رحلة حلم إلى تاريخ الكنيسة
مارك نجّار
في ليلة بالعتم تكتحل، جلست وسبحتي على سطح ذاك الدير الحامل التاريخ، أحاول الصلاة واستذكار محطّات مهمّة في تاريخ كنيستي، الكنيسة الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة. وبعد أن سرحت أفكاري في تواريخ كنيسة الشهادة الحمراء والبيضاء، تمنّيت لو أستطيع العودة بالزمن واختبار بعض هذه الأحداث. ابتسمت لغرابة الفكرة التي راودتني وعدت إلى غرفتي كي أخلد إلى النوم.
وفيما كنت نائمًا، أتاني ملاك يتسربل ثوبًا أبيض، وقال لي: »هلمّ نعود معًا في التاريخ. إنّي أعرض عليك أن تختبر أربعين محطة في التاريخ تختارها أنت«. ارتعدت للظهور الرهيب وحاولت، من خوفي، الهروب من الموقف فأغمضت عينيّ. لكنّ الملاك عاد وكلّمني قائلاً: »هذه فرصتك، لا تهملها«. نهضت، رسمت إشارة الصليب وطلبت إلى الملاك أن يعطيني تفاصيل عمّا يحدث. وهكذا فعل، وقال لي إنّه عليّ أن أختار أربعين حدثًا من تاريخ الكنيسة، وهو سوف يأخذني في الزمن كي أعاين هذه الأحداث. ثمّ سألته عمّا إذا كان هناك من شروط لهذه الرحلة، فقال إنّني لا أستطيع أن آخذ معي شيئًا. بفرح كبير شكرت اللَّه والملاك وأعلنت موافقتي بعد أن طلبت إليه استثناء وهو أن أصطحب سبحتي معي ووافق. وقفت إلى جانب السرير، وقلت للمرسل »هيّا ننطلق بسرعة«، وأنا في الوقت عينه أفكّر في الأحداث التي عليّ اختيارها. وهكذا انطلقنا إلى رحلة الحلم، رحلة أرثوذكسيّتي الغالية.
ذهبنا جنوبًا إلى بيت لحم، إلى السنة الميلاديّة الأولى. عرّجت على مغارة حقيرة، لأرى إلهي يتّخذ حقارتي. سرّ الأسرار، عجيبة العجائب! سجدت وتهلّلت، وانطلقت إلى محطّتي الثانية.
قفزت نحو ثلاثين سنة وبقيت في منطقة قريبة ووقفت من بعيد قرب جبل أسمع تعليم العهد الجديد. وقفت أسمع العظة على الجبل وأحفظها في قلبي. هي دستور العهد الجديد، هي ناموسنا الحيّ الجديد، هي القطعة الأدبيّة التي أختار أن تكون معي إن سُجنت على جزيرة بعيدة وأجبرت على اقتناء نصّ واحد فقط، ليرافقني.
بعد هذا أردت معاينة قمّة التنازل الإلهيّ، الموت، موت الصليب. فطلبت إلى ملاكي الذهاب إلى ٣٣م. لرؤية سرّ الفداء: الصليب، الموت والقيامة.
بعد التهلّل بالقيامة، القيامة من بين الأموات، كانت محطّتي التالية انطلاق المسيحيّة. وذلك خمسين يومًا بعد الحدث السابق. عاينت حلول الروح القدس على التلاميذ، هذا الحلول الذي فيه أعطيت العقيدة كاملة للرسل، العقيدة التي ما تزال مصانة حتّى يومنا.
انطلقت المسيحيّة وأتت نقطة التحوّل الكبيرة لخروج هذه الديانة الجديدة إلى العالم أجمع: اهتداء بولس الرسول. قفزنا بضع سنوات إلى طريق دمشق، كي أرى شاول يصبح بولس. هذه الشخصيّة المتشدّدة التي عرف ربّنا أن يختارها، كي يحوّل هذا التشدّد من يهوديّة مضطهدة لكنيسته إلى حجر أساسٍ لخروج البشارة إلى الأمم.
