2012

13 – الإيمان على دروب العصر - ما وراء الغضب- د‫.‬ جورج معلولي - العدد 2 سنة 2012

 

ما وراء الغضب

د. جورج معلولي

 

حاول ان تعرف ما يدفعك الى المخاصمة النابرة« (المطران جورج خضر)

 

وصف الشاعر الرومانيّ هوراس الغضب بالجنون المؤقّت، وقال القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم إنّ »لا فرق بين الغاضب والمجنون«. أمّا القدّيس مكسيموس المعترف، فلاحظ أنّ الغضب يشلّ عمل العقل الطبيعيّ. ويتّفق الشعراء والعلماء أنّ الغضب محطّم القلوب، في المعنيين المجازيّ والعضويّ. وهو الأكثر إغراء بين جميع الإنفعالات السلبيّة. هذا عدا الاختلال في علاقات العمل والصداقة والعلاقات العاطفيّة والعائليّة الذي تتسبّب بها سمة الغضب. ما هي الآليّات والأفكار الأوتوماتيكيّة التي تولّد الغضب عند الأشخاص ذوي سمة الغضب المرتفعة؟

توضح المقاربة السلوكيّة-الإدراكيّة أنّ هذه الآليّات تتبع نموذجًا مشتركًا يتحرّك بتفاعل العناصر التالية : التقاط المؤشّرات ذات الدلالات العدائيّة من المحيط، التحليل العدائيّ لهذه المؤشّرات، الانتباه الانتقائيّ الاجتراريّ للأفكار العدائيّة، ضبط الأفكار الداخليّ، الغضب والتعبير العنفيّ عن الغضب.

يبدو التنبّه الاستباقيّ والإنتقائيّ قاسمًا مشتركًا لحالات الغضب مترافقًا مع التيقّظ المفرط أو القلق تجاه كلّ ما يمكن أن يوحي بنيّات أو تصرّفات عدائيّة أو غير آمنة. هذه الآليّة أوتوماتيكيّة سريعة تلتقط مؤشّرات خطر في الظروف الأقلّ وضوحًا. وهنا يؤدّي التحليل العدائيّ للموقف دورًا حاسمًا: فبينما يمكن إعطاء الموقف أو الظرف دلالات مختلفة، يميل الأشخاص ذوو سمة الغضب المرتفعة إلى تفضيل التأويل العدائيّ للمعطيات، ويجدون فيها دوافع متينة أو مقنعة ليغضبوا. يقفز الغضوب إلى استنتاجات سريعة من دون بحث دقيق أو استيضاح للموقف. يأتي هنا التضخيم والتعميم وإيجاد ربط مع أحداث أو مواقف ماضية، ليزيد من حدّة الغضب واستمراريّته بما يسمّى التنبّه الاجتراري أو التكرار الداخليّ لأفكار الغضب. ينتج من هذه القراءة العدائيّة للمعطيات انفعالات غضبيّة حشويّة (في الأحشاء، أي في الجهاز العصبيّ الأوتوماتيكيّ كانقباض العضلات غير الإراديّة وتمدّد الشرايين في الوجه والأطراف...) وتخطيطًا غضبيًّا واعيًا يختلط مع الحقد والتصميم الإراديّ. لا يمرّ، في هذه القراءة، ذكرٌ للعواقب السلبيّة الممكن حدوثها بسبب الغضب. في هذا الجوّ الداخليّ، تعزّز كلّ موجة من الأفكار والانفعالات الموجة التي تليها، بإثارة مناطق خاصّة في الدماغ كاللوزة الدماغيّة amygdala. تُعدّ اللوزة الدماغيّة كالحارس الذي يحاول تمييز المواقف المهمّة وذات المغزى العاطفيّ العميق لصاحبها، ومن ثمّ إعلان حالة الطوارئ، وإصدار الأوامر السريعة للتصرّف الفوريّ وفق ما يستدعيه الموقف كالقفز أو الصراخ. وعندما تعلن اللوزة الدماغيّة  حالة الطوارئ، فإنّها تكاد تسيطر على كامل وظائف الدماغ الأخرى، وتسيطر على التفكير أو تمنعه. من اللافت أنّ اللوزة الدماغيّة هي أيضًا منطقة المشاعر المرتبطة بالخوف والذعر بامتياز. لذلك »الغاضب الشديد لا سلطان له على لسانه، لأنّ عقله لا يهيمن عليه. يرتجف، يتلعثم. يتلفّظ أحيانًا بأصوات مشوّهة. يختلّ فيه نبض القلب. تحسّ أنّ قوّة غريبة تسكنه وكثيرًا ما يصل إلى العنف الجسديّ. تتمزّق النفس، تتشوّش. تبطل فيه المحاكمة الحقّ، ويبطل التمييز، فلا يرى العقل شيئًا بوضوح. وإذا وقع تحت وطأة هذا الخلل، تتدحرج الكلمات المصوّتة صخورًا تهشّمه وتهشّم الآخرين« (المطران جورج خضر).

