2013

11. خاطرة: في مرآة المسيح - مهى عفيش – العدد السادس سنة 2013

 

في مرآة المسيح

مهى عفيش

 

في حياتنا الحبّ أمر أساس. يحرِّكنا توق عظيم إلى أن نُحبّ الآخر، ونشعر بحبّه. فحياتنا البشريّة لا تكتمل من دون هذا المكوِّن الذي لا بدّ منه. نحبّ أهلنا، نحبّ أزواجنا، أولادنا، أشقّاءنا، أصدقاءنا... نشتاق إليهم، ونفرح بلقائهم، ونمضي معهم أجمل الأوقات وأطولها. ويصل بنا الأمر إلى الظنّ (وفي الغالب لا نعي ذلك) بأنّهم ملكٌ لنا، وأنّنا قد نمضي العمر كلّه معهم. ثمّ يأتي يوم نفقد فيه أحد أحبّائنا، فنشعر بأنّنا فقدنا جزءًا من أنفسنا. وربّما نشعر بأنّ اللَّه، له المجد، قد »أخطأ« بحقّنا. فنلومه، ونغضب منه. وقد نخاصمه: لماذا حرَمنا هذا الإنسان الذي كنّا نحبّه إلى هذا الحدّ؟ لمَ »فعل بنا« هكذا؟

فهل هذا حبّ حقيقيّ، خالٍ من الأنانيّة؟ وحده اللَّه يحبّ حقًّا، لأنّه يحبّ الجميع بالدرجة ذاتها، بمقدار الشغف عينه. وحده اللَّه يحبّ، لا نحن.

اختبار صغير: هل تدمع عيناي لعلمي بعذاب إنسان في مكان ما من الكون، لم أعرفه قط، ولا هو من ديني، ولا من طبقتي الاجتماعيّة بقدر ما تدمعان على إنسان معذّب أعرفه عن قرب؟

اختبار صغير ثانٍ: هل أصلّي حتّى يُبعد اللَّه عن أهلي وأولادي (وكلّ من أحبّ) الأمراض والحوادث المؤلمة والموت، أو أصلّي بالحري، وعلى الأخصّ، لكي يُبعدهم عن الخطيئة؟

إن أنجبتُ، فقد أعطيت لي بركة تربية أولاد للمسيح. أولادي أبناء المسيح (وليسوا »أبناء الحياة«، كما قال جبران)، وواجبي أن أقودهم إليه. وإن ربّيت، فولدي للربّ يسوع، أبيه الحقيقيّ، وعليَّ أن أهديه إليه مؤمنًا، عفيفًا، قدّيسًـا، مبشِّرًا باسمه ونائلاً ملكوت السموات بقرب أبيه. وإن مات، فقد عاد إلى أبيه ومكانه الحقيقيّ الأبديّ. ولنا في الكتاب المقدّس عادة رائعة كانت تقوم على إهداء الولد البكر للربّ. ومن الأمثلة الكتابيّة: والدة الإله، ويوحنّا المعمدان، وصموئيل...

وإن حظيت بوالدَين حنونَين وعائلة مؤتلفة، متحابّة، فهذا سند لي عظيم في مواجهة مصاعب الحياة. وقد أحاطني الربّ بهذا الحبّ البشريّ المبارَك لكي أنمو بشكل سليم في بيئة متوازنة. وإن منحني اللَّه أصدقاء أوفياء يزيّنون حياتي، فتلك نعمة أخرى عظيمة ومصدر فرح. ولكن، كلّ هؤلاء لن يلبثوا أن يغادروني الواحد بعد الآخر. وسأبقى وحدي إلاّ من رحمة اللَّه.

لقد زرع اللَّه فينا المحبّة، وهي الشعور الأكثر إنسانيّة والأكثر إلهيّة في آن. فاللَّه »محبّة«، بل هو المحبّة المطلقة. وينبوع كلّ محبّة. والمصدر الذي منه ينبغي أن نستقي. ولكنّ المحبّة البشريّة توشك، أحيانًا، أن تتحوّل إلى استئثاريّة، نفعيّة، وأحيانًا صنميّة، أو نوعًا من إدمان. وحتّى لا تكون كلّ ذلك، يجب أن تمرّ بالمسيح، أن تكون »في« المسيح. فالمحبّة في المسيح هي وحدها التي تثمر بالفرح الحقيقيّ، وغير ذلك أنانيّة. والأنانيّة تولّد الألم والحزن الذي »بحسب هذا العالم« (2 كورنثوس).

اللَّه يريدنا أن نمرّ به قبل أن نصل إلى أيّ شخص آخر أو أيّ شيء آخر. يودّ أن يكون هو المرآة التي نرى عبرها الجميع، والباب الذي منه ندخل الحياة (»أنا هو الباب«(1)). اللَّه يودّ أن نحبّه أكثر من الأهل، وأكثر من الإخوة والأولاد(٢)، وأكثر من كلّ ملذّات الدنيا وجمالاتها، وأكثر من أجمل ما فيها.

ولكن، عمليًّا: لا يمكن للأمّ التي فقدت وليدها إلاّ أن تحزن وتبكي، وهو الأمر الأكثر طبيعيّة وبشريّة. فالفراق مؤلم، والموت انسلاخ. ولكنّ اللَّه سيعزّيها (وهو »المعزّي«) ويعينها على تجاوز هذا الألم. والكتاب المقدّس قال إنّنا »آلهة«، الأمر الذي غالبًا ما ننساه في حين أنّ اللَّه يريدنا في كلّ الحالات، وفي جميع الظروف، أن نتخطّى بشريّتنا وضعفنا، متقوّين بنعمته.

 

في النهاية، كلّ ما في حياتي وقتيّ حتّى وجودي. ولكنّ الأساس هو ألاّ أدع المنظور يحجب عن نظري اللامنظور: اللَّه الكامن وراء كلّ شيء وفي كلّ شيء، اللَّه المالئ الكلّ.

أهلي ليسوا لي. أولادي ليسوا لي. أموالي ليست لي. جسدي ليس لي. أنا لا أملك شيئًا، بل »أستعمل هذا العالم«(٣)، ولسوف أرحل عاجلاً وأترك كلّ شيء في مكانه. المهمّ ألاّ أضيّع الغاية التي من أجلها خرجت إلى هذا الوجود، ألاّ أنسى وجهتي ونقطة وصولي، أن أحطّ رحالي، في النهاية، في أحضان المسيح.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search