2013

9. الإيمان على دروب العصر: النظرة الإيجابيّة غير المشروطة - د. جورج معلولي – العدد السادس سنة 2013

 

النظرة الإيجابيّة غير المشروطة

«عرف صاحبي أنّ من إنسان مسخ» (المطران جورج خضر)

 

د. جورج معلولي

 

في الدرجة العاشرة من سلّم الفضائل يشرح القدّيس يوحنّا السلّميّ أنّ »قاطف العنب النبيه يأكل البالغ منه ولا يكترث بالحصرم. وكذلك العقل الفطن الحصيف يبادر إلى التشبّه بالفضائل التي يبصرها في الناس. أمّا العادم الفطنة، فيفحص عن المذمّات والنقائص«. »غير أنّه من الواضح أنّ قلّة تملك النفاذ إلى الجمال الذي يشاهده اللَّه في خلائقه« كما يقول المطران جورج (خضر). تتعدّى هذه القدرة على رؤية الجمال كونها مجرّد ترف عقليّ أو روحيّ إلى كونها واجبًا أخلاقيًّا تجاه كلّ إنسان، إذ يتعلّق بها مصيره ومسيرته إلى كمال إنسانيّته كما يريدها اللَّه في قصده. فـ»الإنسان في حركيّة دائمة وأنا أساهم في حركته إلى الخير... بقدر ما أحبّ الخاطئ يتبدّل ويتوب. أن أراه يذهب إلى المثال الإلهيّ هو ضمن تعاملي وإيّاه«.

هذا الموقف الأخلاقيّ والتربويّ نراه ثابتًا في تعامل يسوع مع الخطأة، ومبدأ تحوّلهم وانطلاقهم في فصح جديد ليس غريبًا عن صورتهم الأولى التي فطروا عليها وجذور رغباتهم العميقة. هكذا انطلقت السامريّة إلى مياه جديدة بعد لقائها شخصًا احترم كيانها وبحثها وعطشها وطلب منها أفضل ما عندها. وهكذا استُقبِلت مبادرة المرأة الزانية، فغفرت خطاياها الكثيرة لأنّها أحبّت كثيرًا. وهكذا استيقظ حبّ الحياة عند المخلّع من تحت رماد غريزة الموت بعد سنين من انتظاره قرب البركة. هكذا أيضًا أنقذت زانية أخرى من ميتات عديدة بعد أن قال لها واحد: »ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضًا«.

تسعفنا المقاربة المتمركزة حول الشخص person centered approach التي أسّّسها المعالج النفسيّ كارل روجرز في تأمّل هذا الموقف التربويّ وتفصيل فعاليّته ومعوقاته. فالنظرة الإيجابيّة غير المشروطة هي من الشروط الأساسيّة في ممارسة العلاج المتمركز حول الشخص بخلقها مناخًا يسهّل النموّ والتقدّم. النظرة الإيجابيّة غير المشروطة هي غياب تامّ للحكم على الآخر وقبول الإنسان كما هو، خلف أقنعته أو الصور الذي نسقطها عليه. تتّجه حركة القبول هذه إلى الشخص نفسه في كيانه الذاتيّ القابل للتحوّل، متجاوزة أفعاله الآنيّة التي ربّما لا نوافق عليها. ليس هذا قبولاً انتقائيًّا، بل هو قبول مجّانيّ حرّ من الأفكار المسبقة والخلفيّات من المشاعر والأحكام، في علاقة دافئة حرّة من التملّك والأنانيّة. في خبرة روجرز، الأحكام لا تشجّع على نموّ الشخصيّة، ولا تشكّل جزءًا من العلاقة العلاجيّة. ذلك بأنّ الهدف هو أن يدرك الإنسان أنّ مركز المسؤوليّة قائم في شخصه وليس في شخص المعالج. 

