تأمّلات في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة اليوم
لمناسبة عيدها السبعين
المطران سابا إسبر
في أثناء زيارتي مؤخّرًا أحد المراكز الحركيّة، طلب شابّ لم أكن أعرفه من قبل، أن يجتمع بي، وسألني عن مفهومي لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، لأنّه قال إنّه لم يتمكّن، بعد بضع سنين من الالتزام في صفوفها، من معرفة هويّتها الحقيقيّة، مع أنّه طالع العديد من الوثائق الصادرة عنها، من مبادئ، وشرح لها، ونصوص مختلفة تصف رؤيتها وتطلّعاتها. فاستغربت هذا القول، وسعيت لأن أفهم حقيقة منطلقاته. فقال إنّه وجد كلّ ما قرأه ذات طابع عموميّ، لا يدخل بالخصوصيّات، ولا يرسم »خطّة« واضحة أو منهجًا، أو ينقصه »إيدولوجيا« تمكّن غير »النخبة« (هكذا قال) من فهمها واتّباعها.
انطلاقًا من ممارسة النقد الذاتيّ الذي عوّدتنا إيّاه الحركة، سعيت لأن أجد ما يمكن أن يكون مختبئًا وراء مثل هذا القول، وربطه بوجود رؤية للحركة ينقصها الصفاء والعمق، هنا وهناك، وتمييعها بجعلها مجرّد مدرسة للتعليم مفرغين الممارسة الحركيّة أحيانًا من روح التكريس والالتزام والنبوّة، ومن التطلّع نحو نهضة شاملة للكرسيّ الأنطاكيّ، كلّ هذه الأمور التي ما زالت تشكّل، إلى التعليم، معالم الهويّة الحركيّة عند معظم أعضائها. مهما كان الدوافع، لم أرتح أبدًا إلى هذا الواقع.
فمن الواضح أنّ الحركة، بالنسبة إلى العديد من أعضائها وبعض الشعب الأرثوذكسيّ، هي أساسًًا، »معلّمة للأولاد« (مع احترامي الفائق لتلك الصفة وهذه المسؤوليّة الضروريّة)، وتخفى عنهم، خارج هذا الطابع التربويّ، الآفاق الواسعة التي عاش عليها المؤسّّسون، والتي ما تزال حاضرة اليوم عند الكثيرين من الإخوة الحركيّين وكثيرًا من الشابّات والشبّان اليافعين الذين أتّعظ دومًا لجدّيّة التزامهم كلّما أُعطي لي أن ألتقي بهم. وأشكر الربّ الذي، رغم ضعفات أعضاء الحركة وحملات الافتراء الكثيرة عليها، يلهمهم استمرار العمل في سبيل نهضة كنيسة أنطاكية.
ويرجع، غالبًا، مثل هذا الشعور إلى أسباب عدّة، سوف أتوقّف عند بعضٍ منها.
هل من حاجة بعدُ إلى الحركة؟
أعرف أنّ من قابل الوضع الأنطاكيّ الحاليّ والوضع الذي كان سائدًا منذ سبعين عامًا، عند انطلاق الحركة، لا بدّ له من أن يلاحظ النهضة الحقيقيّة التي تمّت في بعض صعد الحياة الأنطاكيّة وأن يغتبط لها. ممّا سوف يلاحظ، بصورة خاصّة، ارتفاع المستوى العلميّ لأعضاء الإكليروس وفي بعض الأحيان تزايد همّهم الرعائيّ، وأيضًا تكاثر المؤسّّسات التربويّة والصحّيّة والاجتماعيّة الأرثوذكسيّة التي قامت في عدد من أبرشيّاتنا. ومع الشكر الواجب للَّه على كلّ هذه الإنجازات وغيرها والدعاء لمَن قام بها، ومع الإقرار بأنّ جزءًا لا بأس به من هذه النهضة كان نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لرؤية الحركة والورشة التي أطلقتها في مطلع الأربعينات من القرن الماضي، يمكن أن يخطر على بال البعض التساؤل إن كانت الكنيسة الأنطاكيّة الناهضة هكذا ما تزال تحتاج إلى الحركة. ويمكن الاعتبار أنّه يوجد اليوم مَن »يعلّم الأولاد« ويهتمّ بالعباد، وأنّ دور التوعية والتعليم الذي قامت به الحركة منذ انطلاقتها يقوم به اليوم أساقفة وكهنة ورهبان غيورون، مع الملاحظة أنّ عددًا غير يسير منهم »تخرّج« في صفوف الحركة.
وقد تطرّق المرحوم قدس الأرشمندريت إلياس (مرقس)، في خطاب ألقاه في بدء الحركة، إلى هذا الموضوع متسائلاً إن كان سيأتي يوم تزول فيه الحركة، لأنّ الكنيسة لن تبقى بحاجة إليها. وكان جوابه أنّ رؤية الحركة الأصيلة ستظلّ ضروريّة للكنيسة طالما وُجد شباب وشابّات تنجرح قلوبهم بمحبّة الربّ وإخوته والبيعة التي تجمعهم، ويكونون مستعدّين لغسل أرجل الناس، في الكنيسة وخارجها، كما فعل سيّدهم. وذكّر بضرورة انفتاح كنيسة المسيح الدائم على حرّيّة هبوب الروح التي يسائل كلّ تمأسس فيها، وضرورة تمييز المواهب التي يضعها الروح في شبابها وعلمانيّيها وتشجيعها، والتجاوب مع تحدّياتهم بغية أن تكون الكنيسة دومًا متلألئة بنور رئيسها، رغم خطايا أعضائها. وكذلك أن تكون، في عالم يخضع للقوّة والسلطة والعنف، حاضنة حرّيّة أبناء اللَّه فيها وللشركة والشورى الواجبة بين أعضاء شعب اللَّه كافّة، فتشهد إذذاك أنّ محبّة ربّها تسودها.
لكن، لا بدّ من الملاحظة أنّ بعض أساقفة الكرسيّ الأنطاكيّ لا يوافق على هذه الطروحات، إذ تدلّ بعض التصرّفات والأقوال على إرادة لجم عمل العلمانيّين، وبخاصّة الشباب وحصر أعمال التوعية والتعليم والبشارة بهم وبكهنتهم، مرتكزين على منطوق السلطة والطاعة الذي يجب، برأيهم، أن يسود علاقات الإكليروس والعلمانيّين. فيُدخلون بذلك، خلافًا للتقليد الأرثوذكسيّ الصريح، تجزئة مصطنعة في جسد المسيح، بين كنيسة تعلّم (الإكليروس) وكنيسة تتعلّم (العلمانيّين)، بينما يعلّمنا الكتاب المقدّس، في عهده الجديد، أنّنا كلّنا إخوة ومساهمون جميعًا في خدمة جسدنا المشترك، جسد المسيح الذي يجمعنا، ويحثّ كلّ واحد منّا، حسب موهبته، وفي شركة مع سائر الإخوة، وفي طليعتهم الأسقف، الذي هو الأوّل بين إخوة متساوين، على تسخير طاقاته لنشر كلمة اللَّه في عالم هو الآن في أشدّ الحاجة إليها، إذ الويل لنا إن لم نبشّر.
أمّا السبب الثاني لتساؤل البعض عن الحاجة إلى الحركة، فيتعلّق بسياسة رسمتها الحركة في طليعة السبعينات من القرن الماضي، تتمحور حول مقولة إنّ »النهضة، بعد أن كانت تأتي »من تحت«، أي من الشعب، ستأتي الآن »من فوق«، أي من الأساقفة والمجمع المقدّس«. ورافقت هذه المقولة اعتلاء السدّة الأسقفيّة عدد ممَّن عايش المسيرة الحركيّة. فبدل أن تستمرّ الحركة في أخذ المبادرة بغية النهضة، كما كانت تفعل في الماضي، ارتأت هذه السياسة أن يخفت صوتها في المطالبة في الإصلاح، تاركة هذا الشأن إلى المجمع. ومع تبنّي المجمع، في مطلع السبعينات من القرن الماضي، مبدأ المشاركة بإقراره قوانين المجالس (على صعيد الرعيّة والأبرشيّة والكرسيّ الأنطاكيّ) رأت الحركة أنّ من واجبها، إضافة إلى متابعة أعمالها التربويّة الداخليّة ونشر الفكر الأرثوذكسيّ بواسطة مجلّتها ومنشوراتها، أن تشجّع أعضاءها على الانخراط في المجالس الرعويّة المختلفة، عند تأليفها، وهكذا نشر مبادئها عبر المؤسّّسة في الكنيسة، بحيث ينبع العمل النهضويّ في كلّ مجالات الحياة الكنسيّة من هذه المجالس.
ولكن، ويا للأسف، ضاعت فرصة ذهبيّة إذ قضت أسباب خارجيّة (الحرب اللبنانيّة لفترة من الزمن)، وأخرى داخليّة (عدم اقتناع المطارنة بقوانين 1972 التي أقرّوها، حتّى بعد تعديلها على أيديهم في 1993، بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة، والإحجام عن تطبيقها، رغم العديد من المراجعات).