بقيت في الأجواء عينها، وفي العام ٥٠ م.، حيث زرنا أعمدة الكنيسة في مجمعهم الأوّل، مجمع أورشليم الرسوليّ الذي أعطى شرعيّة لإنجيل (بشارة) بولس.
كنت مصرًّا على زيارة الرسول من أجل بعض التساؤلات. وهكذا اخترت أواسط العقد الميلاديّ السادس كي أسأله عن رسالته إلى أهل رومية. أردت أن أتأكّد منه شخصيًّا أنّ الإيمان الذي به يأتي الخلاص، والذي يتكلّم عليه في هذه الرسالة، هو إيمان فاعل عامل وليس إيمانًا ثابتًا جامدًا منتظرًا.
إنتهينا من القرن الأوّل، وانتقلنا إلى الثاني. وكانت المحطّة هنا مع الحامل الإله إغناطيوس الأنطاكيّ. في طريقه إلى روما للاستشهاد، استوقفته، وقلت له إنّي من زمن آخر وقد أتيت للتعبير عن حبّي الشديد له، للاهوته المبكر المبلور، لرسائله الغنيّة، لتنظيمه الكنيسة وتوضيحه الأدوار الإكليريكيّة... اخترته نموذجًا من الآباء الرسوليّين الذين كانوا أوّل المعبّرين عن الإيمان المسيحيّ بأبسط الطرائق والكلمات.
بدأت تظهر الهرطقات وتشتدّ الاضطهادات في وجه المسيحيّة، فأردت أن أمرّ على النصف الثاني من القرن الثانـي كـي أسـلّم على آبائنا المـدافعــين الـذين تصـدّوا لهذه الهرطقات والاضطهادات: يوستينوس الفيلسوف الشهيد، تاتيانوس السوريّ، أثيناغوراس،... ربّاه، كم كانت صعبةً هذه المرحلة وكم كان آباؤنا أذكياء حتّى اجتازوها!
أوريجنّس: أبٌ أم لا؟ عرّجت عليه في مطلع القرن الثالث مع الملاك اللاّمع من أجل أن أبدي رأيي المتواضع، وقلت له: »يا أوريجنّس، إنّ كتاباتك عظيمة وفرتُها وسوف تغني كنيسة المسيح في شتّى المواضيع. حرام أن تُفسد فكرك ببعض التطرفّات. أرجوك، أصلح بعض الأفكار كتراتبيّة الأقانيم التي قلت بها في أحد المواضع، وأزليّة الخليقة وشموليّة الخلاص. أصلحها كي تبقى كتاباتك ذات أهمّيّة كبيرة للكنيسة ومستقبلها«.
مصر، العام ٢٨٥ م. هذا كان الحدث القادم. ذهبت أطلب صلاة القدّيس أنطونيوس، أبي الرهبان ومعلّم البرّيّة. الرهبنة كانت وما تزال حامية أرثوذكسيّتنا وركنًا مهمًّا يدعم استقامة الرأي.
بعد المحطّة الجميلة التي تفرح القلب، قلت لملاكي إنّ المحطّة القادمة تحمل نقلة نوعيّة، فما بقينا في الجمال والبهاء والصلاة، بل اقتربنا من مشكلة عصفت بالأرثوذكسيّة، مشكلة لم تنته حتّى بعد قرون عدّة. هي الآريوسيّة. آريوس الكاهن الذي خضّ كنيستنا لفترة ليست بالقصيرة ولا بالسهلة. استجمعت قواي وقرّرت مواجهة هذا الهرطوقيّ بزيارة للعام ٣٢٣م. دخلت في نقاش معه، حاولت أن أطلب منه النظر إلى الكتاب المقدّس بذكاء، حاولت أن أطلب منه قراءة الآباء السابقين بدهاء أكبر. لكن عبثًا، بقي آريوس هذا متشدّدًا برأيه رافضًا ألوهة المسيح وقائلاً بأنّه »كان هناك وقت لم يكن فيه« يسوع.
