2012

07- الإيمان على دروب العصر: فصح النظر: خواطر حول يوحنّا ٨: ١- ١١ - د. جورج معلولي – العدد الخامس سنة 2012

فصح النظر:

خواطر حول يوحنّا ٨: ١- ١١

د. جورج معلولي

 

»وَفِي الصَّباحِ الباكِرِ ذَهَبَ يسوع إلَى ساحَةِ الهَيْكَلِ ثانِيَةً حَيْثُ جاءَ إلَيْهِ الجَمِيعُ، فَجَلَسَ وَبَدَأ يُعَلِّمُهُمْ. وَأحضَرَ مُعَلِّمُو الشَّرِيْعَةِ وَالفِرِّيْسِيُّونَ امْرأةً أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي. وَجَعَلُوها تَقِفُ وَسَطَ النّاسِ« (يوحنّا ٨: ٢- ٣).

ماذا يحرّك معلّمي الشريعة والفرّيسيّين هؤلاء في إلحاحهم على استجواب يسوع ورجم الزانية ؟ هل هو الذود عن الشريعة؟ يوضح الإنجيليّ أنّهم »قالُوا هَذا لِيَمْتَحِنُوهُ، فَيَكُونَ لَهُمْ ما يَتَّهِمُونَهُ بِهِ«. هي، إذًا، حركة عنف مزدوجة نحـو الزانية ونحو يسوع. تحاول حركة العنف هذه ملاصقة الرؤية البؤريّة للسرد لاغتصاب نظر يسوع ونظر القارئ وإرغامهما على تبنّي الوجهة العدائيّة نحو المرأة الزانية.

تصوّر مشهديّة النصّ، بكلّ، وضوح هذه الجدليّة بين محاولة الفرّيسيّين في التقاط بصر يسوع وتملّص يسوع من الانضمام إليهم في وجهة نظرهم. لقد جعلوا المرأة تقف في وسط الحلقة ثمّ جعلوا يشيرون إليها »هذه المرأة« وهم يحاولون أن يتماهوا مع شريعة موسى لينضمّ يسوع (والقارئ أيضًا) إلى حلقة المحدّقين، وكأنّه إلى الشريعة ذاتها. يختلسون هالة الشريعة حتّى تسبغ عليهم حلّة الطهر مدافعين بها عن أنفسهم ومسقطين شحنة الظلام في كلّ كثافتها على المرأة التي أُمسِكت في الزنا.

في تحليل فرويد مؤسّّسة المحرّمات tabou في القبائل البدائيّة، لاحظ أنّ من يرتكب المحرّمات يصبح هو نفسه من المحرّمات التي يجب استبعادها: فحضوره وسط الجماعة خطر بحدّ ذاته لأنّه يحمل خطر العدوى ويوقظ في حركة واحدة انفعالات متضاربة، أي الرغبة في المحرّمات والخوف منها. وهذا مشابه الى حدّ بعيد لحالات العصاب الوسواسيّ nevrose obsessionnelle. لذا، على المرتكب أن يتحوّل إلى كبش محرقة يرمي عليه كلّ أعضاء القبيلة رغباتهم المظلمة غير المقولة لتحترق معه خارج القبيلة. على مثال هذه الآليّات الدفاعيّة، يبدو أنّ الفرّيسيّين في مواجهة يسوع يذكّرونه بالمنطق ذاته في تلميح إلى تثنية الاشتراع ٢٢: ٢٢- ٢٤: »اقلع الشرّ من إسرائيل... أخرجوهما كليهما إلى باب المدينة وارجموهما بالحجارة حتّى يموتا... اقلع الشرّ من وسطك«. هذه هي طقوس التطهير التي تقصّر في العمق عن الغاية المنشودة (التطهير) كما توضح الرسالة إلى العبرانيّين (٩: ٩)، لأنّها ليست إلاّ آليّات إسقاط بدائيّة.

يشير الإسقاط projection إلى حيلة دفاعيّة من حيل دفاع الأنا ينسب الشخص بمقتضاها إلى غيره ميولاً وأفكارًا مستمدّة من خبرته الذاتيّة يرفض الاعتراف بها لما تسبّبه من ألم وما تثيره من مشاعر الذنب في نفسه. هو أسلوب لاستبعاد العناصر النفسيّة المؤلمة عن حيّز الشعور. والعناصر التي يتناولها الإسقاط يدركها الشخص ثانية كموضوعات خارجيّة كأنّها منقطعة عن الأنا الصادرة عنها أصلاً. فالإدراك الداخليّ يُلغى ويظهر في شكل إدراك صادر عن الخارج بعد أن يكون قد لحقه بعض التشويه أو التمويه. تفسّر محاولة استبعاد العناصر السلبيّة من نطاق الأنا لماذا يجب أن يُنفى المرتكب (أو العار) »إلى باب المدينة« (تثنية الاشتراع 22) أو »خارج المحلّة« (عبرانيّين ١٣: ١٠- ٢١)، أي خارج نطاق الأنا (الفرديّة أو الجماعيّة) للتخلّص من اللوثة .