سبّبت سياسة الحركة في انتظار مبادرات نهضويّة »من فوق« والاستعداد لدعمها عند صدورها، شبه انقطاع لصوت الحركة النبويّ، الذي كان قد تعوّد العباد سماعه والركون إليه، والذي جعلهم لسنين طوال يتجنّدون لتلبية نداءه في خدمة البيعة.
وتسبّب، من جهة أخرى، عدم استجابة المطارنة لضرورة تطبيق قوانين المشاركة، إضافة إلى نظريّات البعض المستحدثة في التفرقة بين الكهنة والعلمانيّينن، في خلق هوّة تتزايد بين أبناء الكنيسة ورعاتها، لشعور عدد كبير من الأبناء أن لا مجال لهم في المساهمة في شؤون العائلة، ولا مَن يسأل عن آرائهم.
وقد زاد الوضع سوءًا، ظهور شياطين كنّا تصوّرنا أنّها أُبيدت، فنراها تعود وترفع الرأس وتعبث شرًّا في مجالات عدّة من الحياة الكنسيّة. لن أذكر هنا مَن هم الفاعلون، لكن، ويا للأسف، أضحت هذه الأمور أحاديث الصالونات، ويعرفها الداني والقاصي، ولأنّ الحركة لم تعوّدنا الثرثرة ونشر غسيلنا الوسخ على الملأ. ولكن، وممّا لا شكّ فيه، أنّ الكثيرين من أبناء الكنيسة الغيورين، »هؤلاء الصغار«، يتألّمون لكون الفساد الأخلاقيّ والإداريّ والتعليميّ يعشّش في قدس الأقداس، ولانخفاض الهمّ البشاريّ العامّ وعدم السعي الجدّيّ لمواجهة تحدّيات العالم المعاصر ومجتمع الاستهلاك الخطرة، ولانعدام روح الشورى والشعور بانفكاك الوحدة الأنطاكيّة، وانغماس الكنيسة في أوحال السياسات الطائفيّة وغيرها الدنيويّة البغيضة. كما يتعثّرون أمام شهوة البعض الظاهرة إلى المراكز والتسلّط. ويسود شعور عندهم أنّ روح المؤامرة والتحزّب لهذا وذاك من البشر، رغبة في السلطة، الذي عرفناه في القرن الماضي والذي سبّب في جسم الكنيسة الانشقاقات التي لم ننسها بعد، يسيطرمجدّدًا على اجتماعات المجمع الأنطاكيّ. ولا بدّ لي من أن أذكر، في هذا الصدد، أنّ العديد من الأرثوذكسيّين كانوا يتّهمون، في أيّام انطلاق الحركة، بعض رؤساء كهنتهم بالانتماء إلى جمعيّات سرّيّة غير دينيّة، ثمّ عدنا لا نسمع مثل هذه التهم لفترة طويلة، وإذ بنا الآن نعود فنسمعها. فهل هي إشارة أخرى إلى روح المؤامرة، واستعداد البعض للتحالف مع الشيطان للوصول إلى مآربه، علمًا أنّ القوانين الكنسيّة تمنع، منعًا باتًّا، الإكليريكيّ من أن ينتمي إلى جمعيّات سرّيّة، وإذا فعل، يُخلع.
وقد أدّى، مؤخّرًا، هذا الوضع، غياب المبادرات التطبيقيّة لقوانين المشاركة الأنطاكية، إلى بزوغ تجمّعات أرثوذكسيّة مختلفة، من كلّ حدب وصوب، تدّعي الدفاع عن أصالة الفكر الأرثوذكسيّ. وفي هذه التجمّعات، قال اللقاء الرعائيّ الأرثوذكسيّ، الذي تأسّّس قبل ما يقارب السنتين بمبادرة من الحركة، والذي يضمّ أشخاصًا أرثوذكسيّين كثيرين من كلّ الأبرشيّات الأنطاكيّة لا ينتمون إلى صفوفها، في إحدى رسائله الموجّهة إلى الأرثوذكسيّين، ما يلي:
»لا شكَّ في أنّه قد لفتَت انتباهكم ظاهرة نشوء تجمّعات ولقاءات ورابطات وجمعيّات وجبهات عديدة، في السنوات الأخيرة، تدعو كلّها، بتعبير أم بآخر، وبخلفيّات فكريّة أو تطلّعات اجتماعيّة مختلفة، إلى تعزيز دور الكنيسة الأرثوذكسيّة أو إصلاح مؤسّّساتها أو الدفاع عن أمور الطائفة في لبنان والمشرق أو تفعيل النشاطات الثقافيّة والجماعيّة فيها، أو تطبيق القوانين الأنطاكيّة وانتخاب المجالس التمثيليّة إلخ...
»هذه الظاهرة تعبّر، بالتأكيد، عن حاجة الجماعة المسيحيّة الأرثوذكسيّة إلى الرعاية الصحيحة والدائمة، وعن شوق دفين لتعزيز الهويّة المسيحيّة الأرثوذكسيّة، وعن توق للتضامن والتآزر والتلاحم بين كافّة أبناء الكنيسة في عصر العولمة المقرونة، وللأسف، بظاهرة الفرديّة. هذه التجمّعات واللقاءات والرابطات والجمعيّات والجبهات، وإنْ كانت تثير عندنا أحيانًا تساؤلات حول أسبابها ومراميها، إلاّ أنّها مرآة حيويّة في الوسط الكنسيّ... اللقاء الرعائيّ الأرثوذكسيّ... يعتقد بأنّ هذه الظاهرة ما كانت لتحصل وتنمو وتزداد لو استوعب رعاتنا، في العقود الماضية، مطالب واقتراحات جماعة المؤمنين، واستشعروا، بما فيه الكفاية، بهواجسها المشروعة، واستشرفوا حاجاتها الروحيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والمدنيّة، واستبقوا صرختها بتأسيس ما يلزم من مؤسّّسات راعية وحاضنة.
»القوانين الأساسيّة والداخليّة القائمة في بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق ارتأتْ تأليف مؤسّّسات تمثيليّة للرعيّة على كلّ المستويات والصعد بدءًا من مجالس الرعايا في الكنائس وصولاً إلى المجلس الأنطاكيّ العامّ ومرورا بمؤتمرات الأبرشيّات ومجالسها الملّيّة. لكن المؤسف حقًّا هي ظاهرةُ إهمال هذه القوانين والازدراء بأولويّتها، وتاليًا تغييب المشاركة الصحيحة والفاعلة لأبناء الكنيسة في حياة كنيستهم«.
يتّضح من كلّ هذا أنّ الوضع إصلاحه ملحّ. لذلك لا يمكن غضّ النظر والسكوت. لا بدّ من انتفاضة بروح إنجيليّة لوضع اليد على الداء، وتجنيد كلّ الطاقات، بتعاون الجميع، لإيجاد الدواء. لا بدّ للحركة من أن تجنّد كلّ ما أُعطي لها من الروح لخدمة هذا الهدف المبارك، واستعادة قوّة صوتها النبويّ لتذكير الجميع بأنّ الربّ لا يرضى أن يكون في بيته »أيّ وهن وغضن وأيّ شيء مثل ذلك«. لا بدّ من تعاضد مطارح النهضة في الكنيسة كلّها، من رعاة ورعايا وأديرة وحركات، من أجل تحقيق هذا الهدف، ودعوة مَن أقامهم اللَّه على هذه الكنيسة أن يلتفتوا، بعطف ومحبّة، إلى ضعفات أبنائهم، ويكونوا لهم رعاة على مثال الراعي الصالح الذي يعطي ذاته من أجل الخراف. أرجو أن يسمع الشباب في الحركة هذه الصرخة، ويعيدونا إلى ورشة الإصلاح والنهضة، باحترام كلّيّ للمقامات والأشخاص، إنّما بثورة صاخبة على الشرّ في كلّ مواضع تعشّشه في كنيستنا.
وعودة منّي إلى مطلع هذه التأمّلات انطلاقًا من تساؤلات أخي الشابّ المذكور أعلاه، ومساهمة منّي في العيد السبعـين للحركة، الذي أرجو أن يكون عيد الانتفاضة المرجوّة، أضع في ما يلي تفسيرًا للمبادئ الحركيّة، يشدّد على ما هو ضمنيّ في المبادىء الستّة الأصليّة والذي أعتبر أنّه من الأفضل توضيحه، منعًا لأيّ إغفال أو التباس. وآمل أن يساعد أخانا الشابّ على فهم أفضل وأكثر وضوحًا لما تدعو إليه الحركة جميع الشعب الأرثوذكسيّ.
١- هويّة الحركة ودعوتها
هويّة الحركة الأساس هي الحياة في المسيح. نظامها الأوحد هو الإنجيل مترجمًا عطاء ومواقف. قانونها المحبّة والأخوّة وهمّ التبشير. وكلّ شيء آخر فيها ينبع من هذه المسلّمات. فتهدف، إذًا، الحركة الأرثوذكسيّة (كما أقترح أن تُدعى حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة من الآن فصاعدًا) إلى إيجاد تيّار نهضويّ داخل الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة، يدعو أبناءها جميعًا للالتصاق بيسوع المسيح وكنيستة والتجنّد لخدمتهما.
