العدد الثاني - سنة 2022

06 - ليتورجيا - أربعينيّة الفصح - الأب سمعان (أبو حيدر) - العدد 2 سنة 2022

مثّل عيد الفصح، منذ فجر التاريخ المسيحيّ، الحدث الأهمّ في التقويم الليتورجيّ الكنسيّ. هو يختتم في آن، موسم الصوم الكبير، ويفتتح «الخمسينيّة المقدّسة» التي تتوّج بحلول الروح القدس في العنصرة. يسبغ عيد قيامة الربّ هيكليّة على السنة الليتورجيّة كلّها، ويحتلّ المكانة الجامعة في التقويم، ويتربّع على ذروة لاهوت الخلاص. يشير الرسول بولس إلى تلك المكانة بتأكيده «إن لم يكن المسيح قد قام، فباطلٌ إيمانكم. أنتم بعد في خطاياكم!» (١كورنثوس ١٥: ١٧). يتعلّق كلّ شيء في السنة الليتورجيّة بعيد الفصح لأنّ كلّ شيء في الكنيسة يعتمد على قيامة الربّ.

ما معنى قيامة المسيح

في التاريخ البشريّ؟

في الحقيقة، تدشّن قيامة المسيح مرحلة جديدة تمامًا ومحدّدة من التاريخ. هي تُدخل على التجربة الإنسانية، وللمرّة الأولى، أساسًا متساميًا للرجاء مؤثّرًا بالكلّيّة. قيامة المسيح، هي «الجِدّة» بالمطلق، هي (الأمر الجديد) في التاريخ.

تبرير اللَّه ليسوع الناصريّ في التاريخ، عبر كرازة الرسل، يطرح أطروحة جديدة تمامًا في ما يتعلّق بمصير الإنسان. بالنسبة إلى كلّ من أخضعوا أنفسهم لسلطان الإنجيل، ما عاد ممكنًا للتاريخ أن يستمرّ كمجرّد تواتر «مُعتاد»، لأنّ قيامة المسيح أعطت التاريخ أمرًا لم يعهده من قبل. أسبغت عليه هدفًا يفوق الطبيعة، ومغزًى موجِّهًا له.

منذ ذلك الفصح المسيحيّ الأوّل، فعلت قيامة المسيح كالخميرة في عجينة المشروع البشريّ، وأعادت تشكيل هذا التاريخ عبر «عجنه» بفعاليّة نحو شكله النهائيّ. صار أولئك الذين «يعترفون بأفواههم بالربّ يسوع، ويؤمنون بقلوبهم بأن اللَّه أقامه من الأموات» (رومية ١٠: ٩)، يقفون حرفيًّا «على حافّة التاريخ».

لهذا السبب، تدشّن الكنيسة الاحتفال بالفصح باستعمال الكتاب «الأوّل في التاريخ المسيحيّ»، أي سفر أعمال الرسل. تحلّ قراءات أعمال الرسل أثناء موسم الفصح محلّ القراءة العاديّة لرسائل العهد الجديد في القدّاس الالهيّ. يسجّل سفر أعمال الرسل أوّل ثلاثين عامًا وأكثر من «تاريخ البشريّة الجديد»، تاريخ الكنيسة. نبدأ بقراءته في السياق الليتورجيّ للقيامة، لأنّه يعلن هذه «الجِدّة» للعالم.

طوال تاريخ الكنيسة، كانت قيامة المسيح هي المصدر الخالد للقوّة والتجديد. هذا خلّص الكنيسة من أعتى أعدائها وسوف ينجّيها دائمًا. هكذا، يصير كلّ التاريخ المسيحيّ إعلانًا للقيامة وامتدادًا لها. يعيش المسيحيّون على بركات السرّ الفصحيّ ويزدهرون عليه كمصدر لا ينضب من الفرح والقوّة والمثابرة والغلبة في مواجهة القوى الشيطانيّة المعادية الثائرة ضدّهم.

