2011

13 – لقاء - تقاسيم على حلقة دراسيّة في حلب - يوسف الحاجّ - العدد 2 سنة 2011

تقاسيم على حلقة دراسيّة في حلب

يوسف الحاجّ

 

 

أيضًا يدخل تراثنا على مُبتدَئنا والخبر.

أيضًا تنتصب الثقافة أمام أعيننا، وتتحدّانا أن نتمسّك بها.

أيضًا يحضر التاريخ مجرّدًا من بُعدِه ومن المسافة الفاصلة بين يومنا وأمسه.

هذه المرّة، حلبُ كانت قصْدَنا. وَصَلنا إليها فجر الثامن عشر من شباط من العام الـ2011، وذهبنا في الصباح إلى الأوّل من تشرين الثاني من العام الـ451 إلى مدينة خلقيدونية. فاجتمعنا بالآباء هناك، واستوضحنا ما نطقوا به، وكيف فكّروا، وبماذا اعتقدوا.

تركناهم على عجل، لأنّنا علِمنا بأمر متخفٍّ كبير في كنيستنا، كان قد أعيى الباحثين يسمّى، ذيونيسيوس ويُكنّى بالأريوباغيّ. تتبّعنا أثرَه، فوجدناه وراء برقعه المعهود، ووجهُه عصيٌّ على الكشف. كُتُبه الأربعة تصفّحناها، فكَشَفَت لنا مفاهيمَ لاهوتيّةً كبيرةً تستوحي فلسفة أفلوطين لتُعبِّر. قرأنا في المكتوب أنّ الصلاح الحقيقيّ هو الإله الثالوثيّ، وأنّ الجمال الحقيقيّ هو الإله الثالوثيّ. ففهمنا أنّ كاتب هذه النصوص متأصّل في مسيحيّته مع انتماء واضح إلى الفلسفة اليونانيّة، وأنّه يخشى عليها محاربة الحكّام المسيحيّين ومحاولتِهِم الجادّة القضاء عليها في القرن السادس. لذا، أخذ الأريوباغيّ الفلسفة اليونانيّة وعمّدها بدهاء، فأنقذها وأعلى شأنها. هذا الكاتب الكبير نموذج يُحتذى به عن قبول ثقافة العصر من دون عُقَد وتحويل مجراها الصاخب إلى محيط الإله المخلّص. ظلّ وجه ذيونيسيوس كما وجدناه، فرحًا مرتاحًا، حين تركناه.

إلى ضفاف بحر مرمرة في بدء القرن السابع. هناك، في أحد الأديار، راهب مزدوج السيرة. القصّة الأولى تؤكّد أنّه ابنٌ لعائلة أرستقراطيّة من المدينة المتملّكة، تلقّى علومه فيها، ثمّ عمِل في البلاط الملكيّ، وبعدها أمّ الدير يلتمس طلب الوحدة باللَّه. القصّة الثانية تزعم أنّه ابن زنى من الجولان السوريّ، والدته جارية فارسيّة والوالد سامريّ. عمّده كاهن وسمّاه مكسيموس، ثمّ أرسله إلى دير اللافرا في فلسطين. مكسيموس يكتم أصوله، لكنّه يؤكّد أنّه، العام الـ634، كان يقطن أحد أديرة قرطاج، ولعلّه بدأ الكتابة هناك، أو قبل ذلك بقليل، وكان عمره 51 سنة. موضوعُه الأساس كان الدفاع عن وجود طبيعتين في شخص الناصريّ، تعملان بانسجام وتآزر. كلّ مشيئة تريد ما تريده الثانية. هما ملتصقتان إلى حدّ التماهي. في هذا السياق، طرحنا سؤالاً على مكسيموس، كان قد حيّرنا: إذا كانت المشيئتان تعملان بانسجام كامل، ملتصقتين دائمًا أبدًا، فكيف نتيقّن من أنّهما اثنتان؟ حينئذٍ، تناول مكسيموس الكتاب، وفتح الفصل الرابع عشر من إنجيل مرقس في آيته السادسة والثلاثين، وقرأ، ثمّ طوى السفر، وفسّر المقروء تفسيرًا حرفيًّا متحدّثًا عن يسوع الناصريّ الحقيقيّ التاريخيّ الذي جزع من الموت جزعًا كبيرًا، لأن ليس للموت فيه شيءٌ، ثمّ بانسجام الطبيعتين حطّم الموت تحطيمًا مدويًّا، لأن ليس للموت فيه شيء.