٢- العضو الحركيّ
الحركيّ هو مَن يسعى جاهدًا إلى أن يعيش في حضرة اللَّه الدائمة، و أن يتمثّل بالربّ يسوع، ويفتّش عنه باستمرار في كلّ مواضع سكناه، في الصلاة الخاصّة والجماعيّة، وحياة الأسرار، وتأمّل الكتاب المقدّس، واجتماع الإخوة المحبّ، وفي خدمة البشر الذي اختار الربّ أن يسكن فيهم. هذا الجهاد يجعل منه عضوًا فاعلاً في جسد المسيح، إذ لا يمكنه أن يكون مسيحيًّا إلاّ في انضمامه إلى بيعة المسيح وشركته بمَن أُقيم عليها من اللَّه، وبالإخوة جميعًا، والسعي إلى إصلاح أيّ اعوجاج في وطنه الأوّل، والحقيقيّ الذي هو كنيسة المسيح. فيكون هدفه الأساس إذًا في هذه الحياة، أن يتقدّس أوّلاً، ويجعل الناس، في الكنيسة الأرثوذكسيّة وخارجها، يكتشفون وجه الربّ ويعرفون أنّه يحبّهم. همّه أن يساعدهم على بلوغ هذا الهدف بتجسيده وصايا المسيح، ليس بالقول فقط، بل بخاصّة بالمناقب والخدمة وبذل الذات في المحبّة. هو يسعى إلى أن يكون محبّة، على شبه إلهه أو لا يكون شيئًا. وكذلك همّه تنصير النصارى بتعاليم ربّهم، وزرع ثقافة أرثوذكسيّة فيهم بواسطة شتّى أساليب التربيّة والنشر والإعلام الحديث.
٣- الحركة والكنيسة
الحركة تيّار مواهبيّ يحرّكه الروح في كنيسة المسيح، وهو متأصّل فيها. كلّ قطيع يتأصّل في المسيح يثبّته المسيح في جسده-الكنيسة، فلا يمكن أن يكون أبدًا إزاء الكنيسة. هو منها وموجود فيها، لأنّه ملتصق برأس الجسد، ويحيا به.
هذا الالتصاق يتمّ، بخاصّة، في القدّاس الإلهيّ، حيث يمارس كلّ من أبناء الكنيسة مع إخوته جميعًا، كهنة وعلمانيّين، سرّ الكهنوت الملوكيّ الذي يُقيم الجماعة المصلّية شفيعة عن الكون والخلائق، ويساهم في إيجاد الكنيسة وإظهارها، عندما يجتمع الإخوة، بإمامة أسقفهم، أو الكاهن الذي ينوب عنه، حول الربّ يسوع الآتي إليهم جميعًا في سرّ الشكر.
ويخوّل القدّاس الإلهيّ كلّ مَن يشترك فعليًّا فيه مسؤوليّة نقل البشارة السارّة إلى العالم، وخدمة كلّ من مات ابن اللَّه حبًّا لهم، فينتقل من سرّ المذبح إلى سرّ الأخ، كما يعلّمنا القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم.
ولهذه الأسباب السامية كلّها، ولكون القدّاس الإلهيّ مصنع الهويّة الأرثوذكسيّة الحقّ، تشجّع الحركة كلّ الأرثوذكسيّين على ألاّ يفوّتوا على ذواتهم نعمة الانخراط فيه، فيجدوا الزخم للقيام بخدمتهم للكنيسة والطائفة الأرثوذكسيّة.
ولا يمكن لمَن ذاق حلاوة الربّ وتعلّم على حرّيّة أبناء اللَّه المدعوّين إلى نعمة التبنّي والتألّه، أن يذوب داخل حدود الرعيّة، بل هو موجود، مثل الخميرة، لكي تحيا الرعيّة، ويصل أبناؤها إلى ملء قامة المسيح، فينفتحوا على الخدمة، وعلى حركة الروح في كنيسة الابن، لأنّه يؤمن بأنّ الروح هو محرّك المواهب، فيرفض، إذًا، كلّ بعد وتفرّج، وتاليًا كلّ تمأسس متحجّر في الكنيسة، وكلّ رداء، لا يتماشى مع طبيعتها، يلبسها إيّاه أبناؤها .
وكذلك لا يمكن مَن عرف أنّ ربّه يسكن في الفقير والمريض والمأسور والغريب والمضطهد، ألاّ يتجنّد في خدمة هؤلاء وجعلهم أسيادًا في كنيسة المسيح. من هنا أهمّيّة العمل الطبّيّ والاجتماعيّ الذي تقوم به الحركة، إذ تعتبره من صلب رسالتها.
ولا يمكن أيضًا لكلّ مَن يأكل جسد الربّ ويشرب دمه، ويطّلع على مثل هذه المسؤوليّات، أن يذوب في حــدود طائفـة منغلقـة عـلى ذاتها، مدافعة فقط عن حقوقها، بل يعتبر من واجباته الدفاع عن كلّ الذين أحبّهم ربّه. لذلك ترفض الحركة المنطق الطائفيّ الضيّق، مع اعتبارها أنّ أبناء الطائفة الأرثوذكسيّة هم »القريب« الأوّل الذي وضعه السيّد في طريقنا، وعليها المساهمة في توحيدهم ودعوتهم إلى الانخراط في جمالات الكنيسة ونعمها.
٤- الحركة والوحدة والتعاون بين المسيحيّين
لكون كنيسة المسيح واحدة ووحيدة، وأنّ الربّ يسوع دعانا إلى الوحدة »لكي يؤمن العالم«، تعتبر الحركة أنّ خصامًا أو انشقاقًا داخل الكنيسة، أو بين الجماعات المسيحيّة المختلفة، هو جرح، عليها أن تساهم مساهمة متواضعة وجادّة في تضميده. وممّا يتطلّب هذا الهمّ العمل الدؤوب لصون وحدة الكرسيّ الأنطاكيّ، بتشجيع الحوار بين أبرشيّاته كافّة، وتشجيع الاتّصالات المحبّة والهادفة بين أبنائها، وبخاصّة الشباب، لتجسيد الأخوّة بينهم، وتجنيدهم في ورشة الإصلاح والنهضة.
كذلك يقتضي هذا الهمّ توطيد علاقة الكرسيّ الأنطاكيّ مع سائر الكنائس الأرثوذكسيّة، والعمل على استعادة الدور الطليعيّ الذي قام به هذا الكرسيّ في التاريخ القديم والحديث في المساهمة في رفع التحدّيات الكثيرة التي تواجه الكنيسة الأرثوذكسيّة بعامّة. لذلك تعتبر الحركة أنّ انتماءها إلى الرابطة العالميّة لحركات الشباب الأرثوذكسيّة، سيندسموس، التي كانت عضوًا مؤسّّسًا لها، ومشاركتها الفاعلة في نشاطاتها، كما في نشاطات رابطات أرثوذكسيّة أخرى في الشرق الأوسط، واجب عليها.
وتعتبر الحركة أيضًا من واجباتها السعي لإعادة اللحمة والأخوّة مع شباب الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة، السريانيّة والأرمنيّة والقبطيّة والحبشيّة، والصلاة أن يلهم الربّ رعاتنا في رفع العوائق التي تعترض طريق الشركة التامّة معها.
وتعمل الحركة على تشجيع الحوار الهادف مع المنظمّات الشبابيّة الفاعلة في الكنائس الشرقيّة المنتمية إلى الكنيسة الكاثوليكيّة الروميّة، لاستنباط التراث المشترك والاستفادة من الخبرات المتبادلة، والشهادة المشتركة.
وكذلك تشجّع الحركة العمل مع المنظّمات المسكونيّة، كالاتّحاد العالميّ للطلاّب المسيحيّين، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، من أجل السعي لإيجاد قاعدة مسيحيّة مشتركة في عالمنا المشرقيّ، ومتابعة المبادرات المسيحيّة في العالم والاستفادة منها.
٥- الحركة والإنسان والمجتمع
تعتقد الحركة أنّ الحياة ليست »عبثيّة، بل هي تقدمة وخدمة ومشاركة وهي ورشة للملكوت الآتي« (كوستي بندلي). فيرتكز مبدأ الحركة، في العلاقة مع الآخرين، على أنّ محبّة الإنسان تمنع أن نحوّله إلى شيء، بل يجب أن نشهد أنّه كيان شخصيّ لا يمكن التلاعب فيه وفي مصيره، بل إكرامه واحترامه وخدمته، إذ هو مخلوق على صورة اللَّه ومثاله.