ما معنى بقاء الربّ معنا أربعين يومًا

بعد قيامته؟

في أثناء بقائه مدّة أربعين يومًا بعد قيامته، يتصرّف يسوع، بشكل مختلف تمامًا عمّا كان عليه من قبل. يؤكّد لوقا أنّ الربّ، في أثناء هذه الفترة، أظهر نفسه «حيًّا ببراهين كثيرة…، وهو يظهر لهم أربعين يومًا» (أعمال الرسل ١: ٣). بدا الربّ، في أثناء هذه الفترة، كأنّه كان جزئيًّا على الأرض. كان يظهر في مكان، ثمّ يظهر في مكان آخر، من دون أن يبدو أنّه انتقل من مكان إلى آخر. كان يحضر إلى مشهد من دون سابق إنذار، ويدخل بشكل غريب و«الأبواب مغلقة»، ثمّ يعتني بإثبات حقيقة لحمه وعظامه. ثمّ يغادر بشكل مفاجئ من دون أن نعرف كيف. لو صحّ التعبير، كان سلوك يسوع، في أثناء هذه الفترة، غريبًا وغير متوقّع وغير متوافق بالتأكيد مع التوقّعات العاديّة.

على غرار العبور «مكانيًّا» من باب العلّيّة المُغلق، يبدو أنّ الربّ، كان أيضًا يقوم باختراقات متكرّرة «عبر الزمان» من دون أن يمزّقه في الواقع. تشير قراءات ما بعد القيامة المختلفة، والتي يصعب التوفيق في ما بينها كأجزاء من «تاريخ متسلسل»، إلى أنّ نمط «الوجود الجديد» ليسوع لا يعكس ما نفكّر فيه بالعادة عن «التسلسل». غدا الأمر، كما لو أنّ حياته، تحرّرت من قيود الزمان والمكان. نؤمن نحن بأنّ هذه هي الحقيقة.

غياب يسوع الناهض من بين الأموات الذي لا يمكن التنبّؤ به، وحضوره المفاجئ طوال هذه الفترة، يعكسان الانطباع بأنّه كان يتوزّع «جزئيًّا» بين الأبديّة وحدود الزمان، نصفه في السماوات ونصفه بين البشر. يبدو الأمر، كما لو أنّه متردّد في التغيّب الجسديّ عن التاريخ. نؤمن أيضًا بأن هذه هي الحقيقة.

كان الربّ في الواقع، يطيل إقامته على هذه الأرض حتّى تتشدّد الكنيسة أكثر. لمدّة أربعين يومًا، كان يشدّد في المؤمنين الإحساس بأنّه رحل ولكنّه باق معهم. بوسائل مختلفة، كان يعرّفهم إلى «نمط جديد» من طريقة حضوره بينهم.

في أثناء هذه الفترة، يبدو أنّه كان مرارًا وتكرارًا «يتكلّم على الأمور المختصّة بملكوت اللَّه» (أعمال الرسل ١: ٣). بالتأكيد في أثناء أيّامه الأولى على الأرض، كان يسوع يتحدّث عن هذا الموضوع بالذات مرّات عديدة، لكنّ تعاليم الملكوت صارت الآن مفصّلة بحسب حالة المعلّم الجديدة ومتلوّنة بها. بمعنى ما، انكشف الملكوت جديدًا الآن، أي صار اختباره مختلفًا، حيث إنّ الربّ القائم من بين الأموات أعطى كنيسته نمطًا جديدًا لحضوره معها.

حلوة حقًّا هي هذه الأربعين يومًا، وفريدة من نوعها، وتتجاوز أيّ فترة من تاريخ العالم. مات يسوع الناصريّ ونزل إلى الجحيم ووطئ الموت بخروجه من القبر، لكنّه لم يترك التاريخ بعد. هو يطيل إقامته بين من يحبّونه. لا تمثّل هذه الأيّام رقّة ومحبّة فقط لكنّها مثيرة أيضًا.