هذا التشدّد الآريوسيّ أخذ الكنيسة إلى أوّل مجمع مسكونيّ، العام ٣٢٥م. في مدينة نيقية. وهناك كانت زيارتي التالية حيث راقبت بفرح انتصار الأرثوذكسيّة البهيّ بآبائها الإلهيّين وعاينت جلسة وضع الجزء الأوّل من دستور الإيمان. يا لها من فرصة حلمت بها دومًا، أن أرى القدّيس إسبيريدون العجائبيّ يدحض الهرطقات بأمثلته العمليّة القاطعة.
أردت إكمال فرحتي وزيارة روما الجديدة »القسطنطينيّة«، مدينة الملك قسطنطين الذي معه خرجت المسيحيّة من الأقبية إلى الحرّيّة والوجود المكتمل، وهكذا فعلت فزرت وتمتّعت بالمدينة المقدّسة الجديدة.
بقيت في القسطنطينيّة، وزرت المجمع المسكونيّ الثاني العام ٣٨١م. في هذه الزيارة، رأيت آباءنا يكملون القضاء على الآريوسيّة، ويحدّدون، بوضوح، ألوهيّة الأقنوم الثالث، الروح القدس عبر إكمال دستور الإيمان بصيغته النهائيّة. انتهزت فرصة المجمع كي ألقي السلام على أحد أبرز الآباء، أعني غريغوريوس النزينزيّ اللاهوتيّ. كان فرحي لا يوصف.
وحتّى أحسن استغلال حلمي سافرت إلى العام ٤٠٠م. إلى القسطنطينيّة مرّة أخرى كي أسمع عظة لأبينا الجليل في القدّيسين يوحنّا الذهبيّ الفم.
كان ملاكي راضيًا على المحطّات التي اخترت حتّى الآن، وهكذا كان الحدث التالي في مدينة أفسس: المجمع المسكونيّ الثالث العام ٤٣١م. يا له من صراع كبير بين »عمود الدين« كيرلّس الإسكندريّ ونسطوريوس الهرطوقيّ الذي فصل كلّيًّا بين طبيعتي المسيح ورفض تسمية العذراء بوالدة الإله.
لم ينته هذا الصراع الخريستولوجيّ، بل عاد إلى الساحة في المجمع المسكونيّ الرابع في خلقيدونية العام ٤٥١ م. في هذا الحدث، رافقتني دموعي كنهر جار. يا له من تاريخ، هو الإنشقاق الأوّل الكبير في تاريخ المسيحيّة. وبعد قرون وقرون هناك من يقول إنّ الخلاف كان لفظيًّا! يا ربّاه... لفظيًّا؟ خلاف لفظيّ ويخلق عائلة لاخلقيدونيّة منشقّة عن الأرثوذكسيّة؟ حاولت أن أقول هذا لإخوتنا، لكن عبثًا أتت محاولتي.
قفزتي هذه المرّة كانت كبيرة، نحو قرن وأكثر، إلى العام٥٥٣م. والمجمع المسكونيّ الخامس في القسطنطينيّة، والمشاكل لم تفارق كنيستنا.
في مطلع القرن السابع، كانت زيارتي هذه. أردت أن أرى، ولو عن بعد، محمّد مؤسّّس الدين الإسلاميّ وذلك لعلمي بالتّأثير الكبير الذي سوف يكون للإسلام في مشرقنا.
والآن، وبعد محطّات عدّة حزينة عدنا إلى الفرح وذلك مع تعريجي للتعرّف إلى عبقريّ من عباقرة المسيحيّة: مكسيموس المعترف. هنا، ومع صعوبة كتاباته، كان لي بعض الأسئلة طرحتها عليه وجاوبني برحابة صدر.
