2012

05 – سبعون - هل انحسرت العاصفة بعد سبعين سنة؟ - جان توما - العدد 2 سنة 2012

 

 

هل انحسرت العاصفة بعد سبعين سنة؟

جان توما

 

تقف في مطلاّت السنة السبعين تتأمّل الواقع الكنسيّ وحركة الكنيسة تطلّ على مشارف العقد السابع من عمرها بعدما اقتحمت بنهضتها حياتك ومفاصل عمرك. لا تعرف نفسك إلاّ في الحركة وبالحركة، أي أنّك حَبَوْتَ ونَمَوْتَ، وما زلت، في معارج حركة الكنيسة وأنت غارق حتّى أذنيك في السنة الكنسيّة المنظّمة بحسب التيبكون ذات الأصول المتنوّعة. ما زلت تصلّي وتصوم وتقرع صدرك وأنت عارف أنّك قد لا تكون في الملكوت، لأنّك تدّعي، في كلّ الأوقات، أنّك تسير حسب قلب اللَّه، كما نصّت القوانين وحياة الجماعة، فيما أنت لا تميّز بين مسيح الإنجيل ومسيح المسيحيّين. الخوف كلّ الخوف أن نكون نحن أيضًا، الذين التزمنا قضيّة يسوع على الأرض، قد مضينا مع يسوع حركة الكنيسة وأضعنا يسوع الإنجيل. أضعناه وسط التنظيم ومراعاة هوايات الشباب ومواكبة التكنولوجيا فيما نبحث عن الشاشات الإلهيّة وسط الشاشات العجيبة الغريبة السالبة الألباب.

أما زال همّنا أن ننقل الحركة إلى الآخرين، وإلى جوف الكنيسة لنزيل الغبار عن كنوزها كما فعلت الانطلاقة في الأربعينيّات؟ لقد نجحت الحركة في تمتين الربط بين المؤمنين والكنيسة، وأوجدت تلك الثقافة الأرثوذكسيّة التي بحثت عنها، وزوّدت أقلام كثيرين بالحبر والمداد: التزموا فعبّروا، عاشوا فنقلوا، ترجموا وفسّروا، ومنهم من كتب بالتكريس شهادته في عالم مضطرب وهائج. لكنّ سفينة الحركة تتقاذفها أمواج عاتية فتقلق، ناسية، في غمرة انشغالها إداريًّا، أنّ المسيح نائم في قلبها، على متن السفينة، وأنّ إيقاظه يقود إلى مرفأ السلام والأمان.

بعد سبعين سنة، سقطنا في امتحان توافر الأطر المؤسّّساتية الخدماتيّة، فمجالس الرعايا باهتة الحضور، ومجالس الملّة صارت »مجالس العلّة«، وجدار الفصل، في التفكير والتخطيط والتنفيذ، بين الراعي والرعيّة، ما زال قائمًا رغم سقوط جدران الفصل في العالم. ما بقي أحد مقتنعًا بنظام المجالس في هذا الكرسيّ الأنطاكيّ. المسؤولون الكنسيّون، ، وكلّنا مسؤول في النهاية، يبحثون عن مخارج مريحة، لا تتعب ولا توجع الرأس. فها هي اللجان الاستشاريّة، بالجملة والمفرق، تقوم مقام الأنظمة والقوانين، ويتساءلون عن سبب هذا الفتور الكبير في العلاقة بين المسؤولين الكنسيّين والشعب. بعد سبعين سنة، عدنا في الفكر النهضويّ إلى أوّل السطر، المطالبة بتطبيق نظام المجالس، تأكيدًا على مفهوم المشاركة الحقيقيّ بين الجميع في الكنيسة، ضمن منظومة لملمة المواهب المتنوّعة التي يلحظها الراعي. ما يعزّيك في هذا الوضع الرعائيّ كلّه، أنّ صاحب الموهبة الرعائيّة ظاهر وبادٍ للعيان، في نظر المؤمنين، وهم يعتبرونها من علامات اللَّه وآياته تعزية لهم ورحمة. فالملحّن الكنسيّ يقدّره المؤمنون لأنّه يربطهم بذاك العلويّ، والشاعر والكاتب المسيحيّ الملتزم، والتربويّ المؤمن، وغيرهم من الفعلة في العالم، يقدّمون شهادة معبّرة ويوميّة عن ذاك الذي التزموا قضيّته على هذه البسيطة.