وبما أنّ اللَّه محبّة، على الإنسان، في سعيه للوصول إلى المثال، أن يعزّز المحبّة فيه، ونحو الآخرين، إذ لا يتحقّق بدونها المثال الإلهيّ أبدًا. وبما أنّ اللَّه شركة بين أشخاص (أقانيم) ثلاثة، على الإنسان أن يتعالى عن الفرديّة ليصبح شخصًا إنسانيًّا، على صورة الشخص الإلهيّ الذي تجسّد، أي يسوع، الإله الإنسان، الذي هو المثال الأعلى للشخص الإنسانيّ. وبما أنّنا مدعوّون إلى أن نتمثّل بيسوع، علينا أن نسعى، في كلّ أيّام حياتنا، إلى أن نصبح كيانًا شخصيًّا مشابهًا به، أيّ فريدًا وغير منفصل، في آن، عن اللَّه والبشر.
هكذا، رغم شركته مع الآخرين، يبقى الشخص البشريّ فريدًا، ومغايرًا كلّيًّا عنهم في سرّه. يبقى هذا »الشخص في الشركة« حرًّا أن يكون مختلفًا، في كينونته الخاصّة. هو فريد بالكلّيّة، لا يخضع لقوالب محدّدة، تقولبه على شاكلة الآخرين، مع أنّ فرادته الحقيقيّة لا تظهر ولا تنمو إلاّ بعلاقته بهم. لا توجد »الأنا«، بالنسبة إليه، إلاّ إذا كانت متّصلة »بالأنت«، علمًا أنّ ميّزات كلٍّ من »الأنا« و»الأنت« تبقى فريدة وخاصّة بكلٍّ منهما.
ولأنّها مرتبطة بالشركة، ليست حرّيّة الإنسان حرّيّة تجاه الآخر، بل حرّيّة من أجله. حدودها هي حرّيّة الآخر. يعيش الشخص البشريّ، إذًا، من أجل الآخر، ويكتمل كإنسان شخصيّ، ويتحقّق، بقدر ما يقبل الآخرين، معتبرًا إيّاهم أشخاصًا، لا أفرادًا. تحرّك محبّتي للآخر حرّيّتي. لا معنى للحرّيّة إن لم تكن مرادفة للمحبّة. لا يمكننا أن نحبّ إلاّ إذا كنّا كيانات شخصيّة، تسمح للآخر بأن يكون آخر بالحقيقة، مع بقائها على الشركة معه.
تأمّلات في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة اليوم
لمناسبة عيدها السبعين
المطران سابا إسبر
في أثناء زيارتي مؤخّرًا أحد المراكز الحركيّة، طلب شابّ لم أكن أعرفه من قبل، أن يجتمع بي، وسألني عن مفهومي لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، لأنّه قال إنّه لم يتمكّن، بعد بضع سنين من الالتزام في صفوفها، من معرفة هويّتها الحقيقيّة، مع أنّه طالع العديد من الوثائق الصادرة عنها، من مبادئ، وشرح لها، ونصوص مختلفة تصف رؤيتها وتطلّعاتها. فاستغربت هذا القول، وسعيت لأن أفهم حقيقة منطلقاته. فقال إنّه وجد كلّ ما قرأه ذات طابع عموميّ، لا يدخل بالخصوصيّات، ولا يرسم »خطّة« واضحة أو منهجًا، أو ينقصه »إيدولوجيا« تمكّن غير »النخبة« (هكذا قال) من فهمها واتّباعها.
انطلاقًا من ممارسة النقد الذاتيّ الذي عوّدتنا إيّاه الحركة، سعيت لأن أجد ما يمكن أن يكون مختبئًا وراء مثل هذا القول، وربطه بوجود رؤية للحركة ينقصها الصفاء والعمق، هنا وهناك، وتمييعها بجعلها مجرّد مدرسة للتعليم مفرغين الممارسة الحركيّة أحيانًا من روح التكريس والالتزام والنبوّة، ومن التطلّع نحو نهضة شاملة للكرسيّ الأنطاكيّ، كلّ هذه الأمور التي ما زالت تشكّل، إلى التعليم، معالم الهويّة الحركيّة عند معظم أعضائها. مهما كان الدوافع، لم أرتح أبدًا إلى هذا الواقع.
فمن الواضح أنّ الحركة، بالنسبة إلى العديد من أعضائها وبعض الشعب الأرثوذكسيّ، هي أساسًًا، »معلّمة للأولاد« (مع احترامي الفائق لتلك الصفة وهذه المسؤوليّة الضروريّة)، وتخفى عنهم، خارج هذا الطابع التربويّ، الآفاق الواسعة التي عاش عليها المؤسّّسون، والتي ما تزال حاضرة اليوم عند الكثيرين من الإخوة الحركيّين وكثيرًا من الشابّات والشبّان اليافعين الذين أتّعظ دومًا لجدّيّة التزامهم كلّما أُعطي لي أن ألتقي بهم. وأشكر الربّ الذي، رغم ضعفات أعضاء الحركة وحملات الافتراء الكثيرة عليها، يلهمهم استمرار العمل في سبيل نهضة كنيسة أنطاكية.
ويرجع، غالبًا، مثل هذا الشعور إلى أسباب عدّة، سوف أتوقّف عند بعضٍ منها.
هل من حاجة بعدُ إلى الحركة؟
أعرف أنّ من قابل الوضع الأنطاكيّ الحاليّ والوضع الذي كان سائدًا منذ سبعين عامًا، عند انطلاق الحركة، لا بدّ له من أن يلاحظ النهضة الحقيقيّة التي تمّت في بعض صعد الحياة الأنطاكيّة وأن يغتبط لها. ممّا سوف يلاحظ، بصورة خاصّة، ارتفاع المستوى العلميّ لأعضاء الإكليروس وفي بعض الأحيان تزايد همّهم الرعائيّ، وأيضًا تكاثر المؤسّّسات التربويّة والصحّيّة والاجتماعيّة الأرثوذكسيّة التي قامت في عدد من أبرشيّاتنا. ومع الشكر الواجب للَّه على كلّ هذه الإنجازات وغيرها والدعاء لمَن قام بها، ومع الإقرار بأنّ جزءًا لا بأس به من هذه النهضة كان نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لرؤية الحركة والورشة التي أطلقتها في مطلع الأربعينات من القرن الماضي، يمكن أن يخطر على بال البعض التساؤل إن كانت الكنيسة الأنطاكيّة الناهضة هكذا ما تزال تحتاج إلى الحركة. ويمكن الاعتبار أنّه يوجد اليوم مَن »يعلّم الأولاد« ويهتمّ بالعباد، وأنّ دور التوعية والتعليم الذي قامت به الحركة منذ انطلاقتها يقوم به اليوم أساقفة وكهنة ورهبان غيورون، مع الملاحظة أنّ عددًا غير يسير منهم »تخرّج« في صفوف الحركة.
وقد تطرّق المرحوم قدس الأرشمندريت إلياس (مرقس)، في خطاب ألقاه في بدء الحركة، إلى هذا الموضوع متسائلاً إن كان سيأتي يوم تزول فيه الحركة، لأنّ الكنيسة لن تبقى بحاجة إليها. وكان جوابه أنّ رؤية الحركة الأصيلة ستظلّ ضروريّة للكنيسة طالما وُجد شباب وشابّات تنجرح قلوبهم بمحبّة الربّ وإخوته والبيعة التي تجمعهم، ويكونون مستعدّين لغسل أرجل الناس، في الكنيسة وخارجها، كما فعل سيّدهم. وذكّر بضرورة انفتاح كنيسة المسيح الدائم على حرّيّة هبوب الروح التي يسائل كلّ تمأسس فيها، وضرورة تمييز المواهب التي يضعها الروح في شبابها وعلمانيّيها وتشجيعها، والتجاوب مع تحدّياتهم بغية أن تكون الكنيسة دومًا متلألئة بنور رئيسها، رغم خطايا أعضائها. وكذلك أن تكون، في عالم يخضع للقوّة والسلطة والعنف، حاضنة حرّيّة أبناء اللَّه فيها وللشركة والشورى الواجبة بين أعضاء شعب اللَّه كافّة، فتشهد إذذاك أنّ محبّة ربّها تسودها.
لكن، لا بدّ من الملاحظة أنّ بعض أساقفة الكرسيّ الأنطاكيّ لا يوافق على هذه الطروحات، إذ تدلّ بعض التصرّفات والأقوال على إرادة لجم عمل العلمانيّين، وبخاصّة الشباب وحصر أعمال التوعية والتعليم والبشارة بهم وبكهنتهم، مرتكزين على منطوق السلطة والطاعة الذي يجب، برأيهم، أن يسود علاقات الإكليروس والعلمانيّين. فيُدخلون بذلك، خلافًا للتقليد الأرثوذكسيّ الصريح، تجزئة مصطنعة في جسد المسيح، بين كنيسة تعلّم (الإكليروس) وكنيسة تتعلّم (العلمانيّين)، بينما يعلّمنا الكتاب المقدّس، في عهده الجديد، أنّنا كلّنا إخوة ومساهمون جميعًا في خدمة جسدنا المشترك، جسد المسيح الذي يجمعنا، ويحثّ كلّ واحد منّا، حسب موهبته، وفي شركة مع سائر الإخوة، وفي طليعتهم الأسقف، الذي هو الأوّل بين إخوة متساوين، على تسخير طاقاته لنشر كلمة اللَّه في عالم هو الآن في أشدّ الحاجة إليها، إذ الويل لنا إن لم نبشّر.
