العدد الثالث - سنة 2023

06 - دراسة كتابيّة – الألم - الأب ميخايل (الدبس) - العدد 3 سنة 2023

مجلة النور العدد الثالث – 2023

 

موقف الإنسان البدائيّ

رافقت ظاهرة الألم الإنسان منذ وجد. اختلفت مواقفه منها فتراوحت بين رافض ومقاوم من جهة ومستسلم وخاضع من جهة أخرى. فرافضها كان مقاومًا لها بعنف من طريق اللجوء إلى ممارسات سحريّة ظنّ فيها قوى مناهضة لتلك التي في ظنّه هي سبب آلامه، حتّى ولو اضطرّ إلى إزالة الألم بمقدار من الألم أقوى من المسبّب، كثقب الجماجم لإخراج الأرواح التي كانت، في ظنّه، تسبّب هذا الألم وغيرها من الطرائق المؤلمة جدًّا. أمّا المستسلم لها فردّها إلى قوى للطبيعة غريبة عنه وغير قادر على تفسيرها. ورأى في هذه القوى مصدر خيرات وراحة من جهة، ومصدر شرور وألم من جهة أخرى. وابتدأ فكره الدينيّ الفطريّ يلصق بهذه القوى المبهمة قوى إلهيّة وسعى إلى استرضائها وإبعاد خطر غضبها عنه.

الموقف الدينيّ البدائيّ.

   مع ظهور الفكر الدينيّ التوحيديّ، لم تنْزع هذه الأفكار من تصوّرات المؤمنين التوحيديّين حتّى يومنا هذا إن في العهد القديم أو في الأقوال والعادات الشعبيّة في أيّامنا. فما نزال نرى عند بعضهم أنّ كلّ ما يجري في الطبيعة والكون صادرٌ عن فعل إلهيّ مباشر لا عن قوانين الكون وأنظمته. أضف إلى ذلك الضرر الذي يرون أنّ اللَّه يرمي به البشر من دون تمييز مسبّبًا لهم الآلام (د.ك. بندلي، فتاتٌ من نور، منشورات النور، ٢٠٠١، ص ٩٧-١٠٠). الفرق بين الفكر الوثنيّ والفكر التوحيديّ البدائيّ، تحديدًا، في هذا المجال، أنّ الفاعل في الفكر الأوّل هو جمعٌ من الآلهة أو قوى مجهولة، أمّا في الفكر الثاني فهو الإله الواحد.

جدّة المسيح والتقليد المقدّس.

   الجديد الحقّ ظهر في كشف العهد الجديد. قلب شخص يسوع الإله - الإنسان كلّ المفاهيم الناقصة والمغلوطة السائدة في زمنه وقبله. به تحوّل اللَّه من إله مؤْلم إلى إله متألّم. لذا سنتأمّل بظاهرة الألم من منظار جديد ينقّي أفعال اللَّه الخلاصيّة من الشوائب التي ألصقتْ بها.

في الفكر المسيحيّ النابع من الكنيسة والتقليد المقدّسيْن، الألم هوى في الإنسان اقتبله اللَّه المنزّه بطبيعته عن الأهواء مع أهواء أخرى عند اتّحاده بطبيعتنا بالتجسّد. واقع الألم عند يسوع يختلف عنه عندنا نحن البشر. هذا الاختلاف ليس نوعيًّا، فطبيعة الأهواء، غير المعابة كما يسمّيها الآباء القدّيسون، هي مطابقة لأهوائنا لكون طبيعته الإنسانيّة مطابقة لطبيعتنا البشريّة ما خلا الأهواء المعابة: الخطيئة.

التباين بين هوى الألم عند يسوع ومثيله عند البشر هو من جهة تقبّله واكتسابه. تقبّل يسوع هذا الهوى واكتسبه طوعًا عبر تجسّد الابن الطوعيّ وهو غريب بطبيعته عنه. أمّا الإنسان، وبحسب الفكر الآبائيّ، فقد زوّد بهذا الهوى بعد سقوطه ليتمكن من التأقلم مع متطلّبات حياته وظروفها بعد التغيير الذي طرأ على طبيعته الإنسانيّة في مرحلة ما بعد السقوط. وسمّى بعض الآباء هذه الأهواء غير المعابة بـ«الأقمطة الجلديّة». وغدت هذه الأهواء ومنها هوى الألم مرافقة لحياة الإنسان لا بل ضرورة من ضرورات استمراريّتها (الجوع – العطش، جنس ما بعد السقوط، الخوف، الغضب، الألم وغيرها).