رقد القدّيس مكسيموس على رجاء القيامة قبل انعقاد المجمع المسكونيّ السادس العام ٦٨٠ م. في القسطنطينيّة حيث كانت زيارتي التالية. تناول هذا المجمع واحدًا من أهمّ المواضيع التي عالجها مكسيموس، أعني هرطقة »المشيئة الواحدة«، وطبعًا، نجح آباؤنا بتوضيح الرأي القويم ودحض الهرطقة كما كانت عادتهم في المجامع السابقة.
منصور بن سرجون، أو يوحنّا الدمشقيّ، أب أنطاكيّ أحببته وتأثّرت به بشكل كبير. يقال إنّه أوّل من وضع خلاصة أو من جمع ورتّب تعاليم الكنيسة والآباء الذين سبقوه. لا بدّ من زيارته! وهكذا فعلت في محطّتي التالية العام ٧٤٠ م. كنت قد حفظت بعض الأفكار من مقالاته المئة في الإيمان الأرثوذكسيّ، فأخذت أستخدم هذه الأفكار كي أقول له، بشكل غير مباشر، إنّي قرأت كلّ هذه المقالات.
المجمع المسكونّي السابع والأخير كان العام ٧٨٧ م. لكنّي لم أزره وذلك بأنّ المسألة التي عالجها، أعني ما يتعلّق بالأيقونات المقدّسة، لم تنته مع المجمع. لهذا قرّرت الذهاب إلى العام ٨٤٣ م. وهو التاريخ الذي فيه تمّ الانتصار النهائيّ للأيقونات المقدّسة. شاركت مع الإمبراطورة ثيوذورا بالاحتفال بهذا الانتصار.
إنتهت فترة المجامع المسكونيّة، وهنا كان اختيار المحطّة القادمة أمرًا صعبًا. وقعت بحيرة في هذا الاختيار، لكنّ ملاكي المرافق وجد لي الحلّ. وهكذا، ذهبنا إلى العام ٩٨٨ م. إلى منطقة لم نزرها من قبل وهي روسيا، أو البلاد السلافيّة. ذهبنا لمعاينة »معموديّة روسيا« أو تنصيرها مع الملك فلاديمير. ابتهجت لعلمي بالدور المهمّ الذي ستقوم به روسيا المسيحيّة الأرثوذكسيّة في الألفيّة الميلاديّة الثانية.
عودة إلى النكبات! العام ١٠٥٤م. تاريخ الانشقاق المسيحيّ الكبير بين الشرق والغرب. رأيت الحرم مـوضوعًا على مائدة كنيسة آجيا صوفيا ولم أستطع احتمال المنظر فطلبت إلى ملاكي أن نترك الحدث هذا سريعًا.
ذهبت إلى أوروبّا العام ١٠٩٦م. في محاولة يائسة لردع الحملات الصليبيّة. حاولت إقناع الغرب بأنّ هذه الحملات لن تكون سوى وصمة عار في تاريخ الغرب المسيـحيّ، وقلـت لهـم إنّكـم أنتـم سـوف تعـترفون بهذا فـي المستقـبــل، فتداركـوا الوضع ولا تبدأوا الحملة. عبثًا...
في ظلّ هذه الأحداث الأليمة في تاريخ الكنيسة، قفزت إلى منتصف القرن الرابع عشر كي أزور راية من رايات الأرثوذكسيّة، القدّيس غريغوريوس بالاماس. هو المدافع الأوّل عن الهدوئيّة، هو معلّم الصلاة القلبيّة، صلاة يسوع. هو من دحض برلعام ومن برهن أنّ النور غير المخلوق يُدرَك عبر الصلاة والهدوئيّة.