ترَكْنا مكسيموس، معترفًا وحدَه بإيمانه، منفيًّا في برد قلعة من جبال القوقاز، يدُه اليمنى مرميّةٌ على أرض زنزانته، ولسانه مقطوع ينتظر موتًا كان قد صار تافهًا. وكان عنوان عِلّته مكتوبًا »مكسيموس المنافق المجدّف على اللَّه«. بلَغَنا بعدها أنّه توفّي يوم السبت الواقع فيه الثالث عشر من شهر آب من السنة الـ662، وأنّ السلطات الرسميّة والكنسيّة تعتبره هرطوقيًّا من الطراز الرفيع.

الشخص الثالث، الذي زرناه في فلسطين، أيضًا عنده التباس في السيرة. منهم من يقول إنّه ورِثَ أمانة بيت مال الأمويّين عن والده سرجون، ومنهم من ينفي ذلك. أمّا هو، فمعتصم بالصمت. شهد منصور على فترة مضطربة من تاريخ منطقتنا. في العصر الذي عاش فيه، بسَط المسلمون سيطرتهم على مساحات كبيرة، وخاضوا حروبًا كثيرةً مع الروم. وفي هذه الحقبة أيضًا، قامت مشاكل لاهوتيّة كبيرة، تجلّت بحرب على الأيقونات انطلقت العام الـ726 من القسطنطينيّة. كان يوحنّا، في ذلك الحين، قد صار راهبًا في دير القدّيس سابا. من هناك انبرى يدافع عن تكريم الأيقونات بكلّ ما أوتي من حكمة ومن فهم ومن نعمة. منطلقه في الدفاع أنّ الإله العليّ غير المنظور، غير المدرَك، غير المستوعَب قد صار من أجلنا إنسانًا مثلنا وضَرَبَ في حيّنا خيمته، خرجنا للقائه، رأيناه فصوّرناه. لم يُقنع هذا التبرير السلطات الرسميّة، فاستمرّ الجدل إلى أن عُقِد مجمع في هيريّا (قرب القسطنطينية) السنة الـ754. أقرّ المجمع أنّ السجود للأيقونات إنّما هو عبادة وثن، وينبغي القضاء على جميع الصور والرسوم والجداريّات التي تمتّ إلى الكنيسة بصلة. أصابنا إحباط داكن. ماذا سنفعل بكلّ ما لدينا من جمال، وقد صار الجمال ممنوعًا في كنيستنا؟ وشرّيرةٌ هي العين التي تتمتّع به. في اختتام أعمال المجمع، لُعِن منصور بن سرجون أربعَ لعنات متتالية، وكان قد فارق هذا الدهر. الأثر الكبير الذي تركَه هو مؤلَّف في ثلاثة أجزاء، عنوانُه ينبوع المعرفة، ويرجَّح أنّ يوحنّا وضعه خوفًا على الإيمان المستقيم من الانحراف في غمرة التحوّلات السياسيّة. في زمن الدمشقيّ، كان إرث الآباء قد صار كبيرًا بعد سبعة قرون من الغزارة، فأراد يوحنّا تقديم خارطة واضحة لفهم الفكر الآبائيّ، ومكّننا بذلك من قراءة الآباء بشكل صحيح.

بقي منصور بن سرجون تلعنه كنيستنا حتّى الثالث عشر من شهر تشرين أوّل من العام الـ787 حين تبنّى الآباءُ، الملتئمون في نيقية، تعاليم البلبلِ الغرّيدِ معزفةِ الروح، الشجيِّ النغم دفّاقِ الذهب يوحنّا الدمشقيّ الكلّيّ الحكمةِ. فهتفوا باتّفاق الأصوات، في ختام الجلسة السابعة من مجمعهم، »ليكن ذكرُهُ خالدًا«.

هَوَت شمس حلب من سمائها، وحلّ علينا تعب الترحال في حقبات التاريخ. لكنّ تراثنا، الداخل على مبتدئنا والخبر، أبى الانسحاب، فنفَضنا عن عيوننا غبار السفر، وأكملنا. ذهبنا، مجدّدًا، إلى القرن السابع حيث لاح تباعد بين الشرق المسيحيّ وغربه، وذلك بسبب اعتماد لغتين مختلفتين: اليونانيّة واللاتينيّة. هذا التباعد اللغويّ تبعه، منطقيًّا، تباعد ثقافيّ، وصار الغرب، الرازح تحت وطأة هجمات الجرمان، يشعر بأنّ الأمبراطوريّة البيزنطيّة تخلّت عنه. وأتى العام الـ1054 مع الحروم المتبادلة، وبعده الحملات الصليبيّة التي حاول البيزنطيّون الاستفادة منها عبر السماح للفرنجة بالمرور في أرضهم. إلاّ أنّ الحملة الصليبيّة الرابعة، العام الـ1204، عمّقت الشرخ ورسّّخته، إذ إنّ الصليبيّين احتلّوا القسطنطينيّة ونهبوها. يومها، شعر الشرق المسيحيّ بأنّ الغرب تخلّى عنه. بعدها، حصل المدّ العثمانيّ إلى أن حلّ التاسع والعشرين من شهر أيّار الـ1453. ذلك اليوم، دوّن التاريخ سقوط القسطنطينيّة على يد محمّد الفاتح. عمّ الانحطاط شرقنا، ونهض الغرب متألّقًا. انقطع التواصل على مدى خمسة قرون.

