كنيسة روح القدس
التراث ونحن-٢
خريستو المرّ
في الجزء الأوّل من هذه الورقة، حاولنا أن نبيّن أنّ التراث يحتوي مستويات عدّة:
مستوى العقيدة ومستوى الآراء اللاهوتيّة في الكنيسة
مستوى التغيير في التعبير عن العقيدة.
ورأينا أنّ الأمانة للتقليد، المخلصة للإيمان وللآباء، تقتضي عدم الجمود، وتقتضي ابتكار فكر لاهوتيّ جديد مخلص للتراث، ويجيب عن أسئلة جديدة مطروحة على ضمير المؤمنات والمؤمنين؛ وأنّ هذا الابتكار الدائم هو تعبير عن الثقة بحضور الروح القدس في الكنيسة، ويتمّ في قلبها.
في الجزء الثاني هذا، نناقش كيف أنّ التقليد هو حركة دائمة في الروح.
الحقيقة الإلهيّة حركة دائمة في الروح
يرى أصحاب الرأي المُجَمِّدِ للتراث ملء الحقيقة الإيمانيّة في كلّ ما قاله الآباء ماضيًا، لكنّه من المعروف أنّ »هناك قدّيسين عديدين، بل وأيضًا آباء في الكنيسة، تقدّموا بأفكار حَكَم عليها المسيحيّون لاحقًا بأنّها غير دقيقة أو خاطئة«، وأنّ »كتابات آباء الكنيسة لا تخلو من الأخطاء، ولقد قيل بأنّه في كتابات أيّ واحد منهم، يمكن إيجاد آراء يمكن أن يُشكّ في صحّتها على ضوء ملء تراث الكنيسة«، كما يقول الأستاذ في معهد اللاهوت الأرثوذكسيّ في معهد القدّيس فلاديمير، توماس هوبكو(١).
ثمّ إن كان مسعى كلّ حاملي التراث والمساهمين فيه هو أن ينقلوا الحقيقة الإيمانيّة عن اللَّه وعلاقته بالناس، ومسعى المؤمن اليوم هو أن »يعرف« هذه الحقيقة، فإنّ معرفة الحقيقة الإلهيّة لا يمكنها أن تكون إلاّ على شاكلة المعرفة الإنجيليّة، أي هي معرفة العلاقة؛ ولذا فهي تعتمد على علاقتنا باللَّه، على محبّتنا للَّه كمؤمنين، أي ككنيسة، في هدى الروح القدس. وهذا بالضبط الجذر الذي منه انطلق الرسل والقدّيسون والآباء لنقل الحقيقة الإلهيّة في التراث، إذًا مساهمتهم كانت مبنيّة على هذه العلاقة‑المعرفة باللَّه.
هكذا، فإنّ اكتشاف الحقيقة الإلهيّة وعيشها، كما ونقلها، هو حياة ديناميّة يحياها المؤمنون في كلّ زمن، وليس أمرًا جامدًا منتهيًا.
الحقيقة الإلهيّة حركة وحيٍ وليست إنزالاً
هذه الديناميّة أشار إليها يسوع في خطابه إلى الآب، إذ قال »عرّفتهم اسمك وسأعرّفهم أيضًا« (يوحنّا 17: 24). هذا يعني أنّ معرفة اسم اللَّه، معرفة اللَّه، معرفة الحقيقة الإلهيّة، ليست أمرًا انتهى في الماضي، بل أمرٌ ديناميّ، سيعرّفنا إليه يسوع. فالروح القدس سيقودنا إلى معرفة اللَّه، إلى »كمال« هذه المعرفة في الكنيسة، وعبر حضوره فينا وعبر المسيحيّات والمسيحيّين المحبّين للَّه، وذلك في كلّ زمن.
إنّ الحقيقة الإلهيّة، محور التراث، هي أمامنا وفينا أيضًا وليست فقط خلفنا. فيسوع نفسه أبلغنا أنّه »مَتَى جاءَ ذاكَ، روحُ الحَقّ، فهو يُرشِدُكُمْ إلى جميعِ الحَقّ« (يوحنّا 16: 13)، ما يعني أنّ جميع الحقّ هو تقدّم إلى الأمام بهدى الروح. كلمة يسوع هذه تشكّل لنا دعوة دائمة ومفتوحة لاكتشاف الوجوه الجديدة التي تبدو لنا اليوم من الحقيقة الإلهيّة، وذلك بإرشاد الروح القدس، الفاعل في الكنيسة كلّ يوم.