أمّا السبب الثاني لتساؤل البعض عن الحاجة إلى الحركة، فيتعلّق بسياسة رسمتها الحركة في طليعة السبعينات من القرن الماضي، تتمحور حول مقولة إنّ »النهضة، بعد أن كانت تأتي »من تحت«، أي من الشعب، ستأتي الآن »من فوق«، أي من الأساقفة والمجمع المقدّس«. ورافقت هذه المقولة اعتلاء السدّة الأسقفيّة عدد ممَّن عايش المسيرة الحركيّة. فبدل أن تستمرّ الحركة في أخذ المبادرة بغية النهضة، كما كانت تفعل في الماضي، ارتأت هذه السياسة أن يخفت صوتها في المطالبة في الإصلاح، تاركة هذا الشأن إلى المجمع. ومع تبنّي المجمع، في مطلع السبعينات من القرن الماضي، مبدأ المشاركة بإقراره قوانين المجالس (على صعيد الرعيّة والأبرشيّة والكرسيّ الأنطاكيّ) رأت الحركة أنّ من واجبها، إضافة إلى متابعة أعمالها التربويّة الداخليّة ونشر الفكر الأرثوذكسيّ بواسطة مجلّتها ومنشوراتها، أن تشجّع أعضاءها على الانخراط في المجالس الرعويّة المختلفة، عند تأليفها، وهكذا نشر مبادئها عبر المؤسّّسة في الكنيسة، بحيث ينبع العمل النهضويّ في كلّ مجالات الحياة الكنسيّة من هذه المجالس.
ولكن، ويا للأسف، ضاعت فرصة ذهبيّة إذ قضت أسباب خارجيّة (الحرب اللبنانيّة لفترة من الزمن)، وأخرى داخليّة (عدم اقتناع المطارنة بقوانين 1972 التي أقرّوها، حتّى بعد تعديلها على أيديهم في 1993، بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة، والإحجام عن تطبيقها، رغم العديد من المراجعات).
سبّبت سياسة الحركة في انتظار مبادرات نهضويّة »من فوق« والاستعداد لدعمها عند صدورها، شبه انقطاع لصوت الحركة النبويّ، الذي كان قد تعوّد العباد سماعه والركون إليه، والذي جعلهم لسنين طوال يتجنّدون لتلبية نداءه في خدمة البيعة.
وتسبّب، من جهة أخرى، عدم استجابة المطارنة لضرورة تطبيق قوانين المشاركة، إضافة إلى نظريّات البعض المستحدثة في التفرقة بين الكهنة والعلمانيّينن، في خلق هوّة تتزايد بين أبناء الكنيسة ورعاتها، لشعور عدد كبير من الأبناء أن لا مجال لهم في المساهمة في شؤون العائلة، ولا مَن يسأل عن آرائهم.
وقد زاد الوضع سوءًا، ظهور شياطين كنّا تصوّرنا أنّها أُبيدت، فنراها تعود وترفع الرأس وتعبث شرًّا في مجالات عدّة من الحياة الكنسيّة. لن أذكر هنا مَن هم الفاعلون، لكن، ويا للأسف، أضحت هذه الأمور أحاديث الصالونات، ويعرفها الداني والقاصي، ولأنّ الحركة لم تعوّدنا الثرثرة ونشر غسيلنا الوسخ على الملأ. ولكن، وممّا لا شكّ فيه، أنّ الكثيرين من أبناء الكنيسة الغيورين، »هؤلاء الصغار«، يتألّمون لكون الفساد الأخلاقيّ والإداريّ والتعليميّ يعشّش في قدس الأقداس، ولانخفاض الهمّ البشاريّ العامّ وعدم السعي الجدّيّ لمواجهة تحدّيات العالم المعاصر ومجتمع الاستهلاك الخطرة، ولانعدام روح الشورى والشعور بانفكاك الوحدة الأنطاكيّة، وانغماس الكنيسة في أوحال السياسات الطائفيّة وغيرها الدنيويّة البغيضة. كما يتعثّرون أمام شهوة البعض الظاهرة إلى المراكز والتسلّط. ويسود شعور عندهم أنّ روح المؤامرة والتحزّب لهذا وذاك من البشر، رغبة في السلطة، الذي عرفناه في القرن الماضي والذي سبّب في جسم الكنيسة الانشقاقات التي لم ننسها بعد، يسيطرمجدّدًا على اجتماعات المجمع الأنطاكيّ. ولا بدّ لي من أن أذكر، في هذا الصدد، أنّ العديد من الأرثوذكسيّين كانوا يتّهمون، في أيّام انطلاق الحركة، بعض رؤساء كهنتهم بالانتماء إلى جمعيّات سرّيّة غير دينيّة، ثمّ عدنا لا نسمع مثل هذه التهم لفترة طويلة، وإذ بنا الآن نعود فنسمعها. فهل هي إشارة أخرى إلى روح المؤامرة، واستعداد البعض للتحالف مع الشيطان للوصول إلى مآربه، علمًا أنّ القوانين الكنسيّة تمنع، منعًا باتًّا، الإكليريكيّ من أن ينتمي إلى جمعيّات سرّيّة، وإذا فعل، يُخلع.
وقد أدّى، مؤخّرًا، هذا الوضع، غياب المبادرات التطبيقيّة لقوانين المشاركة الأنطاكية، إلى بزوغ تجمّعات أرثوذكسيّة مختلفة، من كلّ حدب وصوب، تدّعي الدفاع عن أصالة الفكر الأرثوذكسيّ. وفي هذه التجمّعات، قال اللقاء الرعائيّ الأرثوذكسيّ، الذي تأسّّس قبل ما يقارب السنتين بمبادرة من الحركة، والذي يضمّ أشخاصًا أرثوذكسيّين كثيرين من كلّ الأبرشيّات الأنطاكيّة لا ينتمون إلى صفوفها، في إحدى رسائله الموجّهة إلى الأرثوذكسيّين، ما يلي:
»لا شكَّ في أنّه قد لفتَت انتباهكم ظاهرة نشوء تجمّعات ولقاءات ورابطات وجمعيّات وجبهات عديدة، في السنوات الأخيرة، تدعو كلّها، بتعبير أم بآخر، وبخلفيّات فكريّة أو تطلّعات اجتماعيّة مختلفة، إلى تعزيز دور الكنيسة الأرثوذكسيّة أو إصلاح مؤسّّساتها أو الدفاع عن أمور الطائفة في لبنان والمشرق أو تفعيل النشاطات الثقافيّة والجماعيّة فيها، أو تطبيق القوانين الأنطاكيّة وانتخاب المجالس التمثيليّة إلخ...
»هذه الظاهرة تعبّر، بالتأكيد، عن حاجة الجماعة المسيحيّة الأرثوذكسيّة إلى الرعاية الصحيحة والدائمة، وعن شوق دفين لتعزيز الهويّة المسيحيّة الأرثوذكسيّة، وعن توق للتضامن والتآزر والتلاحم بين كافّة أبناء الكنيسة في عصر العولمة المقرونة، وللأسف، بظاهرة الفرديّة. هذه التجمّعات واللقاءات والرابطات والجمعيّات والجبهات، وإنْ كانت تثير عندنا أحيانًا تساؤلات حول أسبابها ومراميها، إلاّ أنّها مرآة حيويّة في الوسط الكنسيّ... اللقاء الرعائيّ الأرثوذكسيّ... يعتقد بأنّ هذه الظاهرة ما كانت لتحصل وتنمو وتزداد لو استوعب رعاتنا، في العقود الماضية، مطالب واقتراحات جماعة المؤمنين، واستشعروا، بما فيه الكفاية، بهواجسها المشروعة، واستشرفوا حاجاتها الروحيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والمدنيّة، واستبقوا صرختها بتأسيس ما يلزم من مؤسّّسات راعية وحاضنة.
»القوانين الأساسيّة والداخليّة القائمة في بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق ارتأتْ تأليف مؤسّّسات تمثيليّة للرعيّة على كلّ المستويات والصعد بدءًا من مجالس الرعايا في الكنائس وصولاً إلى المجلس الأنطاكيّ العامّ ومرورا بمؤتمرات الأبرشيّات ومجالسها الملّيّة. لكن المؤسف حقًّا هي ظاهرةُ إهمال هذه القوانين والازدراء بأولويّتها، وتاليًا تغييب المشاركة الصحيحة والفاعلة لأبناء الكنيسة في حياة كنيستهم«.
