العدد الثالث - سنة 2023

01 - الافتتاحيّة - القداسة ونحن - نقولا أبو مراد - العدد 3 سنة 2023

مجلة النور العدد الثالث – 2023

 

القداسة، في الكتاب العزيز بعهديه، دعوة إلى كلّ الذين شاؤوا أن يسلكوا في هدي ربّهم وكلمته. نسمـعـها للمرّة الأولى في كتاب اللاويّين: «تكونون لـي قـدّيسـيـن لأنّـي قـدّوس أنـا الربّ، وقد ميّزتكم مـن الشـعـوب لتـكـونـوا لـي» (لاويّين 20: 26). وهي - أي هذه الدعوة - تأتي في سياق رواية الخروج، التي جوهرها انفصال الذين دعاهم الربّ إليه عمّا هو، بحسب الكتاب، باطل الأباطيل في هذا العالم، أي حضارتنا القائمة على القوّة والغنى والترف والظلم والقهر ممثّلةً بمصر الفرعونيّة. والقداسة، في واحدٍ من معانيها، هي هذا الانفصال أو الانعزال عمّا هو نابع من ميول البشر المستكبرة إلى حيث يريدنا اللَّه أن نكون، إلى قفر الوجود، أي إلى التخلّي الكامل عن الذات وما تشتهي في جسديّانتها.

يقول الكتاب «لأنّي أنا قدّوس، وقد ميّزتكم من الشعوب لتكونوا لي»؛ فالقداسة، أي الانعزال إلى اللَّه، هي على صورة القداسة التي للَّه، واللَّه قدّوس لأنّه اعتزل، هو أيضًا، عن تفاهة البشر وانجرافهم إلى الكبرياء والتباهي بالقوّة، فما شاء، كما شاءت آلهة في أساطير الشرق القديم، أن تكون القوّة والحروب والتعالي الحضاريّ، تجسيدًا لها، فاختار القفار، حيث لا إنسان، ليعلن مشيئته بأنّك، إن شئت أن تكون للقدّوس قدّيسًا، تسير مسيرته، فتمضي مع موسى من بيت فرعون إلى ما وراء القفار، وتخلع نعليك من رجليك، وتقف في حضرته وتسمع كلماته المحيية الداعية إيّاك إلى تواضعٍ كبير ومحبّة لا يعلوها شيء، وإلى رجاء بأنّ هذه الدنيا وما فيها سيرثها اللَّه في نهاية المطاف، وسيرثها إلى الأبد.

في هذا السياق نفهم لماذا يستعيد بطرس الرسول، مرارًا في رسالته الأولى، دعوة اللَّه في سفر اللاويّين، فيكتب، «نظير القدّوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضًا قدّيسين في كلّ سيرةٍ» (1 بطرس 1: 14-16). يقول بطرس «قداسة السيرة»، لأنّه يعرف أنّ سيرة المدعوّين، هي على شبه مسيرة الخارجين من مصر، أي انفصال عن جهالات العالم، وارتماء في حضن اللَّه. وفي عباراتٍ عمليّة، هي ترك شهواتنا القائمة في الكبرياء والأنانيّة والاعتداد بالنفس والرذائل والتمييز بين الناس والتعصّب والكراهية، والذهاب نحو أن نعيش المحبّة التي أحبّنا إيّاها اللَّه في أنّه بذل ابنه الوحيد لأجلنا، مثالًا لنا على المحبّة التي لا تعرف حدودًا ولا حتّى الموت.

تلك ليست دعوة إلى قلّة من المسيحيّين، بل دعوة إليهم جميعًا، لأنّ المسيحيّة لا تتحقّق، فعلًا، إلّا بعيش هذه القداسة. وأنت تعيش تحقّقها، لحيظاتٍ، في خروجك من العالم ومضيّك إلى مائدة الربّ في سرّ الشكر، حيث يذيقك اللَّه، وأنت في خضمّ جهالات هذه الدنيا ومن فيها، يذيقك شيئًا من ملء قداسته، لعلّك، إذا عدت إلى عالمك، تفقه ألّا معنى لأيّ شيء فيها، وأنّ الكلّ باطل، فتختار، كما يدعوك الكتاب، أن تعمل عمل اللَّه في المحبّة، فهذا هو الإنسان كلّه، وما عدا هذا فعظام يابسة رميم تمضي إلى الأبد في غيابة النسيان وظلامة الموت.

الأبوان نقولا وحبيب خشّه أكملا المسيرة وتقدّسا بالسيرة. فكان الأوّل شهيد دمٍ لمحبّته للرعيّة. ترك خوفه وذهب إلى الفقراء المنسيّين في أبرشيّة مرسين، المتروكين من رعاتهم، ذهب إليهم ليمسح عن وجوههم كلّ دمعةٍ، فكان أن أغاظ الوحش فجرّحه الوحش إلى الموت. والثاني، ترك الغنى والعيش الرغيد، ومضى في طريق الأب لعلّ شيئًا من شجاعة أبيه يأتيه، فكان أن استشهد أيضًا على أيدي صعاليك الزمان.

الوحش والصعاليك الذين قتلوا نقولا وحبيب هم صورتنا ونحن منغمسون في تفاهاتنا الباطلة. وإنّ المجمع الأنطاكيّ، إذ يقرّ ويعترف بقداسة السيرة لدى الأبوين الجليلين، يضع أمام نفسه وأمامنا، صورةً للقداسة تستحثّه وتستحثّنا إلى أن نترك ما يشدّنا إلى كبريائنا وتعالي ذواتنا، لعلّه ونحن ننطلق إلى محبّةٍ من الربّ تغيّر وجه دنيانا، فتشرق قداسة المتعالي وحده على أرضنا كشمس لا تعرف الغروب.

 

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search