يقول يسوع »إذا ثَبَـتُّم في كلامي، صِرتُم في الحَقيقةِ تلاميذي، تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم« (يوحنّا 8: 31 - 32)؛ المسيح، إذًا، هو أساس إيماننا ومعرفتنا العلائقيّة للَّه، للحقيقـة الإلـهيّة، »فإنَّـهُ لا يَستَطـيعُ أحَـدٌ أنْ يَضَـعَ أساسًًا آخَرَ غَيرَ الَّذي وُضِعَ، الَّذي هو يَسوعُ المَسيح« (1كورنثوس 3: 11). من هنا، إنّ دور التراث هو أن يضعنا في خطّ الحقيقة الإلهيّة، بوضعنا في خطّ الوحدة مع المسيح. أمّا كمال معـرفتنا لمقـاصد اللَّه ولعمـله في الكـون (وهـذان جـزء مـن الحقيقـة الإلـهيّة)، وكمـال التعبيـر عـن الحقيقـة الإلـهيّة (عن العقيدة كما وعن مقصد اللَّه وعمله(2))، وكمال معرفتنا للمسيح‑الحقّ (أساس الإيمان)، فهي كمالات أمـامنا دائـمًا، أو بتعبير أدقّ هـي خبرة حاضرةٌ وديناميّةٌ "تمتدّ إلى الأمام(3)؛ فاللَّه هو أوسع وأشمل من كلّ ما نعرفه ونكتشفه عنه، والعلاقة معه سرّ محبّة لا قعر لها.
الحقيقة هي المسيح، فهو »الطريق والحقّ والحياة«. ولكن إن كان هو الحقّ، فهو أيضًا الطريق، أي أنّ العلاقة معه، »معرفته«، هي مسيرة حياة، وليست جمودًا وانخطافًا إلى الماضي، وتأبيدًا للماضي ولتعابير الماضي. الماضي يحمل حقيقة يسوع، ولكن لا يكشف كلّ أوجهها. التقليد يحمل الحقيقة الإلهيّة كنزًا في آنية خزفيّة (2كورنثوس 4: 7)، وفي الحاضر يمكننا نحن أيضًا أن نحمل هذه الحقيقة، فنعبّر عنها، ونكتشف أوجهًا جديدة منها (مثل قصد اللَّه، وآثار عمله)، ولكن نحملها ونكتشف »في آنية خزفيّة«، فنحن أيضًا لا نحمل الحقيقة كاملة. ويأتي بعدنا من يسير في خطّ كشف الحقيقة الإلهيّة ذاته، إلى أن يأتي كمال الملكوت الحاضر، فيزيل اللَّه الحجب، ونراه وجهًا لوجه وليس كما في لغز. وحتّى في ذلك اليوم، لن نحيا من الحقيقة الإلهيّة إلاّ ما يسمح به وضعنا كمخلوقين أن نحياه (فالجوهر الإلهيّ سيبقى خارج أيّ نوع من أنواع الإدراك البشريّ).
الحقيقة الإلهيّة ليست محصورة
بل حياة في كنف الروح القدس
هكذا، فالحقيقة الإلهيّة ليست محصورة، فهي حياة في المسيح، والمعرفة الحقيقيّة الممكنة هي معرفة العلاقة به. المسيح لا يحصره الكتاب المقدّس ولا الماضي، ولهذا الآباء ارتكزوا على الكتاب، ولكن أيضًا على الليتورجيا، وعلى كتابات من سبقوهم، وعلى الكنيسة كحاملة للحقيقة، وعلى الفلسفة وعلوم عصرهم، وارتكزوا أوّلاً على إرشاد الروح القدس الذي فيهم، وعلى صورة اللَّه التي فيهم (من عقل وحرّيّة)، لكي يكتبوا، بتعابير جديدة، عن الحقيقة الإيمانيّة التي يحملها التقليد. وهم، رغم إخلاصهم، وقعوا، أحيانًا، في أخطاء وغموض في التعابير، لكنّ هذا لم يخفّف شيئًا من مساهماتهم اللاهوتيّة وقداستهم (من منّا يوافق النيصصيّ اليوم على رأيه في وجود شيء من مطهر بعد القيامة، أو رأيه، الشبيه برأي أوريجنّس، في حتميّة خلاص الجميع في الملكوت بعد فترة تطهّر بالآلام(4)).
