّا، ويستعدّ بالصلاة والتقشّف، ثمّ يتوجّه إلى الكاهن الذي يصلّي معه طروباريّة التجلّي، ويقرأ له من الأفخولوجي الكبير هذه الصلاة: »يا من رسمت بحال عجيبة ملامحك على الصورة إلى ملك الرها أبجر، وألهمت الإنجيليّ لوقا، أنر نفسي ونفس عبدك فتقوّم يده ليرسم بكمال صورتك وصورة العذراء الفائقة القداسة وقدّيسيك لأجل سلام الكنيسة المقدّسة ومجدها. احفظه من التجارب والخيالات الشيطانيّة بشفاعة البتول القدّيسة والرسل ولوقا القدّيس وسائر قدّيسيك، آمين«.

أيقوناتنا، في هذا التقرير، تعبّر عن الفنّ البيزنطيّ كما تجلّى بريشة رسّامين قبارصة. سنعرض، أوّلاً، لمحة تاريخيّة وجيزة عن تطوّر الفنّ الأيقونوغرافيّ في قبرص.

احتضنت جزيرة قبرص، بحكم موقعها الجغرافيّ بين ثلاث قارّات، حضارات عدّة، ومع ذلك حافظت الأيقونات على طابع محلّيّ. عرفت قبرص الفنون الكنسيّة منذ القدم، إلاّ أنّ فنّ الأيقونة والفنّ الكنسيّ ازدهرا منذ العام 649، وتشهد على ذلك آثار كثيرة ترقى إلى تلك المرحلة. أمّا الجدال الذي دار حول الأيقونة والحرب المستعرة التي لحقت به بين 726 و843، فإنّ الجزيرة بقيت في منى عن هذه المعضلة نظرًا إلى الوضع السياسيّ والعسكريّ الذي كان سائدًا فيها.

وفي العام 963 ، دخلت قبرص في الأمبراطوريّة البيزنطيّة بقيادة نيكيفوروس فوكاس وأنهت احتلال العرب لها. فنشأت علاقات جديدة بين الجزيرة والقسطنطينيّة، وقام نظام سياسيّ جديد نتج منه ازدهار في الهندسة الكنسيّة والرسم. أكثر من مئتي كنيسة شُيّدت بين 964 و1192 منها أربعون حتّى اليوم تحتفظ بجداريّاتها. وارتفع أيضًا عدد الأديرة، وترك لنا الفنّانون جداريّات وأيقونات، منها جداريّة دخول السيّد إلى أورشليم في كنيسة القدّيس نيقولاوس في كاكاوبتريا.

ورغم أنّ الجزيرة وقعت تحت سيطرة اللاتين مع عائلة لوسينيان في القرن الثاني عشر، إلاّ أنّ أيقونات تلك الفترة حافظت على طابعها البيزنطيّ.

ابتداء من القرن السادس عشر، حدث تحوّل في نمط الرسم القبرصيّ، وهذا لا يكفي تفسيره بالتطوّر الزمنيّ الطبيعيّ فقط، بل هناك تطوّر تايخيّ مهمّ، إذ إنّ الجزيرة وقعت في قبضة الأمبراطوريّة العثمانيّة في العام 1570، فسقطت مدينة نيقوسيا، وفي العام 1571 أحكمت الأمبراطوريّة سيطرتها على الجزيرة بكاملها مع سقوط مدينة فاماغوستا. وهذا ما دفع بالمثقّفين والفنّانين بالهجرة  إلى الخارج، وتراجعت العلاقات مع العالم الغربيّ ومع إيطاليا، ما نجم عن تحوّل في القيم الجماليّة والتقنيّات. وبدا هذا التحوّل ظاهرًا في مطلع القرن السابع عشر حيث كثرت الأعمال الفنّيّة، لكنّ هذا الفنّ اقتصر على الأوساط الكنسيّة، ومعظم الرسّامين في القرنين السابع عشر والثامن عشر كانوا من الإكليركيّين.

نكتفي بهذا القدر من اللمحة التاريخيّة، وننتقل إلى الأيقونات التي اخترناها، ونورد عنها شرحًا بسيطًا، تاركين لها أن تنطق هي بالقداسة.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search