غير أنّ روجرز يشرح مستدركًا أنّ هذه النظرة الإيجابيّة غير المشروطة يصعب تطبيقها دائمًا، فدونها معوقات كثيرة. لكنّه يدوّن، ببساطة، الملاحظة التالية: في حال عدم توفّر هذه النظرة بشكل كاف في العلاقة العلاجيّة تتراجع فرص التحوّل الإيجابيّ عند المريض.

ما هي المعوقات التي تحول دون الممارسة الدائمة للنظرة الإيجابيّة غير المشروطة؟ يمكن أن نعدّد، بسهولة، الاختلاف في الآراء والقناعات والقيم كأسباب شائعة. غير أنّ الأحكام غالبًا ما تكون نتيجة إسقاطات واعية أو غير واعية وتأويلات نحلّل بها مواقف الآخر وشخصه. الإسقاطات ثمرة أجزاء من نفسي لا أتقبّلها أو أنفر منها أو أخجل من إظهارها، إذ تشعرني بالعار، فأرميها خارج نفسي على الآخرين، فأدينها فيهم. هذه الإدانة هي الأكثر فتكًا، لأنّ قبول الآخر يتلازم مع اعترافي المسبق بكلّ ظلال نفسي وزواياها المنفّرة لي. فقط عندما أتقبّل وجود هذه الظلال في نفسي تفقد هذه الظلال من قوّتها وحدّتها، ويبدأ التحوّل. معوق آخر للنظرة الإيجابيّة غير المشروطة هو الخوف: خوف من الاختلاف، خوف من الذلّ، خوف من الانفصال، خوف من التحوّل، والخوف من الآخر بشكل عامّ. ضدّ هذا الخوف تظهر الأحكام كحصون منيعة أحتمي وراءها. أحكم وأدين مسبقًا حتّى لا أخاطر بمواجهة الاختلاف. فاللقاء محوّل دائمًا، لذلك أتجنّبه.

يتقاطع هذا مع ما يقوله القدّيس يوحنّا السلّميّ عن الوقيعة. فـ»هذه الدرجة يعلوها من يمارس الحبّ أو النوح«، أو، بكلمات أخرى، من يمارس التعاطف والوعي الذاتيّ. فالذين »يحاسبون القريب على هفواته، بدقّة وقسوة، لم يبحثوا عن زلاّتهم بحزم واهتمام، ولا أمعنوا في ذكرها كلّها كما هي«. وقد حجبها عنهم »حجاب حبّ الذات«. وعن النظرة الإيجابيّة والتعاطف يقول: »من يشاء أن يغلب روح النميمة، فلا ينسبنّ المذمّة إلى من يزلّ، بل إلى الشيطان الذي يوحي، لأنّه لا يوجد إنسان يريد أن يخطئ حقيقة إلى اللَّه«.

تشدّد المقاربة المتمركزة حول الشخص على أهمّيّة التعاطف للتوصّل إلى النظرة الإيجابيّة غير المشروطة، إذ يمكننا التعاطف من ولوج الكون الداخليّ للآخر لدرجة نفقد فيها كلّ رغبة في الحكم. الفهم العميق لحياة الآخر وجراحاته ومعاناته، التي تنتج منها سلوكيّاته السلبيّة الدفاعيّة والعدائيّة، يدخلنا في احتكاك حقيقيّ مع شخصه يُسقط الأقنعة، ويسهّل علينا النفاذ إلى جمال صورته الأولى.

النظرة الإيجابيّة غير المشروطة تتبرعم أوّلاً كنيّة وتعبّر عن نفسها كموقف، لكنّ ضمان بقائها يتوقّف على اللقاء حيث الأنا يلاقي الأنت في حوار إنسانيّتهما، وتواضع التحوّل حيث تهدم الحصون وينفتح فضاء جديد، حيث لا معنى للأحكام، بل الاعتراف بحقّ اللآخر بالوجود وبالطريقة التي يريد.l

 

مراجع :

السلّم إلى اللَّه، القدّيس يوحنّا السلّميّ. تعريب رهبنة دير الحرف.

الحياة الجديدة، المطران جورج خضر - النهار.

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search