يتّضح من كلّ هذا أنّ الوضع إصلاحه ملحّ. لذلك لا يمكن غضّ النظر والسكوت. لا بدّ من انتفاضة بروح إنجيليّة لوضع اليد على الداء، وتجنيد كلّ الطاقات، بتعاون الجميع، لإيجاد الدواء. لا بدّ للحركة من أن تجنّد كلّ ما أُعطي لها من الروح لخدمة هذا الهدف المبارك، واستعادة قوّة صوتها النبويّ لتذكير الجميع بأنّ الربّ لا يرضى أن يكون في بيته »أيّ وهن وغضن وأيّ شيء مثل ذلك«. لا بدّ من تعاضد مطارح النهضة في الكنيسة كلّها، من رعاة ورعايا وأديرة وحركات، من أجل تحقيق هذا الهدف، ودعوة مَن أقامهم اللَّه على هذه الكنيسة أن يلتفتوا، بعطف ومحبّة، إلى ضعفات أبنائهم، ويكونوا لهم رعاة على مثال الراعي الصالح الذي يعطي ذاته من أجل الخراف. أرجو أن يسمع الشباب في الحركة هذه الصرخة، ويعيدونا إلى ورشة الإصلاح والنهضة، باحترام كلّيّ للمقامات والأشخاص، إنّما بثورة صاخبة على الشرّ في كلّ مواضع تعشّشه في كنيستنا.
وعودة منّي إلى مطلع هذه التأمّلات انطلاقًا من تساؤلات أخي الشابّ المذكور أعلاه، ومساهمة منّي في العيد السبعـين للحركة، الذي أرجو أن يكون عيد الانتفاضة المرجوّة، أضع في ما يلي تفسيرًا للمبادئ الحركيّة، يشدّد على ما هو ضمنيّ في المبادىء الستّة الأصليّة والذي أعتبر أنّه من الأفضل توضيحه، منعًا لأيّ إغفال أو التباس. وآمل أن يساعد أخانا الشابّ على فهم أفضل وأكثر وضوحًا لما تدعو إليه الحركة جميع الشعب الأرثوذكسيّ.
١- هويّة الحركة ودعوتها
هويّة الحركة الأساس هي الحياة في المسيح. نظامها الأوحد هو الإنجيل مترجمًا عطاء ومواقف. قانونها المحبّة والأخوّة وهمّ التبشير. وكلّ شيء آخر فيها ينبع من هذه المسلّمات. فتهدف، إذًا، الحركة الأرثوذكسيّة (كما أقترح أن تُدعى حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة من الآن فصاعدًا) إلى إيجاد تيّار نهضويّ داخل الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة، يدعو أبناءها جميعًا للالتصاق بيسوع المسيح وكنيستة والتجنّد لخدمتهما.
٢- العضو الحركيّ
الحركيّ هو مَن يسعى جاهدًا إلى أن يعيش في حضرة اللَّه الدائمة، و أن يتمثّل بالربّ يسوع، ويفتّش عنه باستمرار في كلّ مواضع سكناه، في الصلاة الخاصّة والجماعيّة، وحياة الأسرار، وتأمّل الكتاب المقدّس، واجتماع الإخوة المحبّ، وفي خدمة البشر الذي اختار الربّ أن يسكن فيهم. هذا الجهاد يجعل منه عضوًا فاعلاً في جسد المسيح، إذ لا يمكنه أن يكون مسيحيًّا إلاّ في انضمامه إلى بيعة المسيح وشركته بمَن أُقيم عليها من اللَّه، وبالإخوة جميعًا، والسعي إلى إصلاح أيّ اعوجاج في وطنه الأوّل، والحقيقيّ الذي هو كنيسة المسيح. فيكون هدفه الأساس إذًا في هذه الحياة، أن يتقدّس أوّلاً، ويجعل الناس، في الكنيسة الأرثوذكسيّة وخارجها، يكتشفون وجه الربّ ويعرفون أنّه يحبّهم. همّه أن يساعدهم على بلوغ هذا الهدف بتجسيده وصايا المسيح، ليس بالقول فقط، بل بخاصّة بالمناقب والخدمة وبذل الذات في المحبّة. هو يسعى إلى أن يكون محبّة، على شبه إلهه أو لا يكون شيئًا. وكذلك همّه تنصير النصارى بتعاليم ربّهم، وزرع ثقافة أرثوذكسيّة فيهم بواسطة شتّى أساليب التربيّة والنشر والإعلام الحديث.
٣- الحركة والكنيسة
الحركة تيّار مواهبيّ يحرّكه الروح في كنيسة المسيح، وهو متأصّل فيها. كلّ قطيع يتأصّل في المسيح يثبّته المسيح في جسده-الكنيسة، فلا يمكن أن يكون أبدًا إزاء الكنيسة. هو منها وموجود فيها، لأنّه ملتصق برأس الجسد، ويحيا به.
هذا الالتصاق يتمّ، بخاصّة، في القدّاس الإلهيّ، حيث يمارس كلّ من أبناء الكنيسة مع إخوته جميعًا، كهنة وعلمانيّين، سرّ الكهنوت الملوكيّ الذي يُقيم الجماعة المصلّية شفيعة عن الكون والخلائق، ويساهم في إيجاد الكنيسة وإظهارها، عندما يجتمع الإخوة، بإمامة أسقفهم، أو الكاهن الذي ينوب عنه، حول الربّ يسوع الآتي إليهم جميعًا في سرّ الشكر.
ويخوّل القدّاس الإلهيّ كلّ مَن يشترك فعليًّا فيه مسؤوليّة نقل البشارة السارّة إلى العالم، وخدمة كلّ من مات ابن اللَّه حبًّا لهم، فينتقل من سرّ المذبح إلى سرّ الأخ، كما يعلّمنا القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم.
ولهذه الأسباب السامية كلّها، ولكون القدّاس الإلهيّ مصنع الهويّة الأرثوذكسيّة الحقّ، تشجّع الحركة كلّ الأرثوذكسيّين على ألاّ يفوّتوا على ذواتهم نعمة الانخراط فيه، فيجدوا الزخم للقيام بخدمتهم للكنيسة والطائفة الأرثوذكسيّة.
ولا يمكن لمَن ذاق حلاوة الربّ وتعلّم على حرّيّة أبناء اللَّه المدعوّين إلى نعمة التبنّي والتألّه، أن يذوب داخل حدود الرعيّة، بل هو موجود، مثل الخميرة، لكي تحيا الرعيّة، ويصل أبناؤها إلى ملء قامة المسيح، فينفتحوا على الخدمة، وعلى حركة الروح في كنيسة الابن، لأنّه يؤمن بأنّ الروح هو محرّك المواهب، فيرفض، إذًا، كلّ بعد وتفرّج، وتاليًا كلّ تمأسس متحجّر في الكنيسة، وكلّ رداء، لا يتماشى مع طبيعتها، يلبسها إيّاه أبناؤها .
وكذلك لا يمكن مَن عرف أنّ ربّه يسكن في الفقير والمريض والمأسور والغريب والمضطهد، ألاّ يتجنّد في خدمة هؤلاء وجعلهم أسيادًا في كنيسة المسيح. من هنا أهمّيّة العمل الطبّيّ والاجتماعيّ الذي تقوم به الحركة، إذ تعتبره من صلب رسالتها.
ولا يمكن أيضًا لكلّ مَن يأكل جسد الربّ ويشرب دمه، ويطّلع على مثل هذه المسؤوليّات، أن يذوب في حــدود طائفـة منغلقـة عـلى ذاتها، مدافعة فقط عن حقوقها، بل يعتبر من واجباته الدفاع عن كلّ الذين أحبّهم ربّه. لذلك ترفض الحركة المنطق الطائفيّ الضيّق، مع اعتبارها أنّ أبناء الطائفة الأرثوذكسيّة هم »القريب« الأوّل الذي وضعه السيّد في طريقنا، وعليها المساهمة في توحيدهم ودعوتهم إلى الانخراط في جمالات الكنيسة ونعمها.
٤- الحركة والوحدة والتعاون بين المسيحيّين
لكون كنيسة المسيح واحدة ووحيدة، وأنّ الربّ يسوع دعانا إلى الوحدة »لكي يؤمن العالم«، تعتبر الحركة أنّ خصامًا أو انشقاقًا داخل الكنيسة، أو بين الجماعات المسيحيّة المختلفة، هو جرح، عليها أن تساهم مساهمة متواضعة وجادّة في تضميده. وممّا يتطلّب هذا الهمّ العمل الدؤوب لصون وحدة الكرسيّ الأنطاكيّ، بتشجيع الحوار بين أبرشيّاته كافّة، وتشجيع الاتّصالات المحبّة والهادفة بين أبنائها، وبخاصّة الشباب، لتجسيد الأخوّة بينهم، وتجنيدهم في ورشة الإصلاح والنهضة.
كذلك يقتضي هذا الهمّ توطيد علاقة الكرسيّ الأنطاكيّ مع سائر الكنائس الأرثوذكسيّة، والعمل على استعادة الدور الطليعيّ الذي قام به هذا الكرسيّ في التاريخ القديم والحديث في المساهمة في رفع التحدّيات الكثيرة التي تواجه الكنيسة الأرثوذكسيّة بعامّة. لذلك تعتبر الحركة أنّ انتماءها إلى الرابطة العالميّة لحركات الشباب الأرثوذكسيّة، سيندسموس، التي كانت عضوًا مؤسّّسًا لها، ومشاركتها الفاعلة في نشاطاتها، كما في نشاطات رابطات أرثوذكسيّة أخرى في الشرق الأوسط، واجب عليها.
