حديد وقمر
أسعد قطّان
كان في كلّ مرّة يحاول استذكار الأمس البعيد ليستعيد، بدقّة، كيف صارت له حركة الشبيبة الأُرثوذكسيّة بيتًا، يلفي نفسه مترجّحًا بين شعوره بأنّ الماضي حفنة من الذكريات البخيلة، ما إن يقبض عليها حتّى تنفرط بين يديه مثل تلعة تراب، وبين يقينه بأنّ تاريخه مع الحركة، أي المشوار الذي حفرته هي في ذاته، هو، بمعنًى ما، الحاضر والمستقبل. لقد علّمته خبرته لا مع التاريخ وصحبه فحسب، بل مع الذاكرة البشريّة أيضًا، أن يكون حذرًا. فالمؤرّخون يتوهّمون أنّ في وسعهم إعادة تركيب الماضي في فسيفساء حجارتها أخبار الرواة، ويتخيّلون أنّ ثمّة حقيقةً تاريخيّةً ناصعةً يستطيعون حبسها في كتب سميكة. هم يطرّزون التاريخ في صفحات وسيعة، ولا يفطنون إلى أنّ الماضي ينسرب كالماء من بين كلماتهم، أو يهرب مثل فرس تحرث الريح. فالأحداث التي يحفظها لنا الرواة غالبًا ما تكون جزءًا يسيرًا من كلّ. وهي، في أيّ حال، منتقاة، وتشوبها دومًا ذاتيّة لا قِبَل لنا بتخطّيها، كما تتخلّلها رغباتُ البشر في تخيّل الأحداث كما يحلو لأهوائهم ويتّفق لشهوات قلوبهم. بلى! الحقيقة الكبرى هي الخيال لا الواقع. أمّا الذاكرة، فهي، كما كتب أحد كبارنا، »تنظيم النسيان«. واليسير الذي تحفظه، تنحته وتشذّبه، فنعود لا نعرف هل هذا هو الماضي كما اختبرناه، أم أنّه مجرّد التمنّي أن يكون الماضي مرآةً مصقولةً، أو قمرًا، حتّى لو أتت مادّته الخام حديدًا تافهًا. والحقّ أنّ الذاكرة البشريّة تحاول أبديّةً ما، أبعد من هذا التراب الذي منه خلايانا الرماديّة. فالإنسان قلبه في الأمداء كلّها، وكلّ صبوته أن يستلّ من المتغيّرات ما لا يتغيّر.
ماذا تحفن أيّها المتذكّر من ذرّات الماضي؟ وأيّ سنابل تحصدها، لتنقذها من براثن النسيان؟ أسأله فيسكت. الصمت كلامه الأبلغ. ثمّ يحنو على صمته لئلاّ يتكسّر، ويقول: الصبيّة التي دعتني، وأنا في الخامسة عشرة، إلى بيت الحركة، ابتلعتها أمواج الهجرة. لعلّها تختبئ اليوم في مدينة تلوّحها الشمس ويتكدّس الموز في حجرها، خلف شاطئ من شطآن العالم الجديد. والبيت الذي عرفته بيتًا، ما بقي كذلك. لقد التهمت لظى الحديد المحمّى، يلفظها فم الحرب الفاغر، خشبه القديم الداكن. وتحوّلت الكتب الصفراء، في المكتبة التي كنّا نزهو برفوفها العامرة المثقلة، إلى هباء رماديّ. حتّى الرجل الأهيف، الشامخ كالوتد، الذي أحبّ كتبها وسهر الليالي الطوال في تبويبها وتنسيقها، اقتلعه الموت من وسطنا. هل تذكر اسمه، سألته. ربّما كان اسمه سامي، قال، أو شيء مثل هذا، الأكيد أنّه كان اسمًا عربيًّا. والمدينة، ماذا عن المدينة، سألت؟ كان اسمها بيروت، قال، والتمعت قطرة في محجره الأيمن؛ كانت القطرة بلون الفضّة، أي بلون اللاشيء. المدينة كانت مقسّمةً آنذاك، ثمّ أسهب: لكنّي لا أعرفها إلاّ حلوة. مدرستي تغتسل بالأخضر، وتمشّط شعرها كلّ يوم، في زاوية من زواياها العتيقة. وبيوتها القديمة المشلّعة أطرافها بفعل الحرب تقول للدمار: أنا أقوى منك. ورائحة أزقّتها المسمرّة بالضوء تشفق على حملة السلاح الأغبياء، وتهتف بهم: هلمّ نتسامر ونلعب الورق! هوّنوا عليكم ثقل البواريد التي تحملونها. أتنوؤون بعبء السلاح، ولا يُثقلكم نضوح الدم؟ لكنّ المدينة اليوم عادت ليست مدينة صباي. هجرها معظم رفاقي في فرقة »الروح القدس« إلى غير رجعة، وأنا هاجرت وإيّاهم. والرأسمال الزاحف في مواكب رخاميّة تشبه الموت كشط عنها بيوتها العتيقة، وحوّل زواياها المضيئة إلى علب باطونيّة تناطح السماء، لكنّها لا تعرف معنى التشبّث بالأرض.
