مجلة النور العدد الثالث – 2023
«إلى متى يا ربّ تنساني إلى الانقضاء حتّى متى تصرف وجهك عنّي؟ ...إلى متى يترفّع عدوّي عليّ. انظر واستجب لي يا ربّي وإلهي. أنر عينيّ لئلّا أنام نومة الموت. لئلّا يقول عدوّي إنّي قد قويت عليه» (مزمور12: 1- 4). الربّ يسمح لنا في الصلاة بأن نعاتبه أو بأن نتضرّع إليه بمحبّة وثقة، مثلما سمعنا في المزمور. ونذكر أيضًا التلاميذ في واقعة تخبّط السفينة وسط العاصفة، كيف عاتبوا الربّ بقولهم «أما يهمّك أنّنا نهلك؟!» (مرقس 4: 38). هم كانوا مدركين أنّ مجرّد وجود المسيح في السفينة، يكفي لكي يطمئنّوا لأنّه بحسب لاهوته «لا ينعس ولا ينام» (مزمور120: 4) ولكنّه غاب عن ذهن التلاميذ هذا الإيمان إلى جوار ما أصابهم من الخوف.
في مسار التاريخ البشريّ، شهدت البشريّة العديد من الأحداث والظروف التي تسبّبت في الاضطراب والتحدّيات على مستوى عالميّ. هذه الفترات الصعبة التي تكون فيها المشاكل والأزمات واسعة النطاق تُعرف في بعض الأحيان بـ«الاضطراب العظيم». إنّها فترات تحمل في طيّاتها تحدّيات كبيرة تؤثّر في الأمن والاقتصاد والسياسة والاجتماع والبيئة، وتتطلّب استجابات فوريّة وفعّالة من قبل البشريّة.
تكون هذه الأحداث العظيمة نتيجة عوامل عدّة، مثل الأوبئة الجديدة والتفشّي الواسع للأمراض، الصراعات المسلّحة والحروب العالميّة، الكوارث الطبيعيّة مثل الزلازل والأعاصير والفيضانات، الاضطرابات الاقتصاديّة والأزمات الماليّة الكبيرة، التغيّرات المناخيّة الهائلة وتأثيراتها المتزايدة، وأحيانًا حدوث أحداث طارئة غير متوقّعة.
خلال هذه الفترات، تكون الحكومات والمنظمّات الدوليّة والمجتمع الدوليّ على موعدٍ مع تحدّيات كبرى. تتطلّب الاستجابة لهذه الأوضاع القيادة الحكيمة والتعاون الدوليّ القويّ. تُعدّ الاضطرابات العظيـمـة أيضًا محفّزًا للبحث عن حلول مبتكرة وتطوير تكنولوجيا جديدة للتغلّب على الأزمات والتعامل معها بفاعليّة. وحتّى الكنيسة تتأثّر في هذه الأوقـات ويـلتـجئ إليها المؤمـنـون آمـلـين منها أن تقدّم لهم حلولًا لم تقدّمها الدول رغم أنّها من مسؤوليّتها.
رغم تعقيد هذه الأوضاع، فإنّ البشريّة تثبت دائمًا قدرتها على التكيّف والتغلّب على التحدّيات، وبعد كلّ اضطراب عظيم يأتي التعلّم والتحسّن. وعبر التعاون والتضامن، يمكن تحقيق الاستقرار والتقدّم في وجه أيّ اضطراب عالميّ قادم.
هنا تأتي شهادة الكنيسة الأرثوذكسيّة في العصر الحديث والتي لا تنفكّ تعمل ما بوسعها للتخفيف من آلام شعبها، وذلك في نواحٍ عديدة منها:
الثبات والتمسّك بالتقاليد: تتميّز الكنيسة الأرثوذكسيّة بأنّها حافظت على التقاليد والعقائد اللاهوتيّة. هذا الثبات يمنحها شهادة قويّة على استمراريّة الإيمان الرسوليّ في زمن التحوّلات الكبرى، ما جعل منها ملاذًا للعديد ممّن تاهوا بالنظريّات اللاهوتيّة التي قامت بنشرها والتسويق لها جماعات أظهرت عبر الزمن فشلها في إيصال المؤمنين إلى السلام الحقيقيّ. وفي هذه الأيّام تظهر صورة حيّة للكنيسة في جهادها في بحر هذا العالم، فـإنّها تُـهاجَم بعـواصف شديدة يثيرها الشيطان ضدّها، فيظنّ حتّى التلاميذ أحيانًا أنّهم يهلكون. لكن يتجلّى مسيحها الحيّ ليغدق عليها سلامه. وما أقوله عن الكنيسة إنّما أكرّره بخصوص المؤمن كعضو في الكنيسة المقدّسة الذي ينعم بهذه العضويّة عبر مياه المعموديّة، فيتمتّع بسكنى المسيح فيه، ويصير ملكوتًا سماويًّا وهيكلًا للَّه. هذا لا يعني توقُّف التجارب عن مهاجـمتـه، بـل بالعـكس يـزداد هـجـومها بالأكثر من أجل المسيح الساكن فيه. لكنّها تعجز عن أن تهلكه مادام المؤمن في يد عريسه، في سهر روحيّ ويقظة دائمة.
الدور الاجتماعيّ والإنسانيّ: يتمثّل عمل الكنيسة الأرثوذكسيّة في وقت الأزمات بتقديم الدعم الاجتماعيّ والإنسانيّ للمجتمع. يُعَدُّ الدور الاجتماعيّ الذي تقدّمه الكنيسة في تقديم العون والمساعدة للمحتاجين شهادة للعطاء والرحمة. ومثالًا على ذلك تقديم الدعم للمحتاجين عبر توزيع المساعدات المادّيّة والعينيّة للفقراء واللاجئين. وإقامة المراكز الصحّيّة التي تقدّم الخدمات الطبّيّة والصحّيّة للمجتمعات المحلّيّة.