بعد هذه الزيارة الملائكيّة، عدت إلى موضوع الانشقاق الكبير وذلك العام ١٤٣٨م. في المجمع الفيراريّ - الفلورنسيّ. للوهلة الأولى ارتعبت إذ رأيت أرثوذكسيّين يساومون على الإيمان. لكن سرعان ما عاد الاطمئنان إليّ عندما رأيت الأفسسيّ مرقس. هو الذي حمى الكنيسة! عندما ساوم الجميع على الإيمان من أجل بعض المساعدات العسكريّة، كان هو الوحيد الذي لم يساوم، بل بقي متمسّكًا وحمى الكنيسة عندما وقف الشعب المؤمن إلى جانبه ومنعوا معًا شيطان المساومة من ضرب الأرثوذكسيّة.
كان لا بدّ من زيارة القسطنطينيّة للمرّة الأخيرة، فذهبت العام ١٤٥٣م. لأشهد على سقوط »روما الجديدة« بيد العثمانيّين. كانت هذه اللحظة نقطة تحوّل في تاريخ الشرق المسيحيّ.
بعد الانشقاق اللاّخلقيدونيّ وثمّ الغربيّ بقي انشقاق كبير واحد وهو نشوء البروتستانتيّة. قيل لي إنّ مارتن لوثر لم يعرف الأرثوذكسيّة جيّدًا، وإنّه لو عرفها لما أنشأ كنيسة جـديدة، بل تحـوّل من الكاثوليكـيّة إلـى الأرثوذكسيّة. لهذا، ذهبت العام ١٥٠١م. إلى ألمانيا لأقابل مارتن لوثر، الطالـب الجامعـيّ في هـذه الفترة. أخبـرته عـن الأرثوذكسيّة وأعجب بها، لكن يا أحبّائي، التاريخ لن يتغيّر عبر حلم.
عدت إلى وطني، إلى أنطاكية في العام ١٦٤٨م. لأتعرّف إلى أحد أعظم البطاركة. إنّه البطريرك مكاريوس (ابن الزعيم)، هو بطريرك مميّز، شخصيّته قويّة، نشاطه واسع، لا يقبل المساومة... كم نفتقد هكذا شخصيّات في أيّامنا.
لم يترك الشيطان أنطاكيتنا على مرّ التّاريخ. انشقاقات في البيت الواحد، انقسامات، هرطقات... وهنا، في أنطاكية، العام ١٧٢4م.، انشقّ البيت الواحد مرّة أخرى مع خروج جماعة أرثوذكسيّة عن كنف الكنيسة وإعلانها الولاء لروما تحت تسمية كنيسة جديدة، كنيسة الروم الكاثوليك. زرت دمشق، بكيت، ثمّ ذهبت.
محطّتي التالية كانت في الجبل المقدّس، آثوس في أواخر القرن الثامن عشر. زرت القدّيس نيقوذيموس الآثوسيّ في منسكه، حصلت على بركته، وراقبته يعمل على جمع الفيلوكاليا.
أكملت جولتي على قدّيسين كثيرًا ما قرأت عنهم وطلبت شفاعتهم، فذهبت إلى روسيا إلى العام ١٨٥٥ م. وشاركت في رسامة القدّيس يوحنّا كرونشتادت الكهنوتيّة. هذا القدّيس الذي كانت الإفخارستيّا غذاءه الأوّل والأخير.
مرّةً أخرى إلى أنطاكية، العام ١٨٩٩م. كي أشهد عودة الكرسيّ البطريركيّ إلى الأنطاكيّين العرب بعد السيطرة اليونانيّة. أخذتُ بركة البطريرك ملاتيوس الدومانيّ وانطلقت...
بعد ملاتيوس، أتانا قدّيس ليجلس على كرسيّ أنطاكية البطريركيّ: البطريرك غريغوريوس الرابع (حدّاد) (١٩٠٦ م.) لم أر مثل هذه المحبّة في أنطاكية منذ قرون، لم أر مثل هذا التفاني والعطاء والبذل... غريغوريوس هذا لا يحتاج إلى شهادة، فسيرته تشهد. ربّما قد حان وقت إعلان سيرته كقدّيس في كنيستنا!
