نعم، أنا أيضًا أدعو إلى الثورة!
مهى عفيش
رائعة جدًّا الثورات التي نشهدها في هذه الأيام، المتوزعة في أماكن عدّة من العالم العربيّ، والتي تنبض بالتغيير وتحمل بذور تحرّر الشعوب وغلبتها على العبوديّة والاستغلال.
رائعة من دون شكّ وتستفزّ العقل البشريّ للتأمّل لكونها قائمة على استنفار الطاقات البشريّة لتحقيق قلب المعادلات المعترف بها، المستقرّة في العقول والأذهان منذ عقود، الملتصقة في حياة الشعوب اليوميّة، كأثواب عتيقة، بالية تفوح منها روائح التخاذل والتقوقع والانكسار.
لا يمكن للمتأمّل في هذه التحرّكات الباهرة والمثيرة للإعجاب بالحقيقة، سوى أن يمجِّد اللَّه على الإنسان، هذا المخلوق الضعيف، ولكن القادر بعزمه على تحقيق ما يفوق العقل والتصوّر، الذي منحه اللَّه كلّ هذه الطاقات المبارَكة، القادر بفضلها على تحديد الهدف والنضال من أجله رغم المخاطر والتضحيات...
يمكننا، بالطبع، أن نبقى عند هذا الحدّ في التأمّل والتفحّص والتحليل. يمكننا أن نبقى أسرى الواقع المحسوس الذي قد يكبّل أنظارنا وأحاسيسنا لفترة من الوقت. ولكن، كمسيحيّين، لا يمكننا أن نغفل عن البُعد الآخر الموازي، البعد الأكثر عمقًا وحميميّة من هذا الذي نعيشه، رغم كونه غير منظور وغير مدرَك: الحقيقة الواحدة والوحيدة. ليست هذه بلادنا ولا ديارنا ولا السلطة التي نطمح إليها أو نطالب بها. وهذا العالم - وإن كان يعنينا أن نعبر فيه بسلام مع الإثمار لمجد اللَّه وبنيان الكنيسة - لا يعنينا أكثر من هذا الحدّ. هذا العالم يبقى هنا، ونحن نعبر. نعبره.
إلاّ أنّ هذه الطاقة الغضبيّة التي تذهلنا اليوم على تلفزيونات العالم هي موجودة بالفعل، وقد سبق آباء الكنيسة القدّيسون أن تكلّموا عليها منذ مئات السنين وعلّمونا أن نضبطها ونحوِّلها، لا أن نحاول قمعها أو إزالتها لأنّها لا تزول، بل عندنا إمكانيّة (وقدرة) تحويلها إلى الخير. هذه الطاقة، هل أفضل من استعمالها تجاه أنفسنا، لضبطها وتشذيبها وتنقيّتها من كلّ الشوائب التي علقت بها، نتيجة تخاذلنا أمام الخطيئة، وتمليكنا إيّاها على قلوبنا وحواسنا وحياتنا منذ بدء العالم؟
أنبياء العهد القديم ثاروا على الشرور السائدة في عصرهم، ثاروا على الجحود، على عبادة الأصنام. جاء يسوع وقلب كلّ المعادلات القائمة: نقض السبت، رحم الزانية، واجه الفرّيسيّين، عنّف الباعة في الهيكل، وآكل العشّارين والخطأة... ويوحنّا المعمدان انتقد هيرودس وبذل حياته ثمنًا لعدم مساومته على الحقّ. والأمثلة كهذه لا تكفيها الصفحات الكثيرة.
ديانتنا ثورة. عبادتنا ثورة: ثورة على الذات، على الشرّ، على قوى هذا العالم، على التقوقع داخل إعاقاتنا الروحيّة وتكبيلاتنا التي تقيّدنا وتمنعنا من التقدّم باتّجاه النور الوحيد، الملك الوحيد الذي نريده أن يملك على نفوسنا إلى الأبد ولن يكون لحكمه زوال.
التوبة ثورة. المحبّة ثورة. التضحية من أجل الآخر ثورة.
وأمّا كلّ هذه الثورات الدنيويّة التي نشهدها اليوم ونعجب لها، فهل عربون؟ ذوق مسبق؟ تحرّر جسديّ وأرضيّ بانتظار تحرّر الروح؟ أهي مقدّمة؟ عرضٌ أمام العيون التي ترى والآذان التي تسمع والنفوس التي تئن بانتظار أن تتحرّر(1)...؟
نعم، أنا أيضًا أدعو إلى الثورة. وبي شوق إلى جماهير »مليونيّة« تحتشد في ساحات بيت الربّ(2) وتهتف من أعمق أعماق النفس البشريّة المسحوقة، الغارقة في عبوديّتها للخطيئة حتّى العظم منذ بدء التاريخ، منذ جدّها آدم. جماهير تهتف برجاء، بانتظار، برغبة في التحرّر: تعال أيّها الربّ يسوع(3).l