الإسهام في التعليم والثقافة: تسهم الكنيسة الأرثوذكسيّة في تعزيز التعليم والثقافة في مجتمعاتها، عبر إنشاء المدارس والمراكز الثقافيّة، وفي نقل التراث الروحيّ والثقافيّ للأجيال الجديدة. كما تسهم حركات الشبيبة ومكاتب التعليم الدينيّ والمراكز الرعائيّة في تعميق ثقافة المؤمنين الروحيّة، الأمر الذي يقوّي إيمانهم وثباتهم في زمن الضيق، كيلا يُدانوا على قلّة إيمانهم، ولا يسمعوا صوت ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح موبّخا إيّاهم: «ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان؟» (متّى 8: 26). فهو يريدنا أن نتعلّم أنّ الخوف سببه ليس اقتراب التجارب إنّما ضعف إيماننا.
الدور في الحفاظ على الهويّة الوطنيّ: تؤدّي الكنيسة الأرثوذكسيّة دورًا مهمًّا في الحفاظ على الهويّة الوطنيّة للشعوب التي تعيش فيها. يُعَزِّزُ الدور الوطنيّ للكنيسة الوحدة الوطنيّة والاندماج الإيجابيّ في المجتمع.
التعاون مع الهيئات الإنسانيّة والإغاثيّة: تقوم الكنيسة الأرثوذكسيّة بالتعاون مع منظمّات إنسانيّة وإغاثيّة دوليّة لتقديم المساعدة في المناطق المنكوبة بالكوارث الطبيعيّة أو النزاعات. وهذه المساهمة تُعدّ قيّمة بسبب غياب الدولة عن القيام بواجباتها. ورغم مساهمة الكنيسة والتي غالبًا ما تكون محدودة بالنظر الى الحاجات المتزايدة يومًا بعد يوم، تتعرّض الكنيسة لاتّهامات بالتقصير. لكنّ الربّ يأمر الكلّ، وينتهر كلّ الأشياء، فيلتزم كلّ شيء ويدبّر كلّ الأمور ويهب النفس والجسد سلامًا، ويردّ إلى الكنيسة سلامها ويُعيد إلى العالم الطمأنينة.
الإيمان الشخصيّ والروحيّ: في العصر الحديث، ما زالت الكنيسة الأرثوذكسيّة تُشجِّع الناس على بناء الإيمان الشخصيّ والروحيّ والاستمرار في مسيرتهم مع المسيح. فهي تقوم بتنظيم الأنشطة الروحيّة مثل الخلوات الروحيّة والمؤتمرات والمخيّمات، لتشجيع النموّ الروحيّ لدى المؤمنين في وقت تكون فيه الروح باشتياق إلى لقاء المسيح واهب السلام ومهدّئ النفوس ومُسكِّت عواصف الظلم ومبدّد الغيوم السوداء. أليس هو مَن يأمر البحر فلا يعصاه، ويحدّث الرياح والعواصف فتطيعه؟ الربّ يسوع المسيح لم ينسَ في ليلة آلامه أن يطلب من أجل بطرس قبل أن يواجه المحنة والتجربة في بيت رئيس الكهنة وقال له: «هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكنّي طلبت من أجلك لكيلا يفنى إيمانك» (لوقا 22: 31- 32). كيف صمد الشهداء في عصور الاستشهاد المريرة؟ وكيف تحمَّلوا العذابات التي تفوق عقل البشر؟ إنّها أحداث خارقة للطبيعة. ولكنّها حدثت بالفعل. وخرجت الكنيسة منها قويّة منتصرة مكلّلة بالبهاء، تمامًا مثل عريسها الذي تمجّد بعد أن تألّم.
قدّم ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح، في أبوّته، العلاج الأصيل مُظهرًا أنّ سرّ التعب الحقيقيّ ليست الرياح الخارجيّة والعواصف الظاهرة إنّما رياح النفس غير المستقرّة وأمواجها الداخليّة بسبب عدم إيمانها. وحده هو الذي يهدّئ نفوسنا في الداخل وعندئذ يسكت الخارج. وإذ تلطم الأمواج سفينتنا فلنوقظه قائلين: «يا سيّد نجّنا فإنّنا نهلك» (متّى 8: 25، لوقا 8: 24). هذه النقاط التي قدمناها في هذا المقال تعكس بعض جوانب شهادة الكنيسة الأرثوذكسيّة في العصر الحديث، وتوضح دورها المهمّ وتأثيرها على المجتمع والعالم. فهي تسعى باستمرار، وعلى قدر المستطاع، إلى تطبيق تعاليم الإنجيل التي هي قيم إنسانيّة مثل المحبّة والتسامح والعطف والمغفرة، وتحثّ على العيش وفق مبادئ العدالة والاحترام المتبادل بين البشر. وعلينا أن نتذكّر دائمًا بأنّ بطرس الرسول سار على الماء، طالما كانت عينه مثبتة على المسيح. إذًا المطلوب منا أن نثبّت عيوننا على المسيح بكلّ ثقة فهو ضابط الكلّ فنحيا في سلام على الأرض وننجو. وعلينا ألّا ننظر إلى البحر الهائج أي العالم لئلّا نضطرب ونفقد سلامنا فنغرق.