في ستّينات القرن العشرين، وبعد خبرة الدمار الذي زرعته الحرب العالميّة الثانية، شُقّ باب الحوار بين بطريرك القسطنطينيّة أثيناغوراس وبابا روما بولس السادس. أفضت اللقاءات إلى رفع الحروم المتبادلة، واستمرّ الحوار في عهدة الخلفين ديمتريوس ويوحنّا بولس الثاني. شكّل سقوط الاتّحاد السوفياتيّ أزمةً جديدةً بسبب العدد الكبير من المرسلين الذين أرسلتهم الكنيسة الكاثوليكيّة إلى الدول التي كانت سابقًا شيوعيّة. عاد التوتّر، وتعثّر الحوار. استعيد في البلمند العام الـ1993، ليتوقّف بعد بالتيمور السنة الـ2000. بعد انتخاب البابا الحاليّ، عادت الكنيستان إلى حوار يُسرع تارةً ويبطئ طورًا، عسى اللَّه يمنّ علينا بشيء من عنده.

تعِبنا، فاستسلمنا لنـزهة في شوارع حلب. تشاركنا طعام العشاء، ثمّ عدنا إلى مكان جمعَتِنا، لنمتّع حواسّنا ببعضِ لحنٍ وبنومٍ صار ملحًّا.

في الساعات التي أعقبت نهوضنا، لم نبتعد كثيرًا في التاريخ، بل ذهبنا إلى روسيا القرن التاسع عشر. هناك، قامت نهضة كبرى على المستويَيْن الفنّيّ والثقافيّ، ولا سيّما في النصف الثاني من القرن. لم ندقّق في أسباب هذه النهضة، لكنّنا لاحظنا أنّ اليقظة الروحيّة هناك سببها ازدهار الرهبنة في الأديار وظاهرة النسّاك المتنقّلين. هذه الأرض الخصبة هيّأت أيضًا لظهور الأكاديميّات الروحيّة في موسكو وبطرسبرج وقازان وكييف، فازدهرت العلوم التاريخيّة بشكل لافت. أسماء كثيرة سمعنا عن حامليها، ألقينا التحيّة على عجل على أليكسي خومياكوف، فلاديمير سولوفيوف، سيرج بولغاكوف، بافيل فلورنسكي، جورج فلوروفسكي، نقولا أفاناسييف، فلاديمير لوسكي، بول إفدوكيموف، ثمّ هربنا من روسيا، لأنّ الثورة البولشيفيّة (1917) اندلعت. نُفي عدد كبير ممّن التقينا بهم إلى خارج روسيا، معظمهم توجّه إلى فرنسا، فأسّّس معهد القدّيس سرجيوس في باريس  السنة الـ1925. ثمّ سمعنا عن أوليفييه كليمان وألكسندر شميمن وجورج خضر وكوستي بندلي. فهمنا أنّ حركتنا الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة، في كثير من التماعها، مدينةٌ لهذا التيّار الفكريّ والروحيّ الذي نشأ في روسيا، وتوسّّع وتعمّق في فرنسا.

عدنا إلى حلب على عجل، فقد طلب الرحيل لقاءنا. عاهدنا معلّمينا المعاصرين أن نعاود زيارتهم، لأنّ تساؤلات كثيرة كانت تدور في عقولنا. وضّبنا أغراضنا، تعانقنا، وخرجنا من مكان اجتماعنا قاصدين الحافلة. الهواء في الخارج محمّل بالغبار، كأنّها عاصفة رمليّة. صعدنا إلى الحافلة غير آبهين لعناء السفر، ومردّدين مع الأخطل الصغير:

نفيتَ عنك العُلا والعلمَ والأدبا

                         وإن خُلقتَ لها، إن لم تزر حلبَ l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search