التغيير الاجتماعيّ والتوبة الشخصيّة
الأب جهاد أبو مراد
١- التغيير الاجتماعيّ والأوضاع القانونيّة
يظنّ الإنسان أنّ الأنظمة الاجتماعيّة التي يكفلها الدستور والقوانين الاشتراعيّة، قادرة وحدها، على حلّ المشاكل الاجتماعيّة. لذا يسعى، عندما تدعو الحاجة، إلى تغيير البنى القانونيّة وتعديل المفاهيم السياسيّة- الاجتماعيّة، متسلّحًا بقوّة الشرع وسلاح القانون، إلى التدخّل وفرض القانون الوضعيّ، ظنًّا منه أنّه وجد الحلّ الأنسب للمشاكل الحياتيّـة اليوميّة . فهل النظام الاجتماعيّ والبيئة الشرعيّة، قادران على إدارة المشاكل الاجتماعيّة؟ وهل تُحلّ المشاكل الاجتماعيّة، فقط بتغيير الأنظمة والقوانين؟
لا شكّ في أنّ الدساتير والبنى القانونيّة مرتكزات أساسيّة وضروريّة لحسن سير الحياة. لكنّ الاعتقاد أنّ تغييـر أطــر النظام العامّ، وحده، كاف لتحسين نوعيّة الحيـاة، يمكـن أن يتحـوّل إلـى تفـاؤل مفـرط، إذا لم يتحقّق، يقود عاجلاً أم آجلاً، إلى حالات الإحباط الشعبيّ الذي تعاني من آثاره معظم الشعوب، وذلك للأسباب التالية:
أ- التغيير الخارجيّ. تغيير الإطار الخارجيّ للبناء الاجتماعيّ بواسطة القوانين، يبقى شكليًّا، إذا لم تتغيّر عقليّة المواطنين الذين يؤلّفون المجتمع. بدءًا، كلّ تغيير لا يأخذ بالاعتبار العنصر البشريّ، كأساس للانطلاق، أو يسعى للضغط على حرّيّة الإنسان، والتحكّم بإرادته محكوم عليه مسبقًا بالفشل. ثمّ إنّ التغيير الخارجيّ للبنى الاجتماعيّة والنظم والقوانين، من دون التغيير الداخليّ للإنسان، لجهة توجيهه إلى قبول العقد الاجتماعيّ، وإقامة العـلاقات البشريّة الدافئة، ليس سوى تكتيكات فرّيسيّة أدانهـا السـيّد بالقــول: »...الويل لكم أيّها الكتبة والفرّيسيّون المراؤون، فإنّكم تطهّرون ظاهر الكأس والصحن، وداخلهما ممتلئ من حصيلة النهب والطمع. أيّها الفرّيسيّ الأعمى طهّر أوّلاً داخل الكأس ليصير الظاهر أيضًا طاهرًا. الويل لكم... فإنّكم أشبه بالقبور المكلّسة، يبدو ظاهرها جميـلاً، وأمّا داخلها فممتلئ من عظام الموتى وكلّ نجاسة. وكذلك أنتم، تبدون في ظاهركم للناس أبرارًا، وأمّا باطنكم فممتلئ رياءً وإثمًا« (متّى ٢٣: ٢٥- ٢٨).
ب- التغيير الآليّ. التغيير التقنيّ المنظّم وحده، في معظم الأحيان، هو تغيير جامد، بلا روح، ويولد ميتًا إذا لم يأخذ بالاعتبار أوضاع الإنسان الحقيقيّة والواقعيّة، وإذا لم يعالج المسالك التي يراها الإنسان مسدودة في وجهه. إنّ التغيير الآليّ، الذي لا ينطلق من معالجة المشاكل بواقعيّة وحكمة، قد ينجح في تغيير بعض الظواهر الاجتماعيّة، لكنّه حكمًا سيفشل في تحسين العقليّة التي هي في الواقع، الأساس لبناء المجتمع.
٢- التغيير الاجتماعي وإرادة الإنسان.