وتعتبر الحركة أيضًا من واجباتها السعي لإعادة اللحمة والأخوّة مع شباب الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة، السريانيّة والأرمنيّة والقبطيّة والحبشيّة، والصلاة أن يلهم الربّ رعاتنا في رفع العوائق التي تعترض طريق الشركة التامّة معها.
وتعمل الحركة على تشجيع الحوار الهادف مع المنظمّات الشبابيّة الفاعلة في الكنائس الشرقيّة المنتمية إلى الكنيسة الكاثوليكيّة الروميّة، لاستنباط التراث المشترك والاستفادة من الخبرات المتبادلة، والشهادة المشتركة.
وكذلك تشجّع الحركة العمل مع المنظّمات المسكونيّة، كالاتّحاد العالميّ للطلاّب المسيحيّين، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، من أجل السعي لإيجاد قاعدة مسيحيّة مشتركة في عالمنا المشرقيّ، ومتابعة المبادرات المسيحيّة في العالم والاستفادة منها.
٥- الحركة والإنسان والمجتمع
تعتقد الحركة أنّ الحياة ليست »عبثيّة، بل هي تقدمة وخدمة ومشاركة وهي ورشة للملكوت الآتي« (كوستي بندلي). فيرتكز مبدأ الحركة، في العلاقة مع الآخرين، على أنّ محبّة الإنسان تمنع أن نحوّله إلى شيء، بل يجب أن نشهد أنّه كيان شخصيّ لا يمكن التلاعب فيه وفي مصيره، بل إكرامه واحترامه وخدمته، إذ هو مخلوق على صورة اللَّه ومثاله.
وبما أنّ اللَّه محبّة، على الإنسان، في سعيه للوصول إلى المثال، أن يعزّز المحبّة فيه، ونحو الآخرين، إذ لا يتحقّق بدونها المثال الإلهيّ أبدًا. وبما أنّ اللَّه شركة بين أشخاص (أقانيم) ثلاثة، على الإنسان أن يتعالى عن الفرديّة ليصبح شخصًا إنسانيًّا، على صورة الشخص الإلهيّ الذي تجسّد، أي يسوع، الإله الإنسان، الذي هو المثال الأعلى للشخص الإنسانيّ. وبما أنّنا مدعوّون إلى أن نتمثّل بيسوع، علينا أن نسعى، في كلّ أيّام حياتنا، إلى أن نصبح كيانًا شخصيًّا مشابهًا به، أيّ فريدًا وغير منفصل، في آن، عن اللَّه والبشر.
هكذا، رغم شركته مع الآخرين، يبقى الشخص البشريّ فريدًا، ومغايرًا كلّيًّا عنهم في سرّه. يبقى هذا »الشخص في الشركة« حرًّا أن يكون مختلفًا، في كينونته الخاصّة. هو فريد بالكلّيّة، لا يخضع لقوالب محدّدة، تقولبه على شاكلة الآخرين، مع أنّ فرادته الحقيقيّة لا تظهر ولا تنمو إلاّ بعلاقته بهم. لا توجد »الأنا«، بالنسبة إليه، إلاّ إذا كانت متّصلة »بالأنت«، علمًا أنّ ميّزات كلٍّ من »الأنا« و»الأنت« تبقى فريدة وخاصّة بكلٍّ منهما.
ولأنّها مرتبطة بالشركة، ليست حرّيّة الإنسان حرّيّة تجاه الآخر، بل حرّيّة من أجله. حدودها هي حرّيّة الآخر. يعيش الشخص البشريّ، إذًا، من أجل الآخر، ويكتمل كإنسان شخصيّ، ويتحقّق، بقدر ما يقبل الآخرين، معتبرًا إيّاهم أشخاصًا، لا أفرادًا. تحرّك محبّتي للآخر حرّيّتي. لا معنى للحرّيّة إن لم تكن مرادفة للمحبّة. لا يمكننا أن نحبّ إلاّ إذا كنّا كيانات شخصيّة، تسمح للآخر بأن يكون آخر بالحقيقة، مع بقائها على الشركة معه.
بنوع من الأنواع، نتشارك في الإنسان الواحد، المكسور من جرّاء خطيئة البشر. تخشى طبيعتنا الساقطة الآخر وتخاف منه. والخوف، الخوف من الموت، الخوف من الآخر، الخوف من كلّ مغايرة واختلاف، الخوف بكلّ أنواعه، هو جوهر الخطيئة. ولكنّ الخوف غُلب على الصليب، فوُلد الإنسان الواحد مجدّدًا في المسيح، وأُعيد إلى سابق عهده، شاملاً كلّ البشر. فلا يكفي أن نكفّ عن اعتبار الآخر عدوًّا أو عبدًا. ولا يكفي أيضًا أن نقول إنّه ينبغي لنا أن نتعاضد لأنّنا متشابهون إذ نشترك في طبيعة واحدة. في المسيح، عليّ اعتبار الآخر كنفسي، أي أن أعتبره »أنا« آخر.
من أجل ذلك لا بدّ من نبذ كلّ مظاهر العنف، حتّى الكلاميّ، وإبداله باللطف والسعي الدائم إلى التفاهم والمصالحة. الثورة الحقيقيّة التي أطلقها السيّد، في هذا المجال، هي في وصيّته أن نحبّ أعداءنا، وأن نصلّي من أجل لاعنينا، وأن نعطي بدون انتظار المثل، وأن نعيش بروح التطويبات، عاملين دومًا على تشجيع مبادرات غير عنفيّة لحلّ المشاكل بين البشر، ولإحلال العدالة والاحترام والكرامة لكلّ إنسان، والعمل من أجل المصالحة وإحلال السلام، ورفض كلّ مظاهر مجتمع الاستهلاك التي ترتهن الإنسان.
لكونها مقتنعة بأنّه لا يمكن تقديس أيّ نظام اجتماعيّ، وأن كلّ نظام يخضع لدينونة إلهيّة إذا لم يستطع أن يقوّم ذاته من أجل إحقاق المزيد من العدالة، على العضو الحركيّ أن يساهم، مع أصحاب النيّات الطيّبة، في توعية البشر وحثّهم على العمل من أجل تغيير المؤسّّسات (بما فيها المؤسّّسات الكنسيّة) لجعلها أكثر إنسانيّة ولمنع استغلال الإنسان أخاه الإنسان. فلا تقترح الحركة خطوطًا عمليّة للعمل السياسيّ ولا مخطّطات عامّة إذا كانت تقزّم الحدث الإنجيليّ إلى مجرّد قيم اجتماعيّة، بل تبقى متأصّلة بهذه القيم ومرتكزة على محبّة فاعلة، مبتكرة، لا تأمل بنجاحات تامّة وثابتة في التاريخ، بل تحرّكها نظرة شاملة للإنسان في المسيح، هذا الإنسان الذي يحتاج إلى الخبز، ولكن يحتاج أيضا إلى الشعور بالمسؤوليّة والصداقة والجمال والأبديّة.
تدعو هذه الرؤية المسيحيّة للعلاقات بين البشر إلى إقامة حوار محبّ مع غير المسيحيّين وكلّ مَن لا يشاركنا في الرأي. في علاقاتنا مع الديانات غير المسيحيّة، وبخاصّة الإسلام، يكون عملنا في اتّباع خطى يسوع في حواره مع السامريّة، في احترام الآخر وتبيان الإيجابيّ عنده، وفي »السعي لاستنباط القيم المتعلّقة بالمسيح فيها«، (المطران جورج (خضر)، والسعي لإيجاد سبل مشتركة لخدمة الإنسان وإحلال العدالة ومحاربة الطغيان والاستبداد حيث نعيش معًا، مع البقاء على رجاء خفيّ أن تتمكّن شهادة حياتنا في التواضع والمحبّة أن تجعل هذا الآخر يكتشف »المسيح النائم في طيّات الديانات غير المسيحيّة«.
بغية السعي لإقناع العالم بأنّ إلهنا موجود في أعماق فنّه وثقافتـه، علينـا، بتواضـع كلّيّ، أن نكـون منفتحين عليهما، وأن نتعرّف أوّلاً إلى تراث كنيستنا اللاهوتيّ والنسكيّ والأدبيّ والفنّيّ، وأن ننشره (مثلاً بواسطة الجامعة والمدارس الأرثوذكسيّة وأساليب النشر المختلفة) وإطلاق الحوار بشأنه، في احترام تامّ لآراء الآخرين ومعتقداتهم، لكي نستنبط معًا المعنى المفقود لوجودنا المشترك.
