العدد الرابع - سنة 2022

03 - خاطرة - لنتبع إذًا أين يسير النجم الأسقف تيودور (الغندور) - العدد 4 سنة 2022

تعيــّد الكنيسة المقدّسة وتحتفل بحدث محبّة اللَّه للبشر التي لا توصف، بحيث إنّه تجسّد لأجل خلاصنا. افتقد اللَّه جبلته، رأى عذاب الإنسان من الشيطان والخطيئة، وأشفق عليه ليس كما في القديم بالأنبياء، بل بالابن الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره (عبرانيّين 1 :1-2)، بابنه الوحيد الذي «كان قبل الدهور» (يوحنّا: 1- 18) الذي هو مساوٍ للآب في الأزليّة (فيليبّي 6 :2).  أرسل اللَّه إلى العالم «مولودًا من امرأة مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبنّي» (غلاطية 5:4). تجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء الفائقة القداسة، والدة الاله الدائمة البتوليّة، التي اقتبلت البشرى الملائكيّة من فم رئيس الملائكة جبرائيل في الناصرة (لوقا 38: 1). في هذه الولادة بغير فساد، وبظهور اللَّه بالجسد على الأرض وامتزاجه بالبشر، دعا اللَّه شهودًا «مجوسًا حكماء من المشرق» (متّى 2: 1- 2) عبدة النجوم سابقًا والذين اقتادهم الآن نجمٌ ليسجدوا لشمس العدل. وكذلك دعا أناسًا بسطاء «رعاة ساهرين على رعيّتهم» (لوقا 8:2)، دعا هؤلاء بواسطة الملائكة وقد ملأوا السماء بالتسابيح الشجيّة «المجد للَّه في العلى، وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة»، (لوقا 14 :2).

تجسّد إلهنا «كرئيس للسلام»، ليصالحنا لنفسه بيسوع المسيح (2كورنثوس 18: 5).  تجسّد لينقل البشريّة من الظلام والجهل وعبادة الأوثان إلى نور المعرفة الحقيقيّة والعبادة بالروح. ولذا جاء المجوس من أمم المشرق. لهم ملكهم، ولكنّهم يبحثون عن ملك غريب عن أمّتهم، هو ملك اليهود ليقدّموا هداياهم له قائلين: «أين هو المولود ملك اليهود» (متّى 2: 2). ومع هداياهم قدّموا فروض الطاعة والولاء بالسجود له. ولم ينتهِ أمر ملوكيّة يسوع إذ إنّ يسوع ذاته أعلنها حينما دخل أورشليم منتصرًا راكبًا على جحش ابن أتان، وكانت جموع اليهود تهتف مبارك الآتي باسم الربّ. ولكنّ ولادة المسيح أثارت غيرة هيرودس بخاصّة أنّه كان يشكّ في أنّ من بين أولاده من يريد أن يغتصب عرشه فقتلهم، ومن ناحية أخرى فميلاد ملك يهوديّ ومن اليهود يعني تحدّيًا لملوكيّته كملك دخيل فأمر بقتل أطفال بيت لحم غير آبه بالمأساة التي حدثت، فقط حفاظًا على ملكه. وفي دخول المسيح إلى أورشليم دبّت روح الانتقام والحقد والغيرة في قلب رئيس الكهنة ومجلس السنهدرين، أعلى سلطة يهوديّة، لأنّ يسوع سبق وقلب موائد الصيارفة والباعة في الهيكل التي هي مصدر رزق لهم فدبّروا تُهمًا واشتكوه وقبضوا عليه وسلّموه إلى الوالي الرومانيّ مبتكرين اتّهامات ملفّقة عدّة ليُحكم عليه بالموت ويتخلّصوا منه. تجسّد إلهنا «كرئيس للسلام» وانظروا كيف لاقاه البشر بالكراهية والعدائيّة والانتقام! الأمر ذاته الذي عانته وتعانيه البشريّة على الدوام، هذا الصراع المستمرّ على السلطة والجاه والهروب من الحقيقة والالتصاق بشتّى أنواع التضليل والخداع. 

المفارقة كانت بظهور نجمه إذ لم يقتصر على كونة ملكًا لليهود، بل بات ملكًا على الأمم. ويبدو أنّ المجوس لم يتوقّفوا عند التهنئة بولادة ملك، بل أيضًا سجدوا له وهذا دليل على العبادة. إذًا فالمسيح جاء إلى خاصّته ولم تقبله بل طالبت بصلبه. وهو سبق فوعد أنّ كل الذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء اللَّه، فقد دخل الأمم إلى الحظيرة الإلهيّة بسجودهم للمولود في بيت لحم. ونحن نثق تمامًا بأنّ الربّ لا يترك نفسه بلا شاهد. ومن طريق شغف هؤلاء المنجمّين ألهمهم مستخدمًا طريق هذه المعرفة بميلاده وأصبحت عندهم مؤكّدة، ليتحمّلوا مشقّة الطريق وليروا هذا المولود الملكيّ الإلهيّ. تبارك اللَّه فإنّه بالكوكب جذب المجوس متنازلًا مع ضعفهم. الكوكب الذي غاب واختفى لدى وصولهم إلى حيث شمس البرّ. واصطادهم بما كانوا معتادين وتكلّم معهم بواسطة الملاك بعد ذلك ورسّخ إيمانهم، وهكذا فعل عندما اصطاد الرسل بصيد السمك. ويتّضح لنا هنا أنّ كثيرين عندهم المعرفة الدينيّة، ولكن قلوبهم خلت من الروح. وهذا يظهر في أنّ المجوس قالوا عن المولود إنّه الملك، ولكن هيرودس من حسده لم يسمّه ملكًا ولم يحتمل أن يدعوه باسمه، بل دعاه بالصبيّ. فكان نجم بيت لحم رمزًا للمسيح «كوكب الصبح المنير» (رؤيا 22: 16) الذي فرح المجوس برؤياه وحزن هيرودس لمولده.