- تبيّن لنا أنّ التغيير، الذي لا يشارك فيه الإنسان طوعًا بإرادته الحرّة، ليس ممكنًا، فكيف يتحقّق الدور المقرِّر للإرادة في عمليّة التغيير؟
أ- معنى الإرادة الحرّة. الحياة الاجتماعيّة هي علاقات بشريّة ترتكز على مبدأ التعايش والعلاقات المشتركة بين أعضاء المجتمع، أو ما اصطلح على تسميته بالعقد الاجتماعي. الشروط الأساسيّة لنجاح هذه العلاقة، هي أن تتوفّر لدى الأعضاء القناعة الراسخة أنّهم كائنات حرّة ومقرّرة، وأن يتحلّوا بالإرادة الثابتة والتوافق على العيش المشترك، والرغبة الأكيدة بالمساهمة في تحسين الحياة من أجل الخير العامّ. وكلّ رفض أو تردّد بالمشاركة الطوعيّة يؤخّر عمل التغيير، مهما كان منظّمًا. لذا فإنّ الأنظمة الإصلاحيّة، التي تستند بالكامل إلى تغيير النظام، يجب أن تنال مسبقًا موافقة إراديّة وقبولاً من المواطنين أعضاء المجتمع. وإذا فكّر نظام بفرض إصلاحاته بالوسائل القانونيّة او العنفيّة (الأنظمة الاستبداديّة)، فإنّه سيتعرّض للمقاومة المنظّمة أو غير المنضبطة، التي تعبّر عن معارضة الشعب لإصلاحات لم يقرّرها بنفسه أو لم يشارك في كتابتها وليس مستعدًّا لتبنّيها.
ب- معنى التغيير الداخليّ - التوبة. الفكر المسيحيّ، الذي لا يعارض الإصلاح الاجتماعيّ ولا الأنظمة والشرائع الوضعيّة المعقولة التي وضعت من أجل خير الإنسان، يعتبر أنّ كلّ تغيير يجب أن يبدأ من داخل الإنسـان، وهذا شـرط لأيّ تغييـر أخــلاقيّ أو اجتماعيّ. هذا التغيير يدعى، في لغة الكنيسة، »التوبة«، أي التغيير الكيانيّ الطوعيّ لإرادة الإنسان. التغيير، في المسيحيّة، يبدأ بالتجدّد الداخليّ. إنّ السعي إلى النظام الأفضل والقيم الأسمـى في الحيــاة والمجتمـع، يبــدأ بالبحث عن الأفضل والأسمى في دواخلنا. التجدّد الشخصيّ للإنسان من الداخل، يسـاهم في تجدّد البيئة الطبيعيّة والاجتماعيّة حوله.
الإنسان الذي يكتشف صورة اللَّه في داخله، ويترك لنعمة اللَّه أن تعيد طبيعته إلى جمالها وبهائها الطبيعيّ، الإنسان المتجدّد الذي يحيا كابن للَّه وأخ لجميع الناس، يجمّل العالم حوله. التوبة، تاليًا، التي تقترحها المسيحيّة، عنصر أساس لكلّ تغيير شخصيّ واجتماعيّ. يتوقّف التغيير الاجتماعيّ الحقيقيّ على التغيير الطوعيّ لإرادة البشر.
يضع موقفنا من التغيير فرامل للمفرطين في التفاؤل، لدعاة التغيير الاجتماعيّ الآليّ بواسطة الإجراءات والقرارات والقوانين. لكنّه يشكّل حافزًا للشباب المسيحيّ المتحفّز، لحثّه على الانخراط بجدّيّة في ميدان العمل الإجتماعيّ. فشبابنا يحمل رسالة فريدة لحياة حقيقيّة، شخصيّة واجتماعيّة، كشفها لنا يسوع، حقيقة اللَّه الأبديّة، وعاشها واختبرها ملايين المؤمنين عبر العصور.
شبابنا يجب أن يكون له رأي في موضوع الإصلاحات الاجتماعيّة، وأن تكون له جرأة على الخوض في التوجّهات التغييريّة. شبابنا يجب أن يكون »العجين الجديد« في مجتمعنا، الذي يغيّر خمير الخبث والفساد ويطهّر خمير حياتنا القديم (١كورنثوس ٥: ٧).l
أقوال آبائية
- »إنّ المخلَّصين بيسوع المسيح، الذين تذوّقوا طعم التغيير الحقيقيّ الطيّب، يشكرون اللَّه الذي غيّرهم. والذين تغيّروا أصبحوا أزهارًا يانعة للكنيسة«.
(إفسافيوس القيصريّ).
- »جاء المسيح إلينا وغيّرنا نحو الأفضل. التغيير الذي أنجزته »يمين العليّ« هو مسعى الإنسان نحو الصلاح، المتمثّل بالنضال المستمرّ لاكتساب التقوى. لذلك فالإنسان الذي يسير على دروب الفضيلة يتغيّر في كلّ لحظة«.
( كيرلّس الإسكندريّ).