مصدر الألم والموقف منه.

   يأتي الألم نتيجة أمرين:

١- الألم كمظهر من مظاهر استمرار الحياة: هو ألم قسريّ، إذ ليس للإنسان أن يختار بين الألم وعدمه. هو ظاهرة فيزيولوجيّة ملازمة لعمل الجسد وجهازه العصبيّ. يتأتّى من حركة الجسد الطبيعيّة ويمتدّ تأثيره إلى مجمل الكيان البشريّ نفسًا، فكرًا، عاطفة، خيالًا وحتّى إيمانًا. وقد يصل بالإنسان إلى الموت القسريّ (الأمراض). الإنسان قادر، في مواجهة هذا النوع من الألم، على أن يستثمره إيجابًا للتقرّب من اللَّه والتوبة إليه فيكون له أداة خلاص. هذا يتعلّق بالموقف الذي يتقبّل عبره الإنسان هذا النوع من الألم. هنا تتكشّف أمامه ذخيرته من الصبر والتوبة والمحبّة والتواضع والتي خزّنها خلال حياته في الروح القدس، وحكمته في إدراك محدوديّته وضعفه. على قدر غنى هذه الذخيرة وهذه الحكمة يتحوّل ألمه القسريّ إلى شيء من صليب قسريّ يقوده إلى الخلاص.

٢- الألم كنتيجة سلوك مناقبيّ أو نهج حياتيّ: هو نابعٌ من موقف أخلاقيّ وكيانيّ يتّخذه الإنسان طوعًا ويعكس بواسطته قناعاته الذاتيّة في التعامل مع واقع هذه الحياة ومشاكلها. نحن هنا أمام ألم طوعيّ وله وجهان:

أ- وجه سلبيّ يجسّده الإنسان الذي يحصد الألم من دون أن يسعى إليه، نتيجة استسلامه الكلّيّ لمسبّبات هذا الألم بغية متعة أو كسب آنيّين وهميّين (مخدّرات – كحول – تدخين – قتل – سرقة – اغتصاب) مع علمه المسبق والواعي بما يستتبع ذلك من سجن أو ألم أو ضيق أو حزن وربّما موت. ونسمّي هذا الوجه السلبيّ للألم الطوعيّ «ألمًا طوعيًّا عقيمًا»، لكون إرادة الإنسان نحوه مأسورة لأهوائه المعابة. هذا النوع من الألم يؤدّي إلى الهلاك، إذ إنّ صاحبه هو في موقع أبعد ما يكون عن استثمار ألمه للتوبة. وتبقى أبواب التوبة مشرّعة دومًا في وجه كلّ البشر: توبة اللصّ على الصليب وقول الربّ: «أمّا عند الناس فغير مستطاع أمّا عند اللَّه فكلّ شيء مستطاع» (متّى ١٩، ٢٦).

ب- وجه إيجابيّ يجسّده الذي يحصد الألم، وأيضًا هنا من دون أن يسعى إليه، نتيجة خضوعه الطوعيّ الواعي لإرادة اللَّه ونهجه الخلاصيّ القائم على محبّة اللَّه والإنسان. نسمّي هذا الألم «الألم الطوعيّ الإيجابيّ والخصب» والذي قد يوصل صاحبه إلى الموت الطوعيّ وهذا ما نسمّيه «الاستشهاد» الناجم عن «صليب طوعيّ» يقوده إلى الخلاص.

الإنسان في كلا الوجهين لألمه الطوعيّ يحصد الألم من دون أن يسعى إليه، أي من دون أن يكون غايته. حصاد الألم لا يأتي من رغبة عند الإنسان ولا يريده اللَّه له ولا هو مصدره، بل هو فعل الشرّير وأتباعه في العالم وفعل استجابة الإنسان الحرّ معه.