لكنّ الشهادة ليست فرديّة فحسب، على أهمّيّتها، ولكنّ الجماعة مدعوّة إلى تضافر جهودها في ترجمة إيمانها في العالم. ماذا عن مؤسّّسات الكنيسة على اختلاف مناهجها وهويّاتها الخدماتيّة؟ ألا يسمع مسؤولوها ماذا يقول الشعب المؤمن عنها؟ ومجالس الرعايا التي أصبحت هياكل مجوّفة، بموافقة أصحاب الرأي والمشورة، ألا يسمع الرعاة المسؤولون عن تركيبتها ما يقوله الشعب المؤمن أنّ من أتى لخدمة الوقف صار هو نفسه وقفًا وموقوفًا في عضويّة المجالس إلى أبد الآبدين؟! لن ينجح نظام مجالس الرعايا إلاّ عبر نقطتين أساسيّتين: أوّلهما أن يؤمن أصحاب الأمر الكنسيّون بنظام المجالس، وثانيهما أن يثقوا، من صميم قلوبهم، بأنّ المؤمنين يهمّهم أمر الكنيسة وأمر شهادتها في هذا العالم.

الحركة بعد سبعين سنة، تقود تراثًا طليعيًّا نهضويًّا قائمًا على هذا الغنى الكنسيّ الذي لا ينضب، لأنّ الروح يحرّكه ويجعله مطواعًا مواكبًا لحركة العصر، في كيفيّة الاستفادة من حيويّة أساليب التعبير عن الإيمان بخطوات عمليّة تجاه الشباب الطالع من الانعزال التكنولوجيّ وانصرافه إلى شاشات باردة تسحره. هذا الشباب هو الذي يجب أن تتوجّه إليه حركة الكنيسة، ولكن بوعي وإدراك لاقتحام سلميّ لأوّليّات سلّم إيمانه بهذا الاكتساح العلميّ التكنولوجيّ الماسح، لتظهير صورة المسيح، ذاك الذي يسكـن الأفئـدة ويقدّم الأجوبة الشافية عن القضايا المصيريّة والتحدّيات التي تواجه الشباب اليوم.

إنّ التحدّيات المستجدّة إزاء حركة الشباب اليوم، وبعد سبعين سنة، هي في تجديد مطالبتها الدائمة بتنفيذ نظام المجالس والشورى، وأن يكون كلّ شيء مشتركًا في الكنيسة. لم تشخ الحركة ولم يصبها نشاف الشرايين، لأنّ الشباب فيها يعملون بحيويّتهم وعفويّتهم، في رعاية شيوخ وأولئك الذين اشتعلت رؤوسهم شيبًا. ما يقلق، في هذ المسرى كلّه، إحجام المسؤولين الكنسيّين عن الاستفادة من هذا العدد الكبير من المتطوّعين في صفوف حركة الكنيسة، هؤلاء جنود لا يطلبون إلاّ رضى ربّهم، فلا يلقون، كما المؤمنون المواظبون على الصلوات، إلاّ الكلام المؤنّب والوعظ الاستفزازيّ بالالتزام بالوصايا، وينسى الواعظ أنّ الموجودين في القدّاس الإلهيّ هم »هنا«، وعليه أن يتوجّه إلى الذين »هناك« خارج أبواب الكنيسة، فهم بحاجة إلى رعاية، مسنودًا من الذين  معه في »كنيسة الداخل« في متابعة مُحبّة لأحوال المرميّين في »كنيسة الخارج«.

بعد سبعين سنة، صارت الواحات أكثر وأكبر، ولكنّ الخوف أن تجفّ الآبار، ولكنّها لن تجفّ، تعزية ورجاء، لأنّ اللَّه يسقي الأرض الجدباء، ويقويّ الركب المخلّعة والظهور المنحنية، ويضمد جراح الأجنحة المتكسّرة.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search