زرت قدّيسين كثر في رحلتي الحلم هذه. لكنّ الوقت حان كي أزور شفيعي الخاصّ قبل محطّتين من نهاية الحلم. طلبتُ من ملاكي أن يأخذني إلى جزيرة آيينا قرب أثينا، اليونان في العام ١٩١٢م. أردت أن أرى شفيعي، أردت أن أشارك في قدّاسٍ إلهيّ يرأسه القدّيس نكتاريوس العجائبيّ أسقف المدن الخمس. رأيته يعيش ما يقول، يختبر كلمات الليتورجيا. رأيت بهاء الليتورجيا الأرثوذكسيّة، وجمال الفنّ البيزنطيّ وموسيقاه. استحال الخبز والدم جسدًا ودمًا؛ تناولنا الإله وتناولنا الإله. سجدت وانطلقت مردّدًا عبارة »يا قدّيس اللَّه تشفّع بنا«...
من اليونان إلى باريس، إلى العام ١٩٢٥م. ذهبت لأشارك في تدشين معهد القدّيس سيرجيوس اللاهوتيّ. اخترت هذه المحطّة من أجل الرمزيّة التي يحملها هذا المعهد. اضطهدت الكنيسة الروسيّة من قبل النظام الشيوعيّ، والنهضة لا تأتي سوى من تحت الدمار، وهكذا حصل. الدياسبورا الروسيّة (الشتات الروسيّ)، التي أسّّست هذا المعهد، كانت شرارة الفكر اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ الحديث. هذا الفكر لم يؤثّر فقط في الأرثوذكسيّة العالميّة، بل دخل أيضًا الغرب الكاثوليكيّ، وأثّر في بعض أعلامه كما يظهر لنا عبر بعض الذين شاركوا في المجمع الفاتيكانيّ الثاني.
بقيت محطة واحدة فقط! لذلك كان من الضروريّ أن أفكّر مليًّا وأحسن اختيار محطّتي الأخيرة. وبعد التفكير وبعد استشارة الملاك قرّرت أن أفتح نافذة نحو المستقبل. فذهبتُ إِلى لبنان، إلى العام ١٩٤٢ م. كي أقابل المطران جورج (خضر) حين كان شابًّا. جلست معه مريدًا أن أتعلّم من حماسه واندفاعه الذي كان يترجمه في ذلك الوقت عبر تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. لطالما أردت أن أقابل رئيس الكهنة هذا في شبابه لأفهم شيبه...
نهضت لأودّع الشابّ-المطران، وفي هذه اللحظة اختفى هو واختفى ملاكي، ووجدت نفسي في السرير، في غرفتي، في ذاك الدير الحامل التاريخ. حزنت لبرهة، ثمّ أدركت أنّ حلمي تحقّق ولو من طريق حلم. أدركت أنّ أرثوذكسيّتي كنز، وكلّنا مدعوّ إلى اكتشاف هذا الكنز. كنيستنا هي كنيسة الإنجيل، والرسل، والشهداء، والرهبان، والمجامع، والآباء، والقدّيسين، والنسّاك، والهدوئيّين، والثائرين، والمندفعين... هي كنيسة الليتورجيا، والبهاء، والموسيقى، والأديار، والأيقونات... كنيستنا وديعة علينا أن نحافظ عليها ونحميها ونصونها... وهذا يحصل، أوّلاً، عبر معرفتنا تاريخنا. عندما نعرف تاريخنا، نصبح أقوياء في وجه كلّ من يواجهنا ويواجه الكنيسة وإيمانها. وقد صدق من قال إنّ من لا يعرف تاريخه، لا مستقبل له. ويبقى الحذر من أن نحوّل التاريخ إلى مجرّد أحداث، فهذا من شأنه أن يفقد التاريخ قيمته.
فلنبذل جهدًا أكبر لمعرفة تاريخ كنيستنا، كي ننطلق من جديد في رحلة حقيقيّة، كما فعل آباؤنا، للوقوف أمام السهام التي تواجه كنيسة الربّ، الكنيسة الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة.l