الحقيقة الإلهيّة لا يحصرها زمن، ولا مكان، ولا خبرة، لقد أُعطِيَت للبشر في المسيح، ونتقدّم مكتشفينها في الطريق الذي هو المسيح، في كنف الروح القدس، في الكنيسة. وقولنا هذا ينسجم مع ما تعلّمناه من الآباء. فقد كان النزينزيّ، مثلاً، يرى أنّ يسوع المسيح علّم التلاميذ بتدرّج، وأنّه كشف ألوهة الروح القدس بتدرّج إلى أن كُشِفَت هذه الحقيقة الكاملة من قِبَل الروح القدس نفسه بعد القيامة والعنصرة. وأشار النزينزيّ إلى أنّ هناك تعاليم وحقائق أخرى يكشفها اللَّه لنا بتدرّج(5).
ضرورة التمييز بين المحدود واللامحدود
نعتقد بأنّ هناك تمييزَيْن قد يساعداننا على جلاء رؤيتنا في موضوع التقليد الكنسيّ، ألا وهما:
١- التمييز بين الحقيقة الإلهيّة التي لا يمكن حصرها، وكلماتنا وتعابيرنا وفهمنا المحدود لها.
٢- والتمييز بين فهمنا المحدود للحقيقة الإلهيّة، والأسلوب التعبيريّ المحدود عن فهمنا المحدود.
هذان التمييزان يُصالحان بين الماضي والحاضر، ويجعلاننا ننظر إلى التراث-التقليد كأمر نستلمه ونجدّده بشكل دائم، وضروريّ. فالتمييز بين الحقيقة الإلهيّة وفهمنا المحدود لها يعني أنّ علينا دائمًا أن »نمتدّ إلى الأمام« كي نفهم الحقيقة بشكل أوضح وأعمق، وتاليًا علينا أن نقبل بأنّه يمكننا ككنيسة أن نكتشف، في حاضرنا وماضينا، أوجهًا للحقيقة، لـ»للإيمانِ المُسَلَّمِ مَرَّةً للقِدّيسين« (يهوذا 1: 3)(6)، لم تكن قد بدت لنا وللآباء قبلنا. أمّا التمييز بين فهمنا المحدود للحقيقة الإلهيّة والأسلوب التعبيريّ المحدود عمّا فهمناه، فيدفعنا إلى استخدام تعابير جديدة (أساليب) لا تخون فهمنا الأساس (المعاني، العقائد) للتراث.
أحيانًا، نقرأ دعوات إلى التواضع أمام نتاج الآباء على أساس أنّهم قدّيسون، وعلى أساس أنّنا يجب أن نشعر بالمحدوديّة أمام عظمة الآباء؛ وبأنّ الآباء ليس لديهم آراء بل تعليم، وبأنّنا، تاليًا، يجب أن نقبل كلّ ما قالوه لأنّه فكر المسيح. دعوات كهذه على ما يبدو فيها ظاهريًّا من صحّة، هي دعوات ملتسبة جدًّا وغير صحيحة؛ إذ عدا أنّها لا تقيم اعتبارًا للتراث الأرثوذكسيّ الذي يقرّ بوجود آراء لاهوتيّة قابلة للنقاش في الكنيسة ما دامت لا تطاول العقيدة؛ فإنّها تقيم تقابلاً بين »محدوديّة« من جهة (جهتنا) و»عظمة« من جهة أخرى (جهة الآباء)؛ أي أنّها لا ترى محدوديّة في نتاج الآباء، بل عظمة تامّة (ولهذا يقابل أصحاب هذا الرأي عظمة الآباء بمحدوديّتنا). لكنّ الحقيقة هي أنّ كلّ صنع بشريّ ولو أنّه بإلهام من الروح، يبقى محدودًا، ولا يوجد سوى اللَّه غير محدود؛ لذا فتراث الآباء هو محدود بطبيعته(7).