من الواضح أنّ سجود المجوس للطفل كان أسمى من السجود الذي يُقدّم عادة للملوك، فإنّهم لم يقدّموا مثل هذا السجود لهيرودس الملك في أورشليم، مع أنّ مكانته الملكيّة كانت عظيمة جدًّا فهو يسكن في قصر بالمقابلة مع حال مريم ويوسف الذي كان نجّارًا فقيرًا. كما أنّهم لم يرتابوا قطّ مع أنّهم شاهدوا فتورًا وعدم اهتمام من رؤساء الكهنة الذين يخدمون بيت الربّ. ليسوا هم فقط من سجد للمسيح، فالمولود أعمى لـمّا دعاه إلى الإيمان به كابن اللَّه قال «أؤمن يا سيّد وسجد له» (يوحنّا 9: 38). ولـمّا مشى على الماء، وجعل تلميذه بطرس يمشي معه، حدث أنّ «الذين في السفينة جاؤوا وسجدوا له قائلين: بالحقيقة أنت ابن اللَّه» (متّى14: 33). كما سجد له بطرس، بعد معجزة صيد السمك الكثير قائلًا له «اخرج من سفينتي يا ربّ لأنّي رجل خاطئ» (لوقا 5: 8). وسجدت له نازفة الدم بعد شفائها (مرقس5: 33). وسجد له يايروس قائلًا «ابنتي الصغيرة على آخر نسمة. ليتك تأتي وتضع يدك عليها لتُشفى فتحيا» (مرقس 5: 22- 23)  وسجدت له المريمتان بعد القيامة (متّى 28: 9). وسجد له الأحد عشر رسولًا لـمّا رأوه بعد القيامة (متّى 28: 17). وهذا السجود هو سجود مصحوب بإيمان هؤلاء جميعهم وغيرهم بأنّه المسيح مخلّص العالم. أضاء لاهوته عليهم وجعلهم يسجدون له بالقلب لا بالجسد فقط. فالرؤية أثّرت فيهم وجذبتهم إلى التوبة، والمعرفة زادتهم فرحًا.

فلنتمثّل بالمجوس الذين كان فرحهم برؤية النجم ورؤية الطفل عظيمًا، وهم تبعوا نجمًا مرشدًا لهم ليصلوا في رحلتهم إلى المسيح المخلّص، فلنتبع نحن أيضًا مرشدينا الروحيّين في رحلة حياتنا لنصل إلى خلاص نفوسنا. وفي هذا الوقت بالذات، كنيستنا المقدّسة تدعونا وتحثّنا على أن نفكر في أعمالنا وأفكارنا وانفعالاتنا، آخذين بالاعتبار تعاليم القدّيس بولس الذي يقول: «أيّها الإخوة أنا لستُ أحسبُ نفسي أنّي قد أدركت، ولكنّي أفعل أمرًا واحدًا إذ إنّي أنسى ما هو ورائي وامتدّ إلى ما هو قدّام، فأسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة اللَّه العليا في المسيح يسوع» (فيليبّي 3: 13- 14). لطالما زيّنت الكنيسة أخلاق البشر، وهي مدعوّة لتتابع خدمة الإنسان في أقاصي المسكونة مؤمنة بالحقيقة المعطاة لها. ورغم الصعاب التي تطاول الجميع بمن فيهم الكنيسة فهي تشترك فاعلة وبلا ضجّة كمؤسّسها في الحياة الإنسانيّة. وتستمع بعناية واهتمام كبيرين إلى صراخ الإنسان الصادر عن قلقه، وخوفه، وحاجته، وألمه. وتتألّم مع المتألّم وتقف إلى جانبه كأمّ حنون. وتثابر على عملها التقديسيّ عبر الأسرار المؤتمنة على إتمامها، ودورها التوفيقيّ بين الامم المتصارعة والأفرقاء المتناحرة،  وأيضا عملها الاجتماعيّ للمحتاجين الذين هم ضحايا الطمع والفساد الاقتصاديّ والماليّ. وترفع صوت الاحتجاج في وجه الاستغلال المتنوّع الأوجه. هلّموا بنا لنرى أين وُلد المسيح ولنتبع إذًا أين يسير النجم بإيمان وثبات راجين خلاص نفوسنا دائمًا وأبدًا.

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search