أويكون كلّ ماضيك هبابًا، أيّها المتذكّر؟ أوتكون الشموع، وأنت تعيّد عيدك السبعين، قبض ريح؟ ألم يبقَ من الأمس ما تتشبّث به اليوم، فلا يندثر؟ رأيته يلتقط قطعةً من حلوى العيد، ويدسّّها في فمه، يتملأّ سُكّرها بتؤدة، كأنّه يتذوّق قطرة نبيذ قديم، ثمّ يميل على ذاكرته ويداعبها لئلاّ تنجرح. كنت أذرع غرف بيت الحركة، قال، كمن اكتشف كنـزًا خبيئًا في حقل. فاستبدل، لدى أصحاب الحوانيت وعند موائد الصيارفة، كلّ ما يملكه بمال وفر بغية ابتياع الأرض الموعودة بتفجّر الذهب من رحمها. ذات يوم، اكتشفتُ في إحدى الزوايا كتابًا لعلّه »إله الإلحاد المعاصر« لمعلّم الأجيال في الحركة، كوستي بندلي. هفوتُ على السفر بنهم، وقرأته في يوم واحد، رغم أنّي لم أفهم كلّ شيء. كان سبب عدم الفهم، هنا وثمّة، نقص في تكويني المعرفيّ، لا شائبة في الأُسلوب الذي عُرف صاحبه بقدرته على السهولة وإمعانه في الوضوح. غير أنّ انحسار القدرة على الفهم أحيانًا لم يحُلْ دون أن يقتنصني هذا الفكر الناصع لا في إخلاصه لإنجيل المسيح فحسب، فهذا بديهيّ في كلام بني الحركة، بل في شموليّته المعرفيّة وقدرته على مخاطبة الفلسفة مخاطبة الندّ للندّ. في ما بعد، أدركتُ أنّ هذا إيّاه شأن آباء الكنيسة العظام يقبلون على الفلسفة حوارًا، ولا يتهيّبونها، لكنّهم لا يركنون لمسلّماتها، بل يقلّبونها فاضحين غثّها، ومغربلين ثمينها بشبكة الإنجيل، أي في ضوء ما يجعل الإنسان إنسانًا. وتلك كانت حالي أيضًا لدى احتكاكي الأوّل، في بيت الحركة البيروتيّ، بكتيّب عنوانه »إسرائيل بين الدعوة والرفض«. وكان هذا مدخلاً لا إلى اليهوديّة في أصالة أنبيائها القدامى والجدد وفي اختلافها عن الصهينة فحسب، بل إلى مقاربة الكتاب المقدّس أيضًا من زاوية أنّه كلام اللَّه ينسكب في قـالب إنسـانيّ يتشكّل بمعطيات البشر في حلّهم وترحالهم.
تفوّه المتذكّر بهذه الكلمات، ثمّ غرق في صمت غريب، وهو يشخص إلى الشموع التي لم تنطفئ بعد. فبادرته متحدّيًا: أُسائلك عن الحاضر اليوم من بقايا ماضيك، فأجدك تغوص في ذكرياتك، حتّى تكاد تنجرف إلى تناقض سافر مع ذاتك. ترثي لحال الماضي في ظرفيّته وتبدّله، ثمّ تشيّد من بعض ذكرياتك صنمًا تعبده في هيكل نفسك. ويسرقك الانصراف إلى الماضي من تفلّت الحاضر، من تفجّره، من تشظّيه حتّى عندما يتلألأ. لقد حرتُ في أمرك، وعدمتُ سبيلاً يسوقني إلى غور أفكارك. هلاّ أعطيتني كلمة! أوغل المتذكّر في تأمّله توهّج الشموع يستلّ منه توهّجًا في قلبه ولسانه، ثمّ فتح فمه وقال: التاريخ، في وضعيّة أحداثه، إن هو إلاّ قبض ريح، وحتّى أحابيل المؤرّخين عاجزة عن إسعافنا على التحرّر من جريانه. لكنّ الالتماع باقٍ على قدر ما يحفّزنا اليوم على توثّبات جديدة. صحيح أنّ الالتماع الحركيّ قائم في التاريخ، أو أنّه سائر إلى صيرورته جزءًا من التاريخ. فالمؤسّّسون معظمهم رحل عنّا، وكلامهم صيغ في قوالب فكريّة ربّما يستشعرها بعضنا غريبة. لكنّ الالتماع ليس من التاريخ. وهذا في وجهين: أوّلاً أن لا كلام أكثر آنيّة من إنجيل يسوع. والالتماع، مهما استغرق في الجدّة، مرتبط به. وثانيًا أنّ التوهّج القديم في تمثّله الإنجيل يحضّنا على توهّج جديد لا يقلّ عن القديم اغترافًا من هذا الإنجيل، ولا ينقص عنه إبداعًا. وهذا الإبداع مكانه اليوم وهنا، وغدًا وهناك. بهذا المعنى، التاريخ الحركيّ هو الحاضر والمستقبل، أعني تاريخ الفكر المبدع الذي اغتذى من إنجيل يسوع وأفصح عنه، لا تاريخ الأشخاص من حيث هم إلى زوال، تكتنفهم نواقص البشريّة وتعتريهم سقطات هذا التراب. القمر، يا صاح، إذا كان ثمّة قمر، لا يكمن في مادّة الحديد، بل في التماعه وتوهّجه!
نطق المتذكّر بعبارته الأخيرة هذه، ثمّ أقفل عينيه على ذكريات عالم لم يبقَ منه إلاّ قبضة غبار تكاد لا تُحفن بأصابع اليد الواحدة من فرط جريانها. أمّا أنا، فحملقتُ في الشموع السبعين المصطفّة كأنّها عربون عالم يولد. كانت ما تزال ترخي بنورها على الأشياء جميعها في تلك الغرفة المغلّفة بالعتمة، فلا يزيدها الديجور إلاّ توهّجًا!l