النظرة إلى نتاج الآباء، على أنّه لا محدود، نظرة تخلط بين اللَّه كمطلق، والنتاج الإنسانيّ‑الإلهيّ كتآزر (سينرجيّة)، والذي هو محدود بالطبيعة، يحمل الكنز في آنية من خزف، ولهذا يختلط فيه الكنز بطينٍ علق من ثقافة العصر ومن محدوديّة الإنسان كمخلوق. المشكلة في نظرةٍ كهذه إلى التراث هي أنّها نظرة مونوفيزيّة (من دون أن يدري أصحابها)؛ فهي نظرة تبتلع الإنسانيّ في الإلهيّ، إذ تظنّ أنّ حضور اللَّه في الآباء يلغيهم ويبتلع محدوديّتهم، والـواقـع أنّ للآبـاء نفـسًا بشـريّة محـدودة بطبيعتها، ومعقّدة، ويعتريها النقصان رغم قداستها، وللآباء لغة محدودة بقدرتها على التعبير عن الحقيقة الإلهيّة، ومحدودة بمعرفتها المحدودة لحقائق هذا الكون المحدودة أصلاً.
إن كان الخطر عند الناس البعيدين عن الكنيسة هو تأليه العلوم، فالخطر عند المخلصين الذين هم في الكنيسة يأتي من الانزلاق إلى تأليه التقليد، ونسيان أنّه في النهاية نتاج إنسانيّ‑إلهيّ. التقليد الذي تسلّمناه كنتاج إنسانيّ‑إلهيّ، هو تعبير محدود عن الحقيقة الإلهيّة، وهذه الحقيقة تبقى أشمل وأوسع من التعابير المختلفة عنها. التقليد الكنسيّ هو تقليد حيّ، هو التيّار الحيّ للروح القدس الذي لا يمكننا أن نجمّده نهائيًّا في تعابير وأفكار. النيصصيّ كان واضحًا بقوله إنّ »الأفكار(عن اللَّه) تنشئ أصنامًا، وحده الذهول يُدرِكُ شيئًا«؛ الأفكار ليست اللَّه، والعقيدة المعبّر عنها في الكلمات هي، في النهاية، تعبير فكريّ (رغم أنّ العقيدة يجب أن تكون مُعاشة حياةً متجسّدة في كنيسة الروح القدس).
لقد شدّد التقليد الكنسيّ على اللاهوت التنزيهيّ الذي يرفض كلّ تحديد عن اللَّه، مع تشديده على اللاهوت الإيجابيّ الذي يتكلّم على اللَّه بتحديدات معيّنة (كأن نقول إنّ اللَّه محبّة). التقليد الذي تسلّمناه كنتاج إلهيّ‑إنسانيّ، هو محدود (أي لا يحوط بسرّ اللَّه الكامل)، اللَّه وحده لا محدود ولا يسعه شيء. حتّى التحديدات العقائديّة، وهي أكثر ما في التقليد حساسيّة بعد الإنجيل، كانت ضروريّة كي نعرف اليوم نحن بماذا نؤمن وندافع عن الإيمان القويم، كي نحفظ أسس الإيمان القويم، فنبقى بعلاقة مع اللَّه الحيّ. يجب أن نعيش التقليد (بما يحتويه من عقائد) علاقةً شخصيّة مع المسيح، في الروح القدس، في الكنيسة، وأن نعبّر عن هذه العلاقة، عن الحقّ الحاضر فينا ككنيسة، في اليوم الحاضر، بلغة الحاضر وأطر الحاضر ووسائل الحاضر.
إنّ دعوةً إلى الإحساس بمحدوديّتنا، أمام »عظمةٍ« للآباء تبدو ولكأنّها كمال، هي غير صائبة كنسيًّا. من هنا قولنا بأنّه يجب أن نميّز في التراث بين الإطار الذي يرتبط بتاريخ وحضارة محدودتين، والحقيقة الإيمانيّة، بين المحدود واللامحدود.
اكتشاف الحقيقة الإلهيّة يقتضي
القبول بمغامرة الحياة
لا شكّ في أنّ هذه الرؤية مُقلِقَة ومخيفة، لأنّ الأخطار تحتفّ بها، أخطار الأهواء التي يمكنها أن تحجب عنّا نور اللَّه(8). ولهذا نتفهّم مخاوف من يقرأ هذه السطور ومن يلجـأ إلى المـوقف اللاهوتيّ الذي يريد تجميد التقليد، لكن هذا التفهّم لا يعني موافقة، لأنّ ذلك الموقف خَطِر. علينا تجاوز الخوف، لأنّنا إن بقينا في الخوف نصير إلى عبـوديّة؛ لقـد شاركـنا يسـوع، طبيعتنا ليحرّر »الذينَ - خَوفًا مِنَ المَوتِ - كانوا جميعًا كُلَّ حَياتِهِمْ تحتَ العُبوديَّةِ« (عبرانيّين 2: 14 - 15)؛ هذا يجب أن يكون لنا رؤية.