تفسّر آليّة الإسقاط بعض جوانب خطيئة الإدانة. وربّما تكون هي الحتميّة الداخليّة التي توضح ما يقوله القدّيس يوحنّا السلّميّ في مقالته العاشرة »في الوقيعة«: »إسمعوا لي إسمعوا يا معشر الأشرار الذين يحاسبون الآخرين: إن كان القول صادقًا وهو كذلك: بالدينونة التي بها تدينون تدانون، فلا شكّ في أنّنا سنسقط في الزلاّت عينها التي لمنا قريبنا عليها، جسديّة كانت أو نفسيّة. وهذا لا محالة«.  وأيضًا »إنّ هذا الأمر يعرض للذين يحاسبون القريب عن هفواته بدقّة وقسوة لأنّهم لم يبحثوا عن زلاّتهم بحزم واهتمام ولا أمعنوا في ذكرها كلّها كما هي«. فآليّة الإسقاط توفّر عن النفس رؤية عناصرها المظلمة، فتبقى هذه العناصر حيّة ناشطة مستقلّة تعمل في الخفاء في أعماق اللاوعي. 

لا بدّ من أنّ الفرّيسيّين قد حيّرهم سلوك يسوع وتعليمه وأربكهم، فجاؤوا يمتحنونه بإدانة المرأة. تتبع وجهة الإسقاط طبيعيًّا اتّجاه النظر. لذلك كان لا بدّ للفرّيسيّين من أن يضعوا المرأة في الوسط، ليقع نظر يسوع في شركهم. »لَكِنَّ يَسُوعَ انْحَنَى وَبَدَأ يَكْتُبُ عَلَى الأرْضِ بِإصْبعِهِ« (يوحنّا ٨: ٦). هم يشيرون إلى المرأة (بعيونهم أو أصابعهم أو كلامهم) ويسوع يشير الى مكان آخر. يأخذهم إلى مكان آخر بانحناء جسده وحركة يده ووجهة بصره. يهيّئهم لحركة ارتداد في انفعالاتهم الموجّهة نحوه ونحو المرأة الزانية. ثمّ في أوج إلحاحهم وَقَفَ وَقالَ لَهُمْ: »حَسَنًا! مَنْ كانَ مِنْكُمْ بِلا خَطِيَّةٍ، فَلْيَكُنِ البادِئَ بِرَمْيِها بِحَجَرٍ. وَانحَنَى مَرَّةً أُخْرَى وَأخَذَ يَكْتُبُ عَلَى الأرْض«. يفكّ يسوع المشهديّة التي أرادها الفرّيسيّون فضاء مؤاتيًا لإسقاطاتهم، ويخلق بحركات جسده فضاء آخر لنوع مغاير من العلاقات. في هذا الإخراج الجديد، لا تبقى المرأة مركز الأنظار. ترتدّ حركة الإسقاط. وعند كلام يسوع، »بَدَأُوا يُغادِرُونَ المَكانَ واحِداً بَعْدَ الآخَرِ بَدْءًا بِالأكْبَرِ سِنَّا« لأنّ المكان الوهميّ الذي خاطه الفرّيسيّون ليسكنه عنفهم تطاير وبقي كلّ واحد مع نفسه. »وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ مَعَ المَرْأةِ الواقِفَةِ أمامَهُ«. فَقالَ لَها يَسُوعُ: »وَلا أنا أحكُمُ عَلَيْكِ. فَاذْهَبِي وَلا تَعُودِي إلَى الخَطِيَّةِ فِي ما بَعْدُ«.

يتعجّب أوليفيه كليمان من غياب نصّ المرأة الزانية عن عدد من المخطوطات، ويفترض أنّ قوّة غفران السيّد، الظاهرة في هذا النصّ، لا يحتملها الكثيرون. لا بدّ من الإضافة أنّ التحرّر من حيل الإسقاط الدفاعيّة مقلق للكثيرين، لأنّه يعني أن تبصر كلّ نفس ظلالها حتّى يقدر الربّ أن يقول لها »وَلا أنا أحكُمُ عَلَيْكِ. فَاذْهَبِي وَلا تَعُودِي إلَى الخَطِيَّةِ فِي ما بَعْدُ«.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search