ولا تغفل عن رؤية الحركة المشاكل البيئيّة المتزايدة الناتجة من خلل في العلاقة بين الإنسان والطبيعة، إذ إنّ الطبيعة هي آخر أيضًا يجب أن يدخل الإنسان معه في شركة وحوار. ونكون بذلك قد استرجعنا رؤى آبائنا في تأكيدهم على صعد الخلاص الكونيّة وعلى المسيح الكونيّ الذي سيوحّد في شخصه كلّ شيء في اليوم الأخير. ونكون، بعملنا هذا، قد استرجعنا الدور الذي كلّفنا إيّاه اللَّه في »زرع جنّة عدن والحفاظ عليها«. ويجب أن يجسَّد هذا الهمّ بأعمالٍ على الأرض تساهم في المحافظة على سلامة البيئة وتدريب الأولاد والشباب على ضرورة احترامها.
في الأخير، أودّ أن أقول إلى أخي الشابّ القلق الحائر إنّ الطريق طويل وشاقّ، وليس أحد منّا مسيحيًّا بل في صيرورة، إن أراد وجاهد. وأيضًا أن أقول إنّ المسيح هو الطريق، وإنّ نيره خفيف، وهو يمسح كلّ دمعة من عيون مَن يسلّم إليه قلبه، ويجعله يزيد فهمًا ونشاطًا، وكلّما زاد فهمًا ونشاطًا، يكشف له الربّ معالم الطريق. يقول القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد، في هذا الصدد: »بالاتّحاد بالمسيح فقط، يبلغ الإنسان ملء كيانه، ويجد كمال طبيعته وكلّيّتها، والمعنى الحقيقيّ الأوّل والأخير لمصيره، وكمال أعماله وحياته كلّها. فبالمسيح وحده، يستطيع الإنسان أن يكون إنسانًا كاملاً، ويحقّق طبيعته الحقيقيّة بكلّ أبعادها«، بما في ذلك أبعاد الالتزام في الحركة والكنيسة. فلا تخف، يا حبيبي، بل أقدم كما يعرف الشباب وحدهم أن يُقدموا، وكن سفيرًا لمَن ارتأى أن يكلّم العالم بكلماتنا المسكينة الضعيفة. وتغاضى عن الضعفات، ضعفاتك وضعفات غيرك، وكرّس نفسك للخدمة، عارفًا أنّك عبد بطّال، لكن بإمكانك، إن اتّضعت وأحببت وقلت للربّ »هأنذا«، أن تولِد المسيح للعالم.l
بنوع من الأنواع، نتشارك في الإنسان الواحد، المكسور من جرّاء خطيئة البشر. تخشى طبيعتنا الساقطة الآخر وتخاف منه. والخوف، الخوف من الموت، الخوف من الآخر، الخوف من كلّ مغايرة واختلاف، الخوف بكلّ أنواعه، هو جوهر الخطيئة. ولكنّ الخوف غُلب على الصليب، فوُلد الإنسان الواحد مجدّدًا في المسيح، وأُعيد إلى سابق عهده، شاملاً كلّ البشر. فلا يكفي أن نكفّ عن اعتبار الآخر عدوًّا أو عبدًا. ولا يكفي أيضًا أن نقول إنّه ينبغي لنا أن نتعاضد لأنّنا متشابهون إذ نشترك في طبيعة واحدة. في المسيح، عليّ اعتبار الآخر كنفسي، أي أن أعتبره »أنا« آخر.
من أجل ذلك لا بدّ من نبذ كلّ مظاهر العنف، حتّى الكلاميّ، وإبداله باللطف والسعي الدائم إلى التفاهم والمصالحة. الثورة الحقيقيّة التي أطلقها السيّد، في هذا المجال، هي في وصيّته أن نحبّ أعداءنا، وأن نصلّي من أجل لاعنينا، وأن نعطي بدون انتظار المثل، وأن نعيش بروح التطويبات، عاملين دومًا على تشجيع مبادرات غير عنفيّة لحلّ المشاكل بين البشر، ولإحلال العدالة والاحترام والكرامة لكلّ إنسان، والعمل من أجل المصالحة وإحلال السلام، ورفض كلّ مظاهر مجتمع الاستهلاك التي ترتهن الإنسان.
لكونها مقتنعة بأنّه لا يمكن تقديس أيّ نظام اجتماعيّ، وأن كلّ نظام يخضع لدينونة إلهيّة إذا لم يستطع أن يقوّم ذاته من أجل إحقاق المزيد من العدالة، على العضو الحركيّ أن يساهم، مع أصحاب النيّات الطيّبة، في توعية البشر وحثّهم على العمل من أجل تغيير المؤسّّسات (بما فيها المؤسّّسات الكنسيّة) لجعلها أكثر إنسانيّة ولمنع استغلال الإنسان أخاه الإنسان. فلا تقترح الحركة خطوطًا عمليّة للعمل السياسيّ ولا مخطّطات عامّة إذا كانت تقزّم الحدث الإنجيليّ إلى مجرّد قيم اجتماعيّة، بل تبقى متأصّلة بهذه القيم ومرتكزة على محبّة فاعلة، مبتكرة، لا تأمل بنجاحات تامّة وثابتة في التاريخ، بل تحرّكها نظرة شاملة للإنسان في المسيح، هذا الإنسان الذي يحتاج إلى الخبز، ولكن يحتاج أيضا إلى الشعور بالمسؤوليّة والصداقة والجمال والأبديّة.
تدعو هذه الرؤية المسيحيّة للعلاقات بين البشر إلى إقامة حوار محبّ مع غير المسيحيّين وكلّ مَن لا يشاركنا في الرأي. في علاقاتنا مع الديانات غير المسيحيّة، وبخاصّة الإسلام، يكون عملنا في اتّباع خطى يسوع في حواره مع السامريّة، في احترام الآخر وتبيان الإيجابيّ عنده، وفي »السعي لاستنباط القيم المتعلّقة بالمسيح فيها«، (المطران جورج (خضر)، والسعي لإيجاد سبل مشتركة لخدمة الإنسان وإحلال العدالة ومحاربة الطغيان والاستبداد حيث نعيش معًا، مع البقاء على رجاء خفيّ أن تتمكّن شهادة حياتنا في التواضع والمحبّة أن تجعل هذا الآخر يكتشف »المسيح النائم في طيّات الديانات غير المسيحيّة«.
بغية السعي لإقناع العالم بأنّ إلهنا موجود في أعماق فنّه وثقافتـه، علينـا، بتواضـع كلّيّ، أن نكـون منفتحين عليهما، وأن نتعرّف أوّلاً إلى تراث كنيستنا اللاهوتيّ والنسكيّ والأدبيّ والفنّيّ، وأن ننشره (مثلاً بواسطة الجامعة والمدارس الأرثوذكسيّة وأساليب النشر المختلفة) وإطلاق الحوار بشأنه، في احترام تامّ لآراء الآخرين ومعتقداتهم، لكي نستنبط معًا المعنى المفقود لوجودنا المشترك.
ولا تغفل عن رؤية الحركة المشاكل البيئيّة المتزايدة الناتجة من خلل في العلاقة بين الإنسان والطبيعة، إذ إنّ الطبيعة هي آخر أيضًا يجب أن يدخل الإنسان معه في شركة وحوار. ونكون بذلك قد استرجعنا رؤى آبائنا في تأكيدهم على صعد الخلاص الكونيّة وعلى المسيح الكونيّ الذي سيوحّد في شخصه كلّ شيء في اليوم الأخير. ونكون، بعملنا هذا، قد استرجعنا الدور الذي كلّفنا إيّاه اللَّه في »زرع جنّة عدن والحفاظ عليها«. ويجب أن يجسَّد هذا الهمّ بأعمالٍ على الأرض تساهم في المحافظة على سلامة البيئة وتدريب الأولاد والشباب على ضرورة احترامها.
في الأخير، أودّ أن أقول إلى أخي الشابّ القلق الحائر إنّ الطريق طويل وشاقّ، وليس أحد منّا مسيحيًّا بل في صيرورة، إن أراد وجاهد. وأيضًا أن أقول إنّ المسيح هو الطريق، وإنّ نيره خفيف، وهو يمسح كلّ دمعة من عيون مَن يسلّم إليه قلبه، ويجعله يزيد فهمًا ونشاطًا، وكلّما زاد فهمًا ونشاطًا، يكشف له الربّ معالم الطريق. يقول القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد، في هذا الصدد: »بالاتّحاد بالمسيح فقط، يبلغ الإنسان ملء كيانه، ويجد كمال طبيعته وكلّيّتها، والمعنى الحقيقيّ الأوّل والأخير لمصيره، وكمال أعماله وحياته كلّها. فبالمسيح وحده، يستطيع الإنسان أن يكون إنسانًا كاملاً، ويحقّق طبيعته الحقيقيّة بكلّ أبعادها«، بما في ذلك أبعاد الالتزام في الحركة والكنيسة. فلا تخف، يا حبيبي، بل أقدم كما يعرف الشباب وحدهم أن يُقدموا، وكن سفيرًا لمَن ارتأى أن يكلّم العالم بكلماتنا المسكينة الضعيفة. وتغاضى عن الضعفات، ضعفاتك وضعفات غيرك، وكرّس نفسك للخدمة، عارفًا أنّك عبد بطّال، لكن بإمكانك، إن اتّضعت وأحببت وقلت للربّ »هأنذا«، أن تولِد المسيح للعالم.l