في الواقع، هناك أمر ما، في أثناء هذه الفترة، قد يجرؤ المرء على وصفه بـ«المرِح». أليس من أمر أكثر مرحًا، على سبيل المثال، من ظهور الربّ «الخفيّ» لمريم المجدليّة، قبل أن يكشف لها عن نفسه بكلمة واحدة؟ أيضًا، في ظهوره كغريب، ومسيره لمسافة أحد عشر كيلومترًا مع تلميذي عمواس، مُستخدمًا صيغة الشخص الغائب لاستجوابهما حول موته، وكيف «ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسّر لهما الأمور المختصّة به في جميع الكتب»، «ثمّ اختفى عنهما» في اللحظة حين «انفتحت أعينهما وعرفاه» عند كسر الخبز.

لو بحثنا عن مصطلح لوصف مثل هذا السلوك، قد تتبادر إلى الذهن عبارة لعبة الـ«غميّضة»! أليس مُحبّبًا أن يلعب مع أصدقائه؟! هناك لمسة رقيقة من المرح في كلّ هذا، احتفال هادئ حميميّ بين هؤلاء المقرّبين من الظافر على الخطيئة والموت.

هكذا، كان هناك عنصران من «الجذل والإثارة» في دعوة الربّ إلى توما المشكِّك لمعاينة جروح الآلام. وقد نصفها بالـ«تهكُّم»، الطريقة، التي ألحّ بها الربّ على سمعان بطرس ثلاث مرّات على ضفاف البحيرة: «أتُحبّني»؟

علامَ تركيز الربّ في أثناء هذه الفترة؟

يضع الربّ «اللمسات» الأخيرة على كنيسته. لمسُنا هو بالضبط ما يفعله، هو يستخدم هذه الفترة القصيرة لـ«طبع» هذا التأثير الفوريّ والنهائيّ في ذاكرة شعبه وخيالهم. نعم، «اللمس» هو المصطلح الأدقّ.

في الواقع، عندما بدأت الكرازة بالإنجيل بعد ذلك بوقت قصير، تشكّلت تلك الكرازة عبر أحداث تلك الأربعين يومًا، «فيسوع هذا أقامه اللَّه، ونحن جميعًا شهود لذلك» (أعمال الرسل ٢: ٣٢). وعندما كُتبت الأناجيل بعد عقود، هي سُطّرت على ضوء دافئ سُلّط بهدوء على الكنيسة أثناء هذه الفترة الوجيزة. لن تتمكّن الكنيسة أبدًا من النظر إلى حياة يسوع إلّا عبر عدسة خبرة «ما بعد القيامة». في الواقع، ستكون حتّى المحاولة ذاتها وقاحة، كتحليل فيزياء «طبيعة القبلة» مثلًا. (لهذا السبب، للمناسبة، يكمن الإحباط الجذريّ في المحاولات اللاحقة للعثور على «يسوع التاريخيّ». تتفاعل الكنيسة بحقّ ضدّ مثل هذه الجهود. كانت تلك الأربعين يومًا مكوّنًا أساسيًّا، وحتّى جزءًا محدّدًا، لهذا التاريخ)!

آخر عمل للربّ على الأرض كان أنّه «رفع يديه بالبركة». وفيما هو صاعد إلى السماء، نعود توًّا، نحن المؤمنين، إلى تلك العلّيّة من أجل خلوة صلاة، لنستوعب في قلوبنا هذا السرّ الأخير الذي كُشف لنا بلطف ولباقة.

إلى متى يستمرّ الانتظار؟

لا فكرة لدينا. الـ«متى» ليست من اختصاص الكنيسة. «ليس لنا أن نعرف الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه» (أعمال الرسل ١: ٧). الاهتمامات بشأن «برنامج» اللَّه هي مصدر إلهاءات كبير مفتوح على خيبات رهيبة.

قد يكون هذا هو الدرس الأكثر أهمّيّة الذي نتعلّمه عبر هذه الأربعين يومًا من مكوث الربّ السِرّيّ معنا. سوف يقوم هو بما سوف يقوم به، وسوف يختار هو مكان القيام بذلك وزمانه. حتّى نهاية العالم، وفق الصفحة الأولى من العهد الجديد، تبقى مهمّتنا هي ببساطة أن «نعبد اللَّه الحيّ الحقيقيّ، وننتظر ابنه من السماء، الذي أقامه من الأموات، يسوع، الذي ينقذنا من الغضب الآتي» (١تسالونيكي ١: ٩-١٠)

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search