علينا أن نتذكّر أنّ اللَّه نفسه ارتضى أن يخوض معنا غمار هذه المخاوف، إذ هو خلقنا مع علمه بأنّنا قد ننزلق إلى الخطيئة التي تشكّل خطرًا علينا، خلقنا اللَّه آخذًا على نفسه تبعات هذا الخطر، خطر رفضنا حبّه وتفضيلنا الخطيئة وانجرارنا إلى الأهواء، آخذًا على عاتقه مغامرة حبّه، مغامرة‑صليب؛ أوَ ليست الحكمة، ومحبّة اللَّه، تقتضيان إذًا أن نتشبّه به، فلا نرفض صليب مغامرة الإيمان، مغامرة العلاقة مع اللَّه، مغامرة الحياة، مع ما يحتفّ بها من إمكانيّة خطأ وأهواء؟ أو ليس قبولنا هذه المغامرة، يعني أنّنا نسير بهدى الروح على درب التشبّه باللَّه، على درب الكمال كما دعانا يسوع: »كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ كامل« (متى 5: 48)؟ أليس القبول بمغامرة المحبّة والإيمان والاكتشاف والإبداع، أي أسـاسًًا بمغامرة التوبة والحرّيّة، يكون بالفعل طاعـةً لإرادة اللَّه(9) الـذي أطلق مغامرة الخلق؛ بينما تكون الرغبة في تجميد الأمور خوفًا من المخاطر تشدّنا بعيدًا عن إرادته؟ أليست الرغبـة التي تدغدغنا، خوفًا من انحراف الإيمان، بأن نأخذ الإنسان بيده إلى مطلق أيّ مكان - مهما كنّا نراه جميلاً - بعد أن نقيّد حرّيّته وقدرته على التساؤل والإبداع، تشكّل تجربة انحيـاز لهـوى يوهمنا أنّنا هكذا نخلّص الناس بقوانا الذاتيّة، بوضعهم على سكّة مرسومة سلفًا، وبإعطائهم أجوبـة جاهـزة عـن كلّ الأسئلة شـرط أن يسلّمونا إرادتهم؟!
ما من معنى إيمانيّ لأيّة مسيرة تقيّد حرّيّة الإنسان وقدرته على الشكّ والتساؤل والبحث والحياة وتاليًا قدرته على المحبّة ذاتها. ما من معنى إيمانيّ لأيّة مسيرة يُستَلَبُ فيها الإنسان وتُقيّد فيه صورة اللَّه: الحرّيّةُ والعقلُ والقدرةُ على الخلق. لقد أوصى باسيليوس الكبير بضرورة استعمال العقل حيث لا نجد وصيّة إنجيليّة، أين نحن اليوم من رؤية كهذه؟
خلاصة
لا مجال لنا، إن كنّا نريد أن نكون أمينين لروحيّة الآباء وللبّ إيماننا، إلاّ أن نرتضي مغامرة الحياة، تلك المغامرة التي أطلقها اللَّه نفسه، مع ما يتضمّنها من إمكانيّة خطأ وصراع وتغيير. لا يمكننا أن نصل إلى نهاية الطريق من أوّلها، بل يجب أن نسير فيها. لا يمكننا أن نبلغ ما يمكننا بلوغه من كمال الحقّ من دون أن نسير في الحقّ، معتمدين على ما تحمله الكنيسة في تقليدها، ونؤوّنه إلى ما يبدو لنا من »الحقّ الحاضر« (2بطرس 1: 12)، في تجديد لاهوتيّ لا يخرج عن العقيدة. مميّزين بين المحدود واللامحدود، بين الكنز وخزف الآنية، ومتأصّلين في الحياة في كنف الروح، في الكنيسة، حسّاسين ومنتبهين »لما يقوله الروح للكنائس« (رؤيا 2: 7)، اليوم.l