رحماكَ يا ربّ
ميساء بشارة
ثقيلةٌ يدك علينا، يا ربّ. الأحداق يسكنها الذهول، والشفاه تبكمها المصائب، العيون مغرورقة بالدماء، والنفوس يؤلمها غثيانها، جثث متناثرة هنا وهناك، أشلاء متناثرة، دماء تغمر الجبال والوديان، الدخّان يتصاعد في الأفق ملـوّنًا بالقاني، ويئزّ الرصاص مختلطًا بآهات المتألّمين وأنّات الجياع والمظلومين.
بكاء وعويل، أنين يمزّق عنان السماء، ويطرق أبواب الأعالي مستنفرًا ملائكة السماوات.
يا ربّ، عظيم هذا الألم، دهياء هي الداهية، يا ربّ... تمزّقنا المناظر كلّ يوم، وتخنقنا الوحشيّة الظاهرة والمقنّعة، شرّ مسيطر ينشر جناحيه على كلّ البلد، شبح أسود يخيف الأجواء، وحش قاتل... لا رحمة.
يد الجلاّد لا تفرّق بين طفل وكبير، ومقصلة الجلاّد تجتزّ الرؤوس، الشيب والولدان، بريئة هي وساذجة، لم توقفه ضحكاتهم، ولا تشفّع فيهم صفاء عيونهم.
صمتًا... فالقبور تتأوّه وتضيق بأصحابها، مهلاً... فأصوات الضحايا تتصاعد من الأجداث، اكتظّت بهم الأرض، فلا فسحة خلت، حتّى بتنا نخاف أن نطأهم بأقدامنا!
وجعي على بلد ينزف حتّى الإغماء ويتوجّع حتّى الصدمة. أواه يا وطن... تلاعبت بك أهواء الساسة، وقتلتك أطماع السلطة، وعبثت بك مصالح الأمم.
واعاراه... على شعب يقتله بنو جلدته ويشنّ الحرب عليه إخوته وجيرانه »قايين... قايين... قايين... ماذا فعلت بأخيك؟«.
بشر تائهون في »أرض وادي الدموع«... جحيمنا يلاحقنا، وصراخ يصعد من الهاوية ويسيطر على الآفاق، وصوت الربّ لا يبلغ الآذان، تحذيره لا يخترق الوجدان وسط فوضى الدمار وشراهة القتل وعنف سيّد العالم، وكأنّه أطلق من عقاله في بحيرة الزيت والنار، فعاث في الأرض فسادًا.
رحماك يا ربّ... في عالم يمضي متدثّرًا بشقائه، ملتفًّا بعباءة أنانيّته، أين المفرّ من كلّ هذا الألم إلاّ إليك؟ وأين المهرب إلاّ إلى أحضانك؟
خطِئنا كثيرًا، يا ربّ. بعُدنا عنك، انتفخنا بكبريائنا وتفاهاتنا. انشغلنا بهمومنا وصغائرنا... نسيناك... إنجيلنا علاه التراب، قريبنا يجوع ويعرى. صليبنا مصلوبٌ زينةً على الأعناق.
نسيناك... تكاثرت من حولنا الهموم... خطئنا، لكنّك أنت الرحوم... لا تحاسبنا بآثامنا »أخطأت إليك كإنسان وأنت ارحمني كإله« كما صلّى ذهبيّ الفم. اجمعنا تحت جناحيك كما تجمع الدجاجة أفراخها، احضنّا في رحم حنانك، هدهدنا بطمأنينة وداعتك.
بعدنا كثيرًا، يا أبي. فشقينا في بُعدنا. ضللنا طريقنا، وتهنا في ملذّات حياتنا وتعظّم معيشتنا. لا تحجب وجهك عنّا وعن بلدنا، فأنت الغفور لابنك الشاطر. شطّارٌ نحن في مدينة السموات، ارحمنا... ارحضنا من خطايانا، عسانا نعود من مواطني السماء، حيث النور لا يختفي أبدًا من الظلمة وحيث النهار لا يمحى أبدًا من الليل.
أعنّا... لنتحرّر من سلاسل الأرضيّات وحبال العالم ورُبُط الدنيا. حرّرنا من قيودنا، لنُخلق أحرارًا من جديد في مدينتك السماويّة. اشتدّت سلاسلنا فلا مناص من عظيمِ الألمِ وجمِّ النواح إلى أن تحلّها وتفك عقدها، فالعالم يمضي، وشهوته تمضي، وأنت أنت وسنوك لن تفنى.
ولكن، ماذا نفعل يا إلهنا؟ هل نتغاضى عن قريبنا ونشيح النظر عن بني جلدتنا، وعباءة الوجع تلفّ كلّ شيء، الشجر والحجر، الإنسان والبشر.
كيف سنعزّي الأمّ التي لم تستلم جسد ابنها، وحرمت نظرة الوداع الأخير، ماذا سنقول لأفراخ لم يتجاوزوا عمر الحضانة، إذا سألونا ما ذنبنا؟ كيف سنجيب عجوزًا فقد جنى العمر، فغدا لا مأوى يحميه ولا معين يستر عوزه. تحرقنا تساؤلاتهم، وتبكمنا آلامهم، وتمزّقنا تأوّهاتهم.
أمّا نحن... فلا جواب لدينا إلاّ »الصليب«، والمحبّة الفادية المسكوبة عليه خلاصًا للعالم أجمع.
الصليب... صادمًا جميع العقول، متحدّيًا كلّ التوقّعات، ليس هو فقط (جهالة لليونانيّين وعثرة لليهود)، بل أيضًا تحدّيًا للمستخفّين والهازئين: »أين هو إلهكم«؟!
فهذه البشريّة المتألّمة من يستطيع أن يخلّصها إلاّ إله متألّم؟
وتلك الإنسانيّة المهدورة من ينقذها إلاّ ملك مصلوب؟
وهذا العالم المقفر القاحل من يروي ظمأه إلاّ ينبوع الحياة؟
من يستطيع أن يخلّص العالم إلاّ الذي أحبّه حتّى المنتهى... حتّى الموت المهين والمخزي على خشبة صليب.
وعلى نموذج الفادي يكون المفديّون...
وعلى مثال المخلِّص يتصرّف المخلَّصون...
وعلى هدى المسيّا يكون المسيحيون...
وعلى خطى المعلّم يسير التلاميذ...
فذاك الدم المراق يعطينا النسغ لنغذّي العالم أجمع، وتلك المحبّة التي أحبّنا ففاضت حياة من جنبه أُعطيناها مجّانًا لنعطيها مجّانًا للآخر، وذاك النور الذي شعّ من القبر فأضاء ظلمة قلوبنا، رسالتنا، كأبناء النور، أن ننير به عالمنا المظلم الحزين، فتشعّ القيامة وضّاءة تحت كلّ حجر، وينبثق فرحها مالئًا كلّ البشر.
فلا فرح حقيقيّ إلاّ ذاك النازل من العلاء. ولا تعزية ترتجى إلاّ الهاطلة من السماء. ولا حزن يستحقّ الرثاء إلاّ حزن خطيئة تبعدنا عن ربّ المحبّة. فعلى الرجاء نمضي وأشواك الطريق تجرحنا وعيوننا ناظرة إليك، مسمّرة على صليبك، ملتهبة بفدائك، مخلَّصة بك »لأنّنا على الرجاء خلصنا« (رومية 8: 28).
يا ورثة هامَتَي الرسل، لكم في مؤسّّسَي كنيستكم نموذجًا وقدوةً، فلا الضيقات أثنت بولس عن خدمته: »في كلّ شيء نُظهر أنفسنا كخدّام اللَّه. في صبر كثير في شدائد في ضيقات... في أتعاب في أسهار في أصوام...« (2كورنثوس 6: 4- 8). وظلّ صامدًا حتّى المنتهى، حتّى قطع الرأس. وبطرس، الذي أنكر معلّمه، تاب، وبلغ اشتعاله بالروح أنّه لم يجد نفسه مستحقًّا ميتةً شبيهةً بميتة سيّده.
يا أحفاد من »دُعوا أوّلاً مسيحيّين«، لنا في قدّيسي كنيستنا مثلاً يُحتذى، الذين اقتنصوا بقوّة إيمانهم وثباتهم حتّى المنتهى، حتّى الشهادة، خرافًا كثيرة للمسيح.
يا امتداد الكنيسة الأولى، يا من عَنصَركم الروح... أنتم ملح الأرض فإن فسد الملح فبماذا يملّح...؟
أعطنا يا ربّ... أن نكون بقوّة آبائنا الأوائل وثباتهم، وتشبّثهم بجذورهم، فلولا رسوخهم فيها ما كنّا هنا الآن في هذه الأرض، ووسط هذه الكنيسة. »جميعكم أبناء نور وأبناء نهار. لسنا في ليل ولا ظلمة« (1تسالونيكي 5: 5).
أعطنا، يا ربّ، أن ننعجن بك، فنصبح خميرة لوطننا وللعالم أجمع، امنحنا سلامًا وطمأنينة الروح »الذي يشفع فينا بأنّات لا توصف« وسط اضطرام الفوضى، وعبثيّة الأفكار، واختلاط الأوراق... كي نكون حضنًا للثكالى والمحزونين، ونمسح دموع اليتامى والمظلومين، ونقدر على أن نعين المتألّمين.
امنحهم جميعًا السلام الذي سكبت علينا، وابعث فيهم الرجاء الذي وعدتنا به »سأكون معكم إلى انقضاء الدهر«. وامنحهم الثقة التي منحتنا »وإن نسيت الأمّ رضيعها لا أنساكم«.
دعونا أخيرًا نصرخ بصوت عال مع قدّيسنا فمّ الذهب: »إذا كان اللَّه تعزيتنا فمن يستطيع أن يوقعنا في اليأس«.
آمين.l