   لم يسع المسيح يومًا إلى الآلام كغاية، ألم يطلب إلى الآب أن يجنّبه كأس الآلام؟ ولكن، عندما أدرك أنّ لا مفرّ له منه احتمل الألم والموت طوعًا لا كغاية بل كتعبير عن محبّته للآب وللإنسان، كتجسيد لمحبّة بلغت سفك الدم في سبيل من يحبّ وكمعبر إلى فرح القيامة والحرّيّة (لوقا ٢٢، ٤٢). والمؤمن أيضًا لا يتهرّب من الألم إن كان ثمنًا لأمانته لمحبّة اللَّه ونهجه الخلاصيّ، لكنّه لا ينسب الألم إلى اللَّه ولا يشكره عليه بل يشكره لأنّه سانده في تحمّله ليثبت في أمانته له واستثماره لخلاصه وردّ مكائد العدوّ.

خطر المازوشيّة والساديّة.

من يسعى إلى الألم ليس سويًّا ونسمّيه مازوشيًّا وإذا برّر سعيه إلى الألم بإيمانه باللَّه فإلهه ساديّ يستلذّ عذابات البشر ويرضى بألمهم. ومعتقد أنسلموس في القرن الثاني عشر في الغرب المسيحيّ حول «إرضاء العدل الإلهيّ» هو ترجمة لهذه الصورة عن اللَّه. إذ قال إنّ غاية آلام الابن ودافعها هو «إرضاء العدل الإلهيّ» الذي أهين بتعدّي البشر على أوامر اللَّه ومخالفتهم لها. وكذلك محاكم التفتيش ومحارقها وعقيدة المطهر هما ترجمة عملانيّة لهذا الفكر. وقد طالت تأثيرات هذا الفكر بعض الأوساط الأرثوذكسيّة بعد أن تراجعت هذه الأفكار عند عدد لا بأس بهم من اللاهوتيّين الغربيّين.

الألم أم المحبّة؟

   فكرة إرضاء اللَّه بالألم غريبة عن الأرثوذكسيّة. وكذا الحال بالنسبة إلى فكرة الألم كتطهير للذات من الخطايا. في الفكر الكتابيّ الآبائيّ وحدها المحبّة التي لا تطلب لذاتها هي الدافع – إذا صحّ التعبير – للصليب والآلام، فهي تطهّر الإنسان وتمجّد اللَّه معه. لم يكتمل مجد المسيح – الإنسان على الصليب بالألم بحدّ ذاته بل بتجسيد ذروة محبّة المسيح للإنسان على الصليب، «هكذا أحبّ اللَّه العالم حتّى إنّه بذل ابنه الوحيد كيلا يهلك من يؤمن بل تكون له الحياة الأبديّة» (لوقا ٣: ١٦).

الألم قرين المحبّة.

   لم يقلّل الفكر اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ من واقعيّة الألم. فاللَّه ذاق الألم بالجسد. الأنبياء والشهداء والمعترفون والنسّاك ذاقوه وربّما بعضهم أكثر من المسيح (عبرانيّين ١١، ٣٥- ٣٨)، الرسول بطرس صلب رأسًا على عقب وغيره كثيرون في الماضي والحاضر فاقت عذاباتهم آلام الصليب. الكتاب يخبرنا أنّ آلام يسوع لم تدم طويلًا إذ مات سريعًا قبل اللّصين ولم تكْسرْ ساقاه (يوحنّا ١٩، ٣٢- ٣٣ و١٥، ٤٤). كلّ هؤلاء لم يسعوا إلى الألم غايةً في حياتهم، توقّعوه لأنّهم ساروا على خطى سيّدهم (يوحنّا ١٥، ٢٠). تجاه هذه المسيرة البطوليّة تكشّف للشيطان ضعفه تجاه قوّة المحبّة التي لا تسقط أبدًا (١كورنثوس ١٣: ٨ و١٣)، فكان هو وأزلامه، وليس اللَّه، سبب الألم والموت الاستشهاديّ لهؤلاء الأبرار الأبطال.

خاتمة

نهاية القول، الألم لا مفرّ منه هو قرين المحبّة. من يهرب من الألم يهرب من المحبّة. هذه حال المحبّين في معارج التاريخ البشريّ، هذه حال إله البشريّة. ألم المحبّة يؤول إلى فرح لا ينتّزع لأنّه نابع من إله المحبّة «الدائم الوجود والثابت الوجود». «أنتم تحزنون الآن ولكنّي سأعود فأراكم فتفرح قلوبكم وما من أحد يسلبكم هذا الفرح» (يوحنّا ١٦، ٢٢). خيارنا بين اثنين: ألم المحبّة الذي يقود إلى فرح لا يزول أو لذّة التملّك التي تقود إلى اللاشبع والألم العقيم.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search