في جميع هذه المراحل يمكن لضبط الأفكار الداخليّ التدخّل، ليمنع كرة الثلج هذه، أو يعدّلها، أو يوقفها. يقدّم هذا الضبط الداخليّ: (أ) قراءة حياديّة أو غير عدائيّة بدل التأويل العدائيّ للمعطيات. و(ب) يحاول جذب الانتباه بعيدًا عن الاجترار الغضبيّ، ليكسر حلقة التضخيم والذاكرة الانتقائيّة وأخيرًا (ت) يسعى للتخفيف من التعبير الخارجيّ للغضب. التصدّي الواعي للأفكار الأوتوماتيكيّة، في أولى بوادرها، يمنعها من توليد المشاعر المؤذية المؤدّية للغضب كالإحساس بالذلّ والاحتقار أو عدم الاحترام أو سلب الحقوق. الكفاءة-المفتاح للضبط الداخليّ هي المراقبة الواعية الذاتيّة للعلامات الجسديّة للغضب كالتوتّر العضليّ والتسرّع في نبضات القلب وتوهّج الوجه والبشرة، واتّخاذ هذه العلامات كمؤشّرات مبكرة لضرورة الإبطاء في التصرّف بدل الانصياع للتهوّر الانفعاليّ في الكلام أو التصرّف.

من الشائع القول إنّ الغضب هو الأصعب ضبطًا بين جميع الانفعالات السلبيّة. والأصحّ أنّه الأكثر إغراءً. فالقول »إنّي لا أستطيع ضبط غضبي« محاولة عقلنة للإحساس العميق غير المقول »إنّي لا أرغب في ضبط غضبي« والاقتناع الأحشائيّ »بأنّه يجب ألاّ أضبط غضبي«. تولّد حالة الغضب شعورًا بالقوّة الجسديّة والتيقّظ والقدرة على المواجهة، وكأنّ الغضب دفق من الطاقة ووعد بالفاعليّة، وهذا إغراؤه الكبير. لاحظ بعض الآباء قوّة الغضب هذه، فقال القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم إنّ »لهب القلب هذا يمارس على النفس سلطة أكثر اقتدارًا من أيّ لذّة«. وتكلّم القدّيس يوحنّا السلّميّ عن »الحلاوة في مرارة الغضب ذاتها«، وهذه اللذّة أو الحلاوة من أسباب تعلّق النفس بالغضب، لأنّه »يمدّك دائمًا بتحكّم أو يأتيك من تحكّم« (المطران جورج خضر).

هذه بعض آليات الغضب وما وراءه من أفكار. l

 

المراجع :

 

The Anatomy of Anger: An Integrative Cognitive Model of Trait Anger and Reactive aggression. Journal of Personality 78:1, February 2010.

Transdiagnostic cognitive processes in high trait anger. Clinical Psychology Review 31 (2011) 193–202.

Therapeutique des maladies spirituelles. Jean-Claude Larchet. Cerf.

الغضب. المطران جورج (خضر). النهار 28  